هناك عالم قديم يغرب لكنه لا يريد أن يخلى مواقعه، وعالم جديد يولد دون أن تتضح معالمه.
فى الهوة بين القديم والجديد تتبدى فوضى دولية ضاربة.
لا نحن فى حرب باردة جديدة؛ حيث تغيب أية قواعد اشتباك كالتى حكمت العالم أغلب سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
ولا الحرب النووية قدر مكتوب، فإذا ما انزلقت إليها السياسات بحماقات القوة فإنها كلمة النهاية للحضارة الإنسانية كلها، ولا أى شىء بعدها.
كان مستلفتا تراجع الكرملين عن التلويح بالخيار النووى بعبارات أقرب إلى التنصل مما تورط فيه عندما بدأت قواته تتراجع بفداحة فى ميادين المواجهة العسكرية.
التلويح بدا تعبيراً عن نوع من اليأس والتراجع عكس بدرجة أخرى نوعاً من الثقة فى ترميم الأوضاع الميدانية وكسب الحرب بالنقاط فى نهاية المطاف.
المعضلة الحقيقية أن أحداً من أطراف المواجهة العسكرية فى أوكرانيا ليس بوارد أن يراجع مواقفه أو أن يتراجع عن مطالبه، كأن ما هو مطروح عليه «الخيار شمشون» أن يكسب كل شىء، أو أن يهدم المعبد فوق رأس الجميع!
نحن أمام معادلات مضطربة فى عالم فوضوى لا تحترم فيه أي قوانين دولية، ويفتقر بفداحة إلى أي قواعد أو أصول تضبط صراعاته ونزاعاته.
فى مشهد دولى متناقض أدانت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية (143) صوتا ما أطلق عليها «الاستفتاءات غير القانونية والصورية»، التى ضمت بمقتضاها أربع مناطق أوكرانية للاتحاد الروسى فيما كان رجله القوى «فلاديمير بوتين» يشارك بفاعلية فى قمة «آستانا» الآسيوية.
الإدانة الأممية تنطوى نظريا على عزلة روسية دبلوماسية مفترضة، فيما المشاركة بالقمة الآسيوية تعكس واقعيا حضورا فاعلا فى المعادلات الدولية.
لا كل الذين صوتوا ضد موسكو يناهضونها ويطلبون عزلتها، ولا كل الذين امتنعوا عن التصويت محايدون ــ الصين والهند كمثالين!
جرت إدانة روسيا استنادا إلى القوانين الدولية، التى تُجرّم ضم أراضى دولة أخرى بقوة السلاح، أو باستفتاءات مشكوك فى نزاهتها، فيما لا تحظى نفس هذه القوانين لأى اعتبار فى حالات أخرى مماثلة، كضم الدولة العبرية لهضبة الجولان السورية المحتلة.
ازدواجية المعايير إحدى مناطق الخلل فى بنية النظام الدولى المتهالك، الذى تغيب عنه أي قدرة على استبيان الحقائق، فكل شيء يخضع للمصالح المتغيرة، أو لمنطق القوة القاهرة.
شيء من ذلك حدث فى التفجيرات التى نالت من خطى أنابيب الغاز «نورد ستريم1» و«نورد ستريم2».
الأطراف المتنازعة أجمعت على وصفها بـ«العمل الإرهابى».
كل طرف حمَّل الآخر مسئوليته دون أن تتبدى أدنى فرصة لإجراء تحقيق مستقل وشفاف.
بحكم المصالح الاقتصادية المباشرة لا تصب التفجيرات فى صالح روسيا ولا فى صالح أوروبا.
بعض الفرضيات الرئيسية ذهبت إلى أن الولايات المتحدة ربما تكون تورطت فيها لقطع أية صلة استراتيجية اقتصادية مستقبلية بين روسيا وألمانيا دون أن تضع فى اعتبارها أزمة الغاز المستحكمة التى تنذر بشتاء أوروبى قارس، خاصة فى ألمانيا وفرنسا.
هذا العمل التخريبى لا تقدر عليه سوى دولة كبرى ــ حسب تقدير الشرطة الألمانية.
