منذ 17 تشرين.. والأصابع على الزناد! 

هذا اليوم هو، بالنسبة إلينا، اليوم التاريخي الوحيد في هذا الشهر. أي، نحن الذين افترشنا الساحات لأسابيع طويلة، لا نعترف بيومٍ تاريخي غيره، ولو كره الكارهون. فحبّذا لو يصمت متسوّلو "الانتصارات الصعبة" رحمةً باللبنانيّين. اصمتوا، إذاً، مرّةً لكلّ المرّات.

في الذكرى الثالثة لـ”يوم 17 تشرين”، لا يملك المرء رفاهيّة تجاوز فعل التذكّر. تذكّر دلالات الحاضر والمستقبل. لا دلالات ماضٍ مضى. أو الحنين إليه. كم أكره الحنين! فهل يفعل سوى نكء الذاكرة، وتجميل الأشياء التي لا تُستَعاد، والترحّم على اللحظات المؤسِّسة لأجمل الأزمان؟

لحظة 17 تشرين كانت من بين هذه اللحظات النادرة. إنّها محطّة فريدة من نوعها في الزمن الثوري اللبناني. لقد شكَّلتنا تلك اللحظة كذواتٍ سياسيّة، بما حملته لنا من شجاعةٍ وأملٍ وفعل ولادة. لتعود وتكسرنا، بما رافقها من وحشيّةٍ سلطويّة لامحدودة. وما تلاها من خرابٍ مستدام. وتكديسٍ للكوابيس على صدر هذا الوطن.

يكفي أنّ أفول هذه اللحظة أدخلنا في لولبةٍ خطابيّة، تبدأ ولا تنتهي. لأصنامٍ فجّرت بها الجموع (في ذاك اليوم) تراكمات غضبها الساطع. أعني بها، أهل السلطة والحلّ والعقد في السياسة اللبنانيّة. اجتماعات وبيانات وتصريحات ومفردات وشعارات وفذلكات سقيمة. فالكلمات التي ليس لها أجنحة، تبقى من دون قيمةٍ تُذكَر. بل تخون بدلالتها الواقع. لم يكلّوا أو يملّوا مذّاك، من استعراض قوّتهم ومظلوميّتهم، في آن. ومن محاولة الإثبات للملأ رجحان “ميزان العدل” لصالحهم. لقد وضعوا نجاحهم مقابل فشل الشعب. نجاحهم في الصمود فوق كراسيهم، مقابل فشل الشعب في إسقاطهم عنها. ونجاحهم في فرض حال التأقلم (مع الواقع المستجدّ) بوجوهه القاتلة، مقابل فشلنا في رفض تجرّع مهاناتهم.

صار سياسيّونا يُقنعون ناسهم بأنّ كلّ البؤس الذي يعانون منه ليس إلاّ نتاج 17 تشرين ومشاركتهم في احتجاجاتها. وللتكفير عن هذا الإثم، توجَّب عليهم (ناسهم) المساهمة في إبقاء كلّ شيء على حاله. بمعنى، العمل لاستمراريّة وجودهم في السلطة. أفهموهم، ترهيباً وترغيباً، أنّه لا يمكنهم فعل شيءٍ حيال هذه المسلَّمة. فهذا قدرهم الذي لا مفرّ منه

سنتحلّى بفطنة النعامة إذا ما تخيّلنا بأنّه ليس بمقدور هؤلاء الذهاب أبعد في تلك المهانات! أو التربّص لاحتواء غضبٍ جديد قد ينفجر بهم في كلّ لحظة. لذا تراهم مستعجلين لنقش شاهدة قبر ثورةٍ اغتالوها في المهد. أو هكذا اعتقدوا! وعليه، بعض الأسئلة المُلحّة تطرح نفسها في هذا السياق، من جديد. أسئلة النجاح والفشل. أسئلة البدايات والنهايات. أسئلة النتائج والخلاصات. أسئلة الأساليب والوسائل. وحتّى أسئلة الأهداف والغايات. وفي حضرة الغياب، يبقى السؤال الإشكالي الكبير الذي لا يجرؤ الكثير منّا أن يسأله: هل فشلت الثورة؟

في مثل هذا اليوم قبل ثلاث سنوات، انطلقت الاحتجاجات الشعبيّة العارمة في لبنان. تجمّعت الجماهير في الساحات كردّ فعلٍ على فشل المؤسّسات السياسيّة اللبنانيّة. وعلى حال العقم الذي بلغه النظام بكلّ منظوماته. لطالما شغل “خروج الجماهير” الفلاسفة والمفكّرين، على مرّ العصور. ولطالما فَتَنَهم. فيصفه دوركايم بـ”الغليان الجماعي”. ويعتبره فرويد متنفَّس “اضطراباتٍ تاريخيّة عميقة”. وحتّى في أيّامنا هذه، لا تزال الأنظمة ترتعش من مواجهة الميادين المكتظّة بالغاضبين والمحتجّين. كونها تستحيل سريعاً إلى منتدياتٍ مقدّسة للشعوب.

