فى صباح اليوم التالى ١٠ يونيو/حزيران جلس بملابس غرفة النوم، بيجامة كستور مقلمة، على مائدة الإفطار.
لم تكن عادته طوال السنوات الماضية أن يتناول وجبة الإفطار معنا.
ربما تصور أنه قد لا تتاح له فرصة مرة أخرى للجلوس مع عائلته.
لم نتحدث فى شىء.
كلمات قليلة ثم يعود الصمت.
الصوت الوحيد المسموع هدير مئات الآلاف، التى حاصرت البيت منذ إعلان قرار التنحى.
لم يتحرك من مكانه، ولا حاول مرة واحدة أن يُلقى نظرة على الجموع المحتشدة، كان يشعر بأنه خذلهم، وكان شعوره عميقا بالمسئولية.
وقفت فى شرفة حجرتى أتابع المشهد المهيب فى الشوارع المحيطة.
قلت: بابا الناس عاوزاك.
قال بلهجة أدرك معناها، ويدرك معناها كل من تعامل معه عندما يحزم أمره على شىء: مالكش دعوة».
«قطعت أمى صمت المائدة بعبارة ما زالت تدوى فى وجدانى.
تحدثت باسم أولادها ــ باسم العشرة الطويلة ــ باسم الحب الكبير للرجل والإنسان الذى لم يعد رئيسا، ولا يدرى أحد أى مصير ينتظره هذا المساء: إحنا معاك على الحلوة والمرة.
لم يعلق ولم يجرؤ أحد من أشقائى على التعليق».
خالد عبدالناصر: «قبل الرحيل بأسابيع قليلة خطر لأمى أن تسأله: «خالد حيتخرج السنة الجاية، وأنا عارفة إنك حتبعته للجبهة الأمامية». قال أبى: أيوه يا تحية. كان تقديره أن الواجب الوطنى يقتضيه أن يدفع بابنه لخطوط القتال الأمامية، وفى أول نقطة مواجهة مع إسرائيل. فماذا يقول الناس إذا دفع بأولادهم لخطوط القتال الأمامية، وأعفى ابنه من ضريبة الدم
«عندما خرجت الجماهير بالملايين فى شوارع القاهرة تطالبه بالبقاء وتعرض المقاومة سأل محمد حسنين هيكل مستغربا وحائرا: ليه؟
كان يتصور أن الناس سوف تخرج لتنصب له المشانق فى ميدان التحرير، فإذا بها تهتف باسمه فى شوارع القاهرة، والمشاعر كانت على النحو نفسه فى كل مدينة وقرية مصرية وكل بيت عربى.
تدافعت الأحداث بسرعة، ولم يعد أمام الرئيس خيار، فأمر الشعب لا يرد ــ كما قال فى خطاب العودة الذى ألقاه أنور السادات فى مجلس الشعب».
«ذات يوم من عام ١٩٧٠ كنا على مائدة غداء.
لسبب ما قلت: مضت ثلاث سنوات.
كنت أتحدث فى موضوع شخصى.
التفت تجاهى، قال كأنه يحادث نفسه: ثلاث سنوات.
كانت هذه السنوات قد مضت على النكسة.
لم ينس أبدا جرحه النازف».
«تعودت أن أنظر فى عينيه صباح كل يوم.
لو وجدتها حمراء أعرف على الفور أن الليلة الماضية شهدت عملية عبور فى حرب الاستنزاف.
لم يكن ينم حتى يطمئن على عودة مقاتلينا سالمين».
«كنا نشاهد مع شقيقى الأصغر عبدالحكيم فيلم كارتون.
مر علينا وجلس معنا.
بدا على ملامحه القلق كأنه ينتظر خبرا خطيرا.
فجأة دخل أحد أفراد قوة الحراسة.
مال عليه هامسا.
قام متوجها لمكتبه.
بعد قليل عاد إلينا والبشر يملأ وجهه للمرة الأولى منذ النكسة: دمرنا إيلات».
