الملمح الثامن؛ تغير بعض المفاهيم المستقرة فى العلاقات الدولية:
على مدى سنوات القرن العشرين تحولت عدة مفاهيم كانت مستقرة ومتفقا عليها فى العلاقات الدولية، مثل مفهومى «السيادة» و«عدم التدخل». فالمفهومان الأخيران مرتبطان بظهور الدولة القومية والتى كان من المتفق أنها دول ذات سيادة لا تقبل ولا يجوز التدخل فى شئونها الداخلية من قبل غيرها من الدول أو غيرهم من الفاعلين السياسيين فى العلاقات الدولية.
بيد أن هذه المبادئ تغيرت سريعا فى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية سواء بسبب طبيعة التحالفات التى تشكلت فى مرحلة الحرب الباردة، وفرض الأمر الواقع تدخل الدول الأكبر فى المعسكرين الشرقى والغربى فى شئون الدول الأصغر قوة أو حجما، أو سواء بسبب فرض الولايات المتحدة لواقع جديد بشكل منفرد بعد انهيار الاتحاد السوفيتى خوّل لها الحق فى هذا التدخل تحت دعوى الدفاع عن النفس أو محاربة الإرهاب أو نشر الديموقراطية وحقوق الإنسان، أو بسبب توسع حجم وأعمال المنظمات الدولية والإقليمية والفاعلين من غير الدول كالشركات الكبرى ووسائل الإعلام الدولية!
هيمنة الولايات المتحدة على مرحلة ما بعد الحرب الباردة لا يتوقع أن تستمر كثيرا على الأقل بشكل منفرد
الملمح التاسع؛ تصاعد دور الإرهاب الدولى:
لعل العنوان الأنسب للعقدين الأخيرين من القرن العشرين، فضلا عن العقدين الأولين من القرن الحادى والعشرين هو عنوان «الإرهاب الدولى»، حيث فرضت المنظمات الإرهابية نفسها على أجندة العلاقات الدولية، وأصبح الكثير من سلوكيات الدول والمنظمات الدولية والإقليمية مرتبطاً بمجابهة هذه الجماعات! ورغم أن تعريفا مستقرا للإرهاب لم يحدث أبدا إجماع عليه وسط اتهامات متبادلة حول تسييس المفهوم، إلا أن العلاقات الدولية وحتى اللحظة ما زالت تتعلق بمحاربة الإرهاب دوليا وإقليميا، والمثير للنظر حقا أنه رغم كل الحروب التى تم خوضها ضد الإرهاب، ورغم كل الأموال والموارد التى تم إنفاقها على هذه الحروب، فما زال الإرهاب يضرب وبقوة فى الكثير من دول العالم!
الملمح العاشر؛ العولمة:
أخذت العلاقات الدولية منذ انهيار الاتحاد السوفيتى تتطور وفقا لقواعد كالعولمة سواء بمعنى ادعاء التوصل إلى مبادئ متفق عليها بين جميع الشعوب والثقافات مثل الديموقراطية، أو حقوق الإنسان، أو النظام الرأسمالى، أو بمعنى فرض هذه القيم بمفاهيمها الغربية باعتبارها مفاهيم ملزمة للدول والأنظمة الحاكمة، أو بمعنى ادعاء زوال الحدود بين الدول بسبب التطورات التكنولوجية ومن ثم حرية أكبر فى التنقل بين السلع والخدمات والعمال والتقنيين بين دول العالم! ورغم انتشار المفهوم بشكل كبير بين دارسى وباحثى حقل العلاقات الدولية، ورغم أنه أصبح أحد أهم العناوين المؤسسة للعلاقات بين الدول، فإن هذا المفهوم قد فشل فى إقناع الشعوب بحقيقة تواجده، بل ووجدت فيه العديد من الدول فرصة لالتهام مواردها أو التدخل فى شئونها وفقا لقواعد غير عادلة، فبدأنا نرى أخيرا صعودا كبيرا لمبدأ الإقليمية كبديل للعولمة، ولعل الاتحاد الأوروبى هو الدليل الأبرز على ذلك!
الملمح الحادى عشر؛ الولايات المتحدة كقوى عظمى فى السياسة الدولية:
تبدلت مواقع القوة وأصبحت تتزعم العلاقات الدولية بين العديد من الدول! ففى النصف الأول من القرن العشرين كانت السياسة الدولية هى بامتياز سياسة أوروبية، أى إن معظم الأحداث الدولية قد ارتبطت بالعديد من الفاعلين الأوروبيين، حتى لو كان مسرح هذه الأحداث يمتد لما هو أبعد من القارة الأوروبية! فالاستعمار، والحربان العالميتان الأولى والثانية، عبارة عن أحداث بدأت فى أوروبا أو من أوروبا وأثرت على العالم بأثره! لكن تحولت دفة العلاقات الدولية بعد الحرب الثانية لتصبح بمثابة سجال بين الأوروبيتين الشرقية والغربية ثم تدريجيا أصبحت السياسات الدولية تدار من الولايات المتحدة ووفقا لأجندتها الرأسمالية سواء أثناء الحرب الباردة، ولكن بشكل أوضح بعد انتهاء الأخيرة والوصول إلى عصر القطب الأوحد.