فهذا ما حصل في عشرات الميادين المنتفضة والثائرة حول العالم. لكن في النهاية، “يحتاج أيّ حشدٍ إلى اتّجاه. وإلاّ سيتناقص حجمه ثمّ يموت”، كما يحلّل صاحب كتاب “الجماهير والسلطة” المفكّر الألماني إلياس كانيتّي. أَلَم نشهد على هذه الواقعة هنا في لبنان؟ بلى. لن أدخل، بالتأكيد، في تشريح أسباب خمود ساحات 17 تشرين. ولا في خبايا التكتيك السلطوي الذي أفرغها، بالتقسيط، من قواها المليونيّة. إنّما سأحاول أن أقرأ معكم قراءة عكسيّة في المخطّط الذي حبكته ونفّذته العصابات الحاكمة، مذّاك، لكي نصل إلى ما وصلنا إليه. أي، إلى الواقع الجحيمي الذي أسّست له (هذه العصابات) عبر قمعها الاحتجاجات وفضّها، بكلّ ما استطاعت إليه سبيلاً.

فعندما نقاطع اليوم بين خيوط المشهديّة السياسيّة، نستطيع أن نفهم ما ارتكبت أيديهم بحقّ 17 تشرين. وأن نلمح الاتفاقات الضمنيّة المعقودة في ما بين “الخصوم”، لكي يتسلّل انغماسيّوهم بأحزمتهم الناسفة، ويفجّروا دعامات الصرح التشريني. فقصّة غرامهم وانتقامهم صارت أتفه من أن تُرْوى. دعونا نعود إلى الوراء قليلاً ونتأمّل! عندما تدفّق القسم الأكبر من اللبنانيّين بزخمٍ هائل إلى الشوارع والمفارق والميادين، حبس أهل السلطة أنفاسهم. وسارعوا للاختباء في جحورهم. تواروا عن الأنظار مثلما يفعل حيوان الخُلْد عندما يشعر بالخطر. يا إلهي..! الآن فقط أنتبه كمْ يشبه حُكّامنا هذا الحيوان الموصوف بـ”الفلّينة الحيّة”. فهو لا يعرف أن يسير، إلاّ في “عنق الزجاجة”. أي، في أنفاقه الضيّقة. وعندما يُحسّ بشيءٍ يقترب منه، يبادر فوراً إلى الهرب. أو النزول تحت الأرض. فهو مُعَدّ، أصلاً، لأن يعيش تحت الأرض. وفي الظلام. تماماً، مثل عصاباتنا إيّاها التي “تُبدِع” في العتمة.

نعم. لقد اهتزّت الأرض تحت أقدام هذه العصابات. وتوجَّس أفرادها جداً من التوافق الذي حدث بين اللبنانيّين. أو بين معظمهم على الأقلّ. تحسّسوا أنّ تحوّلاً قد حصل في الهويّة السياسيّة اللبنانيّة. فمن شرذمة الهويّات (قوميّة، دينيّة، طائفيّة). إلى التوحّد تحت هويّة لبنانيّة واحدة. أمست، بعد 17 تشرين، الأولويّة الأولى. هو تطوّر فجائي، ربّما. أو لنقلْ إنّه تطوّر تدريجي، لكنّه يحصل بسرعةٍ غير متوقَّعة. هذا التلاقي الذي تخطّى كلّ القيادات (السياسيّة الحزبيّة والدينيّة والطائفيّة) بثّ لديهم رعباً حقيقيّاً. الرعب من احتمال أن يتحوّل إلى ثورة عليهم. فلهذا السبب كانوا يصابون بالهستيريا، عند سماع هدير “كلّن يعني كلّن”.

إقرأ على موقع 180  شيرين أبو عاقلة.. "راك كاه" هكذا وحسب

لكن، بعد أسابيع قليلة خرجت وحوش العصر الكاسرة من أتون مخابئها إلى الضوء. وسبق هذا الخروج، تجديد الوصال في ما بينها. فاتّحدت في كتلةٍ واحدة. وطرحت توتّراتها وخلافاتها وحروب النفوذ جانباً. وتفرّغت لاستكمال المهمّة التي نذرت نفسها لها: الإجهاز على الشعب. كيف؟ من خلال بضع خطوات. أوّلها، وجوب الإبقاء على التصحّر السياسي القائم. وثانيها، تفعيل ماكينات نهب البلاد والعباد. وثالثها، قتل الحلم بأيّ تغيير في النظام السياسي وفي مسار السياسات الاقتصاديّة والماليّة. ورابعها، قطع الطريق أمام الطاقات الشعبيّة من الوصول إلى السلطة وإعادة تكوينها من جديد. فامتلاك أيّ شكلٍ من أشكال القوّة، هو موقع خطير. والقلق على خسارته دائم. لذا، باشرت الطغمة الحاكمة بالتسويق للفرضيّة التالية: “الشعب لا يقوى على التغيير. والسلطة هي دائماً الأقوى. لأنّها تستطيع أن تفعل ما تشاء. حينما تشاء. فلا تخشى عاقبة ولا حسيباً أو رقيباً”.