«قال لى ذات مرة أثناء سنوات الاستنزاف: تصور أن الذين يجتازون الكشف الطبى فى الكليات العسكرية ٤٪ فقط. ده من مواريث الاستعمار والطبقية والفقر الطويل. اهتممنا بالتعليم والصحة وتوفير الاحتياجات الأساسية. ما زلنا فى حاجة إلى جهود أوسع».
«بقميص أزرق وبنطلون شارك فى إحدى المناورات العسكرية.
سأل جنديا فى خندق: أنت قاعد هنا ليه؟. قال الجندى: ما أعرفش يا أفندم. قالوا لى اقعد هنا!.
ثار ووبخ بشدة قائد المناورة: إنتوا بتعملوا علىّ تمثيليات. العسكرى كان هنا ليه؟
أصدر أوامره بإنزال عقاب بقائد المناورة، اعتقادا منه أن التدريب الصعب يجعل المعركة سهلة، وأن الهزل لم يعد مسموحا به فى إعادة بناء القوات المسلحة».
«أثناء بناء حائط الصواريخ مات عدد كبير من عمال التراحيل كان دورهم حمل الخرسانة لمواقعها تحت قصف الطائرات التى تغير على مواقع العمل.
كان يؤلمه سقوط مصريين، عمال التراحيل بالذات».
«فى (٩) مارس/آذار (١٩٦٩) استشهد الفريق عبدالمنعم رياض رئيس أركان حرب القوات المسلحة على جبهة القتال الأمامية.
كانت صدمة عبدالناصر باستشهاد رياض صاعقة.
كانت ثقته فى كفاءته العسكرية بلا حدود.
بإرادة المقاتلين ودماء الشهداء تغيرت مصر ونفضت ثياب الهزيمة. وهو المعنى الذى التقطته مئات الألوف التى خرجت تودع رياض فى جنازة مهيبة اخترقت ميدان التحرير.
أصر الرئيس أن يتقدم صفوف الجنازة، وتحدى إجراءات الأمن، أزاح رجال الحراسة، وذاب وسط الجماهير.
الأمن أصابه الهلع يومها.
اقترب أحد ضباط الحراسة منه بصعوبة شديدة: «يا فندم كفاية كده».
نهره عبدالناصر، ومضى فى الجنازة حتى نهايتها، متأثرا بهتاف الشعب: رياض مامتش. والحرب لسه مانتهتش».
«قبل الرحيل بأسابيع قليلة خطر لأمى أن تسأله: «خالد حيتخرج السنة الجاية، وأنا عارفة إنك حتبعته للجبهة الأمامية».
قال أبى: أيوه يا تحية.
كان تقديره أن الواجب الوطنى يقتضيه أن يدفع بابنه لخطوط القتال الأمامية، وفى أول نقطة مواجهة مع إسرائيل. فماذا يقول الناس إذا دفع بأولادهم لخطوط القتال الأمامية، وأعفى ابنه من ضريبة الدم.
أمى كانت تدرك ــ عن يقين ــ أنه سوف يدفع بى لخطوط القتال الأمامية. قالت لى في ما بعد: أنا عارفاه».
كانت تلك بعض أجواء أيام النكسة وحرب الاستنزاف فى بيت منشية البكرى كما رواها لى صديقى الراحل الدكتور «خالد عبدالناصر» ونشرت لأول مرة على صفحات جريدتى «العربى» و«الخليج» منذ نحو عشرين عاما.
أهمية الشهادة فى قدر ما تكشفه من جدية فائقة سادت مصر تصحيحا لأوضاع القوات المسلحة حتى يكون النصر ملك شعب عرض المقاومة فى لحظة الهزيمة.
كانت حرب الثلاث سنوات، التى يطلق عليها «حرب الاستنزاف»، البروفة الحقيقية والكاملة لما جرى فى أكتوبر/تشرين الأول (1973).
تجاهل الاستنزاف تجهيل بأكتوبر.
هذه حقيقة عسكرية وتاريخية لا يصح بأى معيار وطنى وتحت أى ظرف إنكارها أو التشكيك فيها.
(*) بالتزامن مع “الشروق“