افتكاك فلسطين.. هل هو واقعي وممكن؟

لم يتمكن الفلسطينيون، ولو لمرة واحدة، من إدارة قضيتهم ومتابعة شؤونهم بأنفسهم.. ولا "افتكاك" قضيتهم من تداخلاتها الإقليمية والدولية وتطلعات الآخرين للتأثير فيها. وكلما حاولوا ذلك أو شيئاً منه، كلما زاد تورط الآخرين في قضيتهم، وأحياناً تورطهم هم في قضايا وسياسات ورهانات الآخرين. مسألة مُلغّزة بالفعل!

عملَ الفلسطينيون منذ عقود تحت عنوان “القرار الفلسطيني المستقل”، وكان عَدُّ منظمة التحرير الفلسطينية “الممثل الشرعي والوحيد للفلسطينيين”، لأسباب من بينها “احتواء” محاولات بعض الأطراف الإقليمية الهيمنة على القرار الفلسطيني والدفع بحلول وتسويات لا تناسب الفلسطينيين.

وغالباً ما اصطف الفلسطينيون على جانبي الصراعات العربية-العربية، مدفوعين بتحالفات إيديولوجية وتقديرات سياسية ومواقف وسياسات ريعية؛ مثلما كانت فواعل السياسة في عدد من الدول العربية تُدرك أهمية فلسطين في تأكيد أو تعزيز شرعيتها بنظر شعوبها، وحضورها ودورها في الإقليم، أو مجرد المشاغبة والتنكيد على خصومها من العرب وغير العرب.

القضية ليست “محض فلسطينية”. ثمة ما هو عربي، وما هو إقليمي أو إسلامي في قضية فلسطين، وثمة ما هو عالمي أيضاً. وتجد فواعل كثيرة (في الإقليم والعالم) أن لها الحق في أن تقول أو تفعل شيئاً بشأن الصراع، قَبِلَ الفلسطينيون ذلك أم لا. وهكذا، فإن قضية فلسطين هي بنظر شريحة من العرب “قضية مركزية” في العالم العربي، وهي قضية العرب بقدر ما أنّها قضية الفلسطينيين. وينسحب جانب من ذلك على العالم الإسلامي. وكان لقضية فلسطين والصراع مع إسرائيل دور مهم في قضايا التحرر في العالم.

وبالتالي، فإن لكل هؤلاء رأي ودور في اتجاهات الصراع-التسوية، ورأي فيما يحدث للفلسطينيين أنفسهم، وما يحدث بينهم وبين إسرائيل. وهذا يجعل المسألة أكثر تعقيداً، وينعكس على مواقف واتجاهات الفلسطينيين حيال قضيتهم و”عالمهم”.

ليس المقصود أو المطلوب هو “إخراج” فلسطين من سياقات وجودها وتداخلاتها وتخارجاتها، ولا “فك الارتباط” بين فلسطين والإقليم والعالم. هذه أمور أصعب من أن يقوم بها الفلسطينيون وقد لا يطمح لها أحد اليوم؛ بل إنّ المطلوب هو تعزيز الوعي بتلك التداخلات والترابطات، وأن تكون قوة الدفع والتحريك هي فلسطينية في المقام الأول، انطلاقاً من فلسطين وبأفق فلسطيني

وهكذا، فإن الفلسطينيين ليسوا أحراراً في قرار المقاومة، ولا في قرار التسوية، وما أن يتجه فصيل أو تنظيم إلى خيارٍ ما، حتى تبرز اصطفافات معاكسة، فلسطينية قبل أن تكون عربية أو أوروبية أو أمريكية إلخ.. الأمر الذي يجعل التمييز بين ما هو فلسطيني وما هو غير فلسطيني في المواقف والسياسات أمراً بالغ الصعوبة، وأحياناً ما يكون مستحيلاً. فهل يمكن “افتكاك” فلسطين من “أبعادها” و”تداخلاتها” العربية والإسلامية والكونية؟ وهل يمكن بناء تصور بهذا الخصوص؟ وأي فلسطين تلك التي يمكن “افتكاكها”، وأي “افتكاك” ممكن في الظروف الراهنة؟ الأسئلة كثيرة وتحيل السائلين إلى واقع بالغ التعقيد.