وصار سياسيّونا يُقنعون ناسهم بأنّ كلّ البؤس الذي يعانون منه ليس إلاّ نتاج 17 تشرين ومشاركتهم في احتجاجاتها. وللتكفير عن هذا الإثم، توجَّب عليهم (ناسهم) المساهمة في إبقاء كلّ شيء على حاله. بمعنى، العمل لاستمراريّة وجودهم في السلطة. أفهموهم، ترهيباً وترغيباً، أنّه لا يمكنهم فعل شيءٍ حيال هذه المسلَّمة. فهذا قدرهم الذي لا مفرّ منه. وهذا تكليف ربّاني يُحرَّم التجبُّر عليه! هل تعلمون، يا أصدقاء، أنّ الاعتقاد كان راسخاً في أذهان المصريّين القدماء بأنّ الفرعون هو سليل الآلهة القديمة؟ وأنّه إلهٌ مثلهم؟ ويعبّر عنهم ويأخذ سلطانه وشرعيّته مباشرةً منهم؟ وسواء وافق الشعب أو لم يوافق؟ من هنا، لا وجود، في العقليّة المصريّة القديمة، لأفكارٍ تتعلّق بالتغيير العنيف أو الثورة. فقد كان المصري يحترم حاكمه ويبجّله ويقدّسه. ولا يستطيع مجرّد التفكير في الثورة أو الانقلاب عليه. ماذا فعلوا بعد قمع جموع 17 تشرين؟

لقد اهتزّت الأرض تحت أقدام هذه العصابات. وتوجَّس أفرادها جداً من التوافق الذي حدث بين اللبنانيّين. أو بين معظمهم على الأقلّ. تحسّسوا أنّ تحوّلاً قد حصل في الهويّة السياسيّة اللبنانيّة. فمن شرذمة الهويّات (قوميّة، دينيّة، طائفيّة). إلى التوحّد تحت هويّة لبنانيّة واحدة. أمست، بعد 17 تشرين، الأولويّة الأولى

الطغاة لا يقرؤون، عادةً، ولا يكتبون ولا يفهمون. بل، يتحرّكون بغرائز بدائيّة تُعمي أبصارهم. وتوجّه كلَّ سلوكيّاتهم رغبةٌ في التملّك وحبّ الخلود. بهذه الغرائز، تحديداً، دمّر طغاة لبنان كلّ آمالنا وأحلامنا بإصلاحٍ ما. وبتغييرٍ ما. فبعد إفلاس الشركات، تحلّلت جميع القطاعات والمؤسّسات. وأُفرِغَت الإدارات والأسلاك. وتداعت المجالس والنقابات. وأكثر. فتحوا كلّ الملفّات المستعصية بسبب عراكهم الطائفي عليها. وفتحوا أيضاً، الملفّات ذات البُعْد الخلافي الإقليمي. جعلوا البلد برميل بارود. يكفي عود ثقاب واحد لإشعال الفتنة فيه. لأيّ سبب. وأعدّوا لهذه الفتنة جماهيرهم “المُبرمَجة”. بكبسة زر، تبدأ بالرقص والصراخ وهي تدور حول النار المشتعلة. هل حدث وشاهدتم رقص قبيلة “جونج وانج بونيو” (التي تعيش على الحدود الهنديّة البورميّة) حول النار ليلاً لمباركة موسم الحصاد المقبل؟ قبائلنا الطائفيّة اللبنانيّة تفعل الشيء ذاته مع فارقٍ بسيط: أنّها أبشع من “جونغ وانج بونيو” بكثير!

كلمة أخيرة. في روايته “الخلود”، يتساءل الكاتب التشيكي ميلان كونديرا “ما هو الشرط الأبدي للمآسي”؟ ويجيب: “وجود المُثُل العليا التي تُثمَّن قيمتها على أنّها أرفع من قيمة الحياة الإنسانيّة”. ويسأل من جديد: “وما هو شرط الحروب؟”، فيجيب: “إنّه الشيء نفسه. أي أنت تُجبَر على الموت لأنّ هناك، على ما يبدو، شيئاً ما أهمّ من حياتك. ولا يمكن للحرب أن توجد إلاّ في عالم المأساة. ولا يمكن إغلاق عصر المأساة إلاّ بثورة”. يا أيّها اللبنانيّون، متى تغلقون عصر مأساتنا بثورة ساحقة ماحقة لهم. فقَدَرُهُم يُوحي بِقَدرِنا. إقتضى التذكير.

(*) راجع للكاتبة “عود على بدء.. كلن يعني كلن“؛ “ثورة لبنان وتفاحة تشي غيفارا“.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  رياض سلامة بتعذر البديل: مجرمٌ أم بطل؟