أزمة أوكرانيا.. «بروفة أخيرة» لحقائق عالمية جديدة

فى مناورات السلاح والدبلوماسية، بالحشد العسكرى الروسى على حدود أوكرانيا والاتصالات الدبلوماسية التى لا تتوقف خشية الانجراف إلى حرب لن يربحها أحد، تبدت حسابات قوة جديدة فى عالم يختلف عما عهدناه منذ الحرب العالمية الثانية.

كان مثيرا استدعاء أجواء تلك الحرب، كأن التاريخ يعيد نفسه، فيما هو يطوى صفحة إرثها، أو يكاد.
هناك من استنتج من حركة الحوادث أنه يشتم رائحة الأجواء، التى استبقت الحرب العالمية الثانية، حين فشلت خطة رئيس الوزراء البريطانى فى ذلك الوقت «نيفيل تشامبرلين» فى احتواء الزعيم النازى «أدولف هتلر» فى منع الانزلاق إلى الحرب.
ذلك الاستنتاج، الذى أطلقه وزير الدفاع البريطانى «بن والاس»، فيه استدعاء للحرب واندفاع إليها لترهيب الزعيم الروسى «فلاديمير بوتين»، الذى أكدت تصريحاته المتكررة عدم نيته غزو أوكرانيا دون أن توقف الهيستريا السياسية والإعلامية الغربية.
أطلت عقدة «تشامبرلين» على الخطاب البريطانى، كأننا أمام تاريخ يعيد إنتاج نفسه بوجوه جديدة.
كانت تلك المقاربة تعسفا مع التاريخ، فـ«بوتين» ليس «هتلر» والعالم غير العالم، فإذا ما اندلعت المواجهات العسكرية وفشلت الأطراف المتصادمة فى وضع سقف لها فإن الكوكب كله سوف يدمر بمخزون السلاح النووى.
وهناك من استنتج أننا أمام تجل جديد للحرب الباردة بأجوائها وأزماتها، يكاد يشبه انقسام النظام العالمى بين معسكرين كبيرين، أحدهما بقيادة الولايات المتحدة والآخر بقيادة روسيا وريث الاتحاد السوفييتى السابق.
الانقسام حادث، لكنه يختلف تماما عن أحوال الحرب الباردة، لا أمريكا تمتلك مقومات القوة العظمى على النحو الذى كانت عليه، ولا روسيا تقارب الاتحاد السوفييتى فى مستويات القوة والنفوذ والتأثير.
التحالف الغربى متصدع، وهو يستثمر فى المخاوف الأمنية الأوروبية لإعادة شىء من التماسك والتوحد خلف القيادة الأمريكية وفى صفوف حلف «الناتو» ذراعه العسكرى.
بدورها تستعرض روسيا عضلاتها العسكرية بالقرب من حدودها الأوكرانية دون أن يكون من أهدافها طلب الحرب على نطاق واسع ومدمر.
الحرب تؤذيها اقتصاديا واستراتيجيا فيما هى تطلب التمركز فى معادلات القوة والنفوذ فى نظام عالمى جديد يوشك أن يولد.

صدام الإرادات يتجاوز أوكرانيا إلى مستقبل القوة الأمريكية وطبيعة توازنات النظام العالمى الجديد الذى يكاد أن يولد

الثابت الوحيد فى المشهد المتغير «حلف الناتو» نفسه، فقد أنشئ بعد الحرب العالمية الثانية بمقابل «حلف وارسو» الذى تفكك بالكامل إثر انهيار الاتحاد السوفييتى السابق والمنظومة الاشتراكية التى كانت تعمل تحت قيادته.
طوال سنوات الحرب الباردة تواجه «الحلفان العسكريان» دون أن يتصادما بأثر التوازن النووى.
عندما انتهت تلك الحرب وانفردت الولايات المتحدة بقيادة النظام العالمى سادت أطروحات الانتصار النهائى لليبرالية الغربية، كأنها «نهاية التاريخ» وسادت بالوقت نفسه تساؤلات عن جدوى بقاء «حلف الناتو».
بدأ البحث عن عدو جديد يبرر استعراضات القوة دفاعا عن المصالح الأمريكية والأوروبية.
فى البداية استقر الخيار على الجماعات الإسلامية المتطرفة، التى روعت ضرباتها الإرهابية العواصم الغربية قبل أن يتأكد عند إسقاط أسقط برجى التجارة العالمى بنيويورك فى حادث الحادى عشر من سبتمبر/أيلول 2001.
جرى توظيف الحادث المروع لغزو أفغانستان والعراق على التوالى والعمل على بناء شرق أوسط جديد تتمركز فى قيادته إسرائيل.
جرى تحطيم هذين البلدين الإسلاميين دون أن تتولد هيبة أمريكية وغربية، أو تتأكد قيادة مقنعة.
جرت مراجعات وإدانات للتجاوزات البشعة التى جرت.
فى الحصاد الأخير كان الفشل ذريعا فى رحلة «البحث عن عدو».