هيمنة الولايات المتحدة على مرحلة ما بعد الحرب الباردة لا يتوقع أن تستمر كثيرا على الأقل بشكل منفرد، فالصعود الصينى والمحاولات الروسية، فضلا عن دور الاتحاد الأوروبى فى فرض مجموعة من القواعد الجديدة للعلاقات الدولية، هذا بالإضافة إلى تصاعد أدوار بعض الفاعلين الإقليميين كالهند وتركيا والسعودية والبرازيل سيكون مدشنا لعصر جديد من تعدد الأقطاب والأحلاف بحسب الكثير من خبراء السياسة الدولية، لكن هل يكون هذا التعدد سببا فى استقرار العلاقات الدولية أم سببا فى تدهورها؟
الثورة التكنولوجية بقدر ما دعمت سيطرة دول بعينها على العلاقات الدولية، بقدر أيضا ما سلبت من الدول القومية احتكارها التأثير على هذه العلاقات، فبسبب هذه الثورات التكنولوجية والمعرفية أصبح التأثير على العلاقات الدولية ممتدا للمنظمات من غير الدول، بل ووصل أيضا للأفراد!
الملمح الثانى عشر؛ الثوة التكنولوجية ودورها فى تطور العلاقات الدولية:
كما كانت الثورتان الزراعية ومن بعدها الصناعية سببا فى تحول دفة علاقات القوة بين الفاعلين السياسيين الدوليين وما ارتبط به ذلك من تحول فى المفاهيم والقواعد المحركة للسياسة الدولية، مثل ظهور الدولة القومية كبديل عن الإمبراطوريات المقدسة، أو ظاهرة التحضر والتمدن وما ارتبط بها من عصر التنظيمات السياسية الحديثة كظهور الأحزاب والنقابات أو ظهور مفاهيم مثل الفردانية، العقلانية، الرشادة، التنوير، العلمانية والليبرالية وغيرها، فإن الثورة التكنولوجية والتى بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية وما زالت مستمرة حتى اللحظة، كانت أيضا بمثابة محرك جديد للعلاقات الدولية!
فالدول التى امتلكت ناصية الإنتاج التكنولوجى كالولايات المتحدة وكندا والصين وروسيا واليابان وكوريا، فضلا عن دول أوروبا الغربية، امتلكت الأفضلية الدولية بسبب دور هذه التكنولوجيا فى الطفرة الاقتصادية الكبيرة التى دفعت عجلة الإنتاج فى هذه الدول من ناحية، وسمحت لها بفائض للتأثير على علاقات غيرها من الدول من ناحية ثانية، وجعلها تطور من أسلحتها وقوتها الناعمة من ناحية ثالثة وهكذا فإن أى دفة تحول محتملة فى العلاقات الدولية خلال العقود القليلة القادمة، فستكون حتما بين الأنظمة السياسية التى تقود هذه الدول!
لكن هنا لا بد أيضا من ملاحظة مهمة وهى أن هذه الثورة التكنولوجية بقدر ما دعمت سيطرة دول بعينها على العلاقات الدولية، بقدر أيضا ما سلبت من الدول القومية احتكارها التأثير على هذه العلاقات، فبسبب هذه الثورات التكنولوجية والمعرفية أصبح التأثير على العلاقات الدولية ممتدا للمنظمات من غير الدول، بل ووصل أيضا للأفراد! فعلى سبيل المثال يمكن ملاحظة كيف أن منصات مثل «فيس بوك» أو «تويتر» أو حتى «انستجرام» أصبحت تتحكم فى الرأى العام العالمى ومن ثم أصبحت تؤثر على قرارات الدول وسياستها! فعصر الإنترنت وما تبعه من ميلاد مارد يدعى «مواقع التواصل» أحدث ثورة معلوماتية جعلت الأفراد (حتى العاديين منهم) قادرين على التأثير على مجرى العلاقات الدولية، ومن ثم لم تعد الدولة وحدها هى المعنية بالقواعد أو القوانين الدولية!
هذا ونكمل هذه السلسلة بمقالة أخيرة عن مستقبل السياسة الدولية فى ظل الملامح الثلاثة الأخيرة!
-الجزء الأول: القرن الـ20.. قرن الإستعمار بثوبيه القديم والجديد
(*) بالتزامن مع “الشروق“