ومثلما أن القضية ليست “محض فلسطينية”، فهي ليست “محض إسرائيلية” أيضاً، ذلك أن إسرائيل ليست نتاجاً إسرائيلياً أو صهيونياً، فقد كان الغرب أحد العوامل الوجودية بالنسبة لها، وهو كذلك بالنسبة لاستمرارها. إسرائيل هي نتاج الغرب في أطواره ومعانيه الكولونيالية والإمبريالية، وحتى العولمية أو الإمبراطورية، بتعبير انطونيو نيغري ومايكل هارت.. وأي تهديد لإسرائيل هو – بنظر الغرب – تهديدٌ للغرب نفسه، ولمكانته ودوره في العالم.

قد لا يُقرّر الغرب، وخاصة أمريكا، عن إسرائيل سياساتها، إلا أنه حاضر في كل ما يتعلق بها، ولا تستطيع إسرائيل تخيل مجرد وجودها في الإقليم والعالم بمعزل عن الولايات المتحدة. ويلتزم الغرب بـ”أمن إسرائيل” التزامه بأمنه هو نفسه.

مرة أخرى؛ هل يُمكن “افتكاك” إسرائيل أو فلسطين المحتلة من “التداخلات” الغربية، ورؤية الغرب لنفسه ولهيمنته على النظام العالمي، لدرجة يعد الغرب معها أي تهديد لإسرائيل تهديداً لمكانته وهيمنته تلك؟

وهذه نظرة الفلسطينيين والعرب أيضاً لإسرائيل، أي كونها نتاج غربي. وقريب من ذلك نظرة قوى التحرر العالمية لها، أيضاً وأيضاً. وأن الحديث عن “قوى تحرر عالمية”، هو بالقطع مختلف عما كنا نعرفه بهذا الخصوص. وثمة بروز متزايد لموقف عالمي مؤيد للفلسطينيين وقضيتهم، حتى في المجتمعات الغربية نفسها، ومن ذلك الاحتجاجات الطالبية في عدد كبير من جامعات الولايات المتحدة وأوروبا. قد لا يكون ذلك متوافقاً بالتمام مع رؤية الفلسطينيين لـ”جذر القضية”، إلا أنه يرفض السياسة الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، وهذا بحد ذاته تطور مهم.

ثمة ما يجب التدقيق فيه هنا. ذلك أن جانباً من المظاهرات في الغرب تأييداً للفلسطينيين في نيسان/أبريل وأيار/مايو 2024، لا يطال “جذر الصراع” أو “أصل التناقضات” القائمة بالتمام، كما سبقت الإشارة، بل أحياناً مجرد الاعتراض على الأسلوب أو الطريقة التي تتبعها إسرائيل وحلفاؤها في إدارة الصراع. وإذا كانت المبالغة في قراءة الاحتجاجات أمر خاطئ، فإن التقليل منها خاطئ أيضاً. والسؤال: هل تستطيع إسرائيل “افتكاك” القضية من السياق العالمي وردود الفعل المناهضة لها والمؤيدة للفلسطينيين، لتفعل ما تشاء من دون تبعات ومنعكسات عالمية؟

عودة إلى كلمة “افتكاك”، ليس المقصود أو المطلوب هو “إخراج” فلسطين من سياقات وجودها وتداخلاتها وتخارجاتها، ولا “فك الارتباط” بين فلسطين والإقليم والعالم، ولا “المماهاة” مع ما ذكرنا. هذه أمور أصعب من أن يقوم بها الفلسطينيون أو غيرهم، وقد لا يطمح لها أحد اليوم؛ بل إنّ المطلوب هو تعزيز الوعي بتلك التداخلات والترابطات، وأن تكون قوة الدفع والتحريك هي فلسطينية في المقام الأول، انطلاقاً من فلسطين وبأفق فلسطيني.

إقرأ على موقع 180  الواقع الفلسطيّني الصعب.. والخيارات الأصعب (2/1)

وبقدر ما يكون التطلُّع والفعل فلسطينيان، بقدر ما يجدان تلقياً وتأييداً من فواعل في الإقليم والعالم، من العرب وغير العرب. المهم ألا تكون قضية فلسطين “ورقة” يستخدمها الآخرون في سياساتهم وتطلعاتهم ورهاناتهم، بل أن تكون قوة حق وطني، وحق إنساني وأخلاقي أيضاً وربما أولاً.. وهذا ما يُكسبها هذه الهوية الأممية العابرة للقارات والأعراق والشعوب.

Print Friendly, PDF & Email
عقيل سعيد محفوض

كاتب وأستاذ جامعي، سوريا

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  "الخونتا" اللبنانية.. ونزلاء السجن الكبير