لا كل الذين صوتوا ضد موسكو يناهضونها ويطلبون عزلتها، ولا كل الذين امتنعوا عن التصويت محايدون ــ الصين والهند كمثالين! جرت إدانة روسيا استنادا إلى القوانين الدولية، التى تُجرّم ضم أراضى دولة أخرى بقوة السلاح، أو باستفتاءات مشكوك فى نزاهتها، فيما لا تحظى نفس هذه القوانين لأى اعتبار فى حالات أخرى مماثلة، كضم الدولة العبرية لهضبة الجولان
كل شيء محتمل ووارد فى مثل هذا النوع من الحروب بغض النظر عن القوانين الدولية، حتى لو تضررت البيئة فى بحر البلطيق واهتز الأمن فى دول أوروبية عديدة وتفاقمت أزمة الغاز فى أوروبا كلها.
ثم كانت المفارقة الكبرى فى الفوضى الدولية الراهنة أن الولايات المتحدة، التى تحوطها شبهات قوية فى تفجيرات أنابيب الغاز، أبدت معارضة بالغة العصبية للقرار، الذى أصدرته بالإجماع دول «أوبك بلاس» بتخفيض إنتاج النفط مليونى برميل يوميا، متواعدة بإنزال العقوبات وفق تشريع أمريكى مقترح بالدول التى أصدرته.
بتوصيف الرئيس الأمريكى «جو بايدن» فإنه: «قرار قصير النظر يصب فى صالح روسيا».
كان ذلك التوصيف توظيفا سياسيا لأزمة الطاقة فى الانتخابات النصفية لمجلسى الكونجرس الشهر المقبل.
أراد أن يقول للجمهور الأمريكى إنه حريص على ألا تؤثر الأزمة على ضرورات حياته ومستويات معيشته وأنه معنىٌ باتخاذ كل ما يلزم من إجراءات عقابية ضد حلفاء مفترضين دفاعا عن مصالحه.
إنها الانتخابات النصفية التى يخشى أن يخسرها الحزب الديمقراطى قبل روسيا والحرب الأوكرانية!
لم يكن «بايدن» مستعدا أن يتفهم أسباب تخفيض إنتاج النفط بالإجماع، إنه الاقتصاد أولا وأخيرا.
ولا كان مستعدا أن يحمل بلاده أدنى مسئولية فى التربح من ارتفاع أسعار الغاز فى الدول الأوروبية الحليفة بذريعة أن «أوبك بلاس» تعبير عن مصالح دول فيما شركات الغاز الأمريكية ليست له ولاية عليها بحكم أن ملكيتها خاصة.
كانت تلك حجة مستهلكة، فالسياسات الأمريكية تعمل طوال الوقت على خدمة كبريات شركاتها بما فى ذلك التدخل العسكرى المباشر وإطاحة حكومات ونظم، كما حدث بانقلاب تشيلى واغتيال الرئيس «سلفادور اللينيدى» في سبعينيات القرن الماضى.
فى أحوال الفوضى الدولية الراهنة لم يكن ممكنا أيضا إجراء أى تحقيق فى مسئولية انفجار جسر القرم.
أوكرانيا اعترفت بمسئوليتها قبل أن تتراجع وتنسب الحادث «الإرهابى» إلى صراعات الأجهزة الأمنية فى موسكو.
جرى احتفاء غربى واسع بما جرى فوق الجسر وإدانة رد الفعل الروسى العنيف بقصف البنية العسكرية والمدنية فى العاصمة كييف.
انتهكت المعايير مرة أخرى دون أى اعتبار ــ كما هى العادة ــ للقوانين الدولية.
ارتفعت مجددا دون مقتضى أحاديث الخيار النووى بلغة تحذير من الجانب الغربى هذه المرة أن تقدم عليه موسكو، فالعواقب سوف تكون وخيمة.
إنه التصعيد ثم التصعيد ثم المزيد من التصعيد دون أن يكون هناك أى مؤشر فى الأفق المنظور لوقف «الخيار شمشون».
(*) بالتزامن مع “الشروق“