حين نشأ مشروع تحالف صينى روسى، طرفه الأول يعتمد على قوته وموارده الاقتصادية التى تكاد تضعه على القمة الاقتصادية العالمية، وطرفه الثانى لديه فائض قوة عسكرية وديناميكية فى إدارة سياسته الخارجية، بدا العدو ظاهرا ومعلنا.
فيما العالم يمر بمخاض ميلاد نظام عالمى جديد أرادت موسكو بالحشد العسكرى على حدودها مع أوكرانيا أن تؤكد حضورها فى الحسابات الدولية، أنها دولة كبرى رأسها برأس الولايات المتحدة، ومحيطها الأمنى الاستراتيجى فى أوكرانيا وبقية دول الاتحاد السوفييتى السابق لن تتهاون بشأنه، أو تسمح أن يتمركز «حلف الناتو» على حدودها.
كانت تلك حسابات استراتيجية وأمنية، لكنها لم تكن كل الحسابات.

هى تطلب النفوذ لا الحرب، وإذا ما دخلت حربا فلا بد أن تتسق الحسابات مع مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية، دون أن تتكبد خسائر باهظة، أو غير محتملة.
إنها أوضاع جديدة ومختلفة، لا هى حرب عالمية ثالثة مكلفة ومدمرة، ولا هى إعادة إنتاج لحرب باردة تقوضت ركائزها بالكامل تقريبا.

فى لحظة تحول حرجة فى النظام العالمى تبدو الأزمة الأوكرانية أقرب إلى «بروفة أخيرة» للحقائق الجديدة التى تطل على العالم

مشكلة الطرف الغربى فى الصراع على أوكرانيا أنه مضى بعيدا فى التصعيد الكلامى دون أن تكون الأرض ثابتة تحت أقدامه.
هناك ــ أولا ــ أزمة أمريكية داخلية مستحكمة ديمقراطيا وعرقيا.

لم تعد الولايات المتحدة ملهمة لأحد خارجها، إلهام النموذج من صفات الدول الكبرى، التى تتطلع لقيادة العالم.
هناك ــ ثانيا ــ أزمة أخرى عميقة ومتراكمة فى إدارة سياستها الخارجية.
فيما هو معلن أنها بصدد الانسحاب من الشرق الأوسط وصداعه لتركيز الحضور فى شرق آسيا حيث الصراع مع الصين على المستقبل، لكنها قد لا تستطيع المضى بعيدا فى هذا الخيار الاستراتيجى، فلا بوسعها أن تخلى الشرق الأوسط وأفريقيا، للتحالف بين الصين خصمها الاقتصادى وروسيا خصمها التاريخى، ولا بمقدورها الاقتراب أكثر من اللازم من التنين الصينى.
الأسوأ أنه لا توجد نظرة مشتركة لكيفية مواجهة الصين، وسائلها وحدودها، وقد كانت أزمة الغواصات الفرنسية كاشفة لمدى التصدع فى البنيان الغربى.
وقد ألقى الفشل الذريع الذى لحق إدارة «جو بايدن» من الانسحاب العشوائى المهين من أفغانستان بأثقال إضافية على إدارة السياسة الخارجية فى أزمتى «أوكرانيا» و«المشروع النووى الإيرانى» خشية أن يلحق بحزبه هزيمة فادحة فى الانتخابات النيابية المقبلة.
وهناك ــ ثالثا ــ شروخ عميقة بين الحلفاء الغربيين فى تعريف الأمن الأوروبى، وتوزيع أعباء «حلف الناتو»، وطريقة اتخاذ القرار، وإذا ما كانت أوروبا فى حاجة إلى منظومة أمنية جديدة تطوى صفحة ذلك الحلف.
فى لحظة تحول حرجة فى النظام العالمى تبدو الأزمة الأوكرانية أقرب إلى «بروفة أخيرة» للحقائق الجديدة التى تطل على العالم.
طرحت سيناريوهات عديدة للحرب والتسوية، ووصلت هواجس الحرب إلى حد تورط الرئيس الأمريكى نفسه فى توقع يوم اندلاع النيران!
فى مناورات الدبلوماسية والسلاح كسبت روسيا، أو تكاد جولة أوكرانيا بالنقاط، حشدت (130) ألف جندى قبل أن تسحب فى لحظة ذروة الأزمة بعض قواتها، اشتعلت الأعصاب فى لحظة قبل أن تهدأ فى لحظة أخرى.
لم يشبه الوضع هذه المرة ما جرى عام (2014) عندما غزت القوات الروسية شبه جزيرة القرم وأعادتها مرة أخرى لوطنها الأم، فهى روسية لا أوكرانية منحت لكييف عندما كانت جزءا من الاتحاد السوفييتى.
وكان لافتا للإنتباه أن موسكو عولت على المستشار الألمانى الجديد «أولاف شولز» فى التهدئة، ولم تمنح الجائزة نفسها إلى الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون».
هذه حسابات سياسية واقتصادية لما بعد الأزمة.
هكذا فإن صدام الإرادات يتجاوز أوكرانيا إلى مستقبل القوة الأمريكية وطبيعة توازنات النظام العالمى الجديد الذى يكاد أن يولد.

إقرأ على موقع 180  ثلاثة أيام صنعت تاريخ أمريكا الحديث

(*) بالتزامن مع “الشروق

Print Friendly, PDF & Email
عبدالله السناوي

كاتب عربي من مصر

Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  إستخدام سلاح النفط.. درس الملك فيصل لأمريكا