مظاهرات تايلاند: إرث راتسادون أم ثورة ساندويتشات؟ (1)

خانا راتسادون، كلمتان باللغة التايلاندية ترجمتهما العربية هي "حزب الشعب". حزب سياسي نشأ من تجمع خيوط حراك اجتماعي ـ مدني ـ عسكري، في صورة ثورة ضد نظام الحكم في جزيرة سيام (تايلاند حالياً)، للمطالبة بتحويلها من ملكية مطلقة إلى ملكية دستورية. كان ذلك في عهد براجاديبوك (راما السابع)، ملك سيام الذي امتدت فترة حكمه لـ48 عاماً (1893 – 1941).

نبعت مطالب هذه الثورة غير الدامية، بشكل أساسي من الطبقة الوسطى الناشئة بالمناطق الحضرية للمملكة السيامية. كانت الثورة نتاج تسلطية وعشوائية الحكم الملكي الذي عرّض البلاد لمشاكل اقتصادية كبيرة. طليعة هذه الثورة نبعت من عقول المتعلمين من أهل بانكوك الذين تلقوا شهاداتهم التعليمية خارج سيام، أو سافروا إلى الخارج. ليعودوا بأفكار جعلتهم يتوقون للتمتع برحابة الحرية التي تذوقوها غرباً. فتعالت أصواتهم مجتمعة، تطالب بتجربة ديموقراطية مستلهمة من الغرب، توقاً إلى أن يصنعوا من سيام، دولة حديثة مثل تلك الدول التي ارتحلوا إليها وتعلموا فيها.

نجحت الثورة في 1933، في تحويل وجهة سيام السياسية، وفي أن تكون حزباً حاكماً في بيئة دستورية لأول مرة. لكن سرعان ما انقسم هذا الحزب الموحد على نفسه، إلى فرعين أحدهما مدني الهوى والآخر عسكري النزعة. يجب عدم التسرع هنا في التحيز لأي من الفرعين دون سياق، فلكل دولة حالتها الخاصة.

ما لبث هذا “الإرث” السياسي التايلاندي – وسنعود لكمة “إرث” في نهاية الجزء الثاني – أن جرى تفكيكه بما يحمل من روح ثورية. فمنذ الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى عام 2020، جرت عمليات هدم لأبنية تابعة للحزب الحاكم، عقداً بعد عقد، في إطار عملية وصفها أحد المؤرخين التايلانديين بأنها عملية “تطهير إيديولوجي”، تتم على أيدي المؤسسة المحافظة في تايلاند.

هل يمكن أن نعد هذا الإرث التحرري (المبرر)، هو روح تمرد أشعلت جذوة طبقة وسطى حضرية بتايلاند الحالية؟ وهل لنا أن نعتبر ذلك “التطهير الإيديولوجي”، الذي يمتد خطه إلى اليوم، مُصمّماً لتخليص تايلاند من هذه الروح “الثورية الممتدة”، التي يرى محللون كثر أنها تستخدم اليوم ضد الصين، في نسخة جديدة من الثورة؟ أم أن حبل المد الثوري الحقيقي قد جري “مسخه” أثناء “نسخه” مع تغير الأزمنة؟

أعلم أن الأسئلة المطروحة تبدو محيرة، من فضلك قم بقراءتها مرة أخرى بعد الانتهاء من قراءة الجزء الثاني للمقالة. فالقصة متشابكة، والإجابات ليست بسيطة.

قادتنا المقدمة التاريخية إلى تلك التساؤلات، التي نحاول تلمس بعض الإجابات عليها هنا. فنجد أنفسنا نعود لذات الكلمة التي افتتح بها المقال، راتسادون Ratsadon، بتجليها في حاضرنا الحالي.

في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، نظمت جماعة من النشطاء تحت مسمى “راتسادون” أي “الشعب” بالتايلاندية، تظاهرات احتجاجية في العاصمة التايلاندية بانكوك، مكررة مطالبها بالمزيد من الحرية السياسية، وتنحي رئيس الوزراء التايلاندي برايوث شان-أوشا عن منصبه، والدعوة لإجراء انتخابات عامة مبكرة.

نظم المتظاهرون الوقفة الاحتجاجية أمام “مركز الملكة سيركيت الوطني للمؤتمرات”، الذي انعقدت به الجلسات الأساسية لمنتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (APEC).

اللافت للإنتباه في الأمر أنه لسبب ما، اختار هؤلاء المتظاهرون تناول الساندويتشات أثناء مسيراتهم التظاهرية، واختاروا الساندويتش رمزاً لهم، وهو أمر سنعود إليه لاحقاً!

قامت شرطة الشغب بقمع التظاهرات كما هو متوقع، وقد صرح رئيس الوزراء شان-أوشا قائلاً: “لا تفسدوا بلادنا الجميلة، يجب أن تتعاطفوا مع قوات الأمن”. حسناً، تصريح يبدو مستفزاً بالطبع، وقد يبدو التعاطف صعباً مع قوات الأمن التايلاندية، وكذلك مع شان-أوشا.

ولكل متابع أن يستخف بتصريحات حكومية على لسان قائد قوات الأمن، من عينة “نحن نراقب آكلي الساندويتشات عن كثب”! أو ربما يرسم ابتسامة تعجب على وجهه، حين يقرأ رد فعل الكثير من المتظاهرين على هذا التصريح، داعين لاستبدال رمز “الساندويتش”، برمز آخر هو “الأرز الدبق“! وسط إشارات تحمل معاني يقوم المتظاهرون برفعها أثناء تظاهرهم، مثل وضع اليد على الفم، إشارة لتكميم صوت الحرية، أو رفع ثلاثة أصابع، مع تطويق الإبهام والخنصر، في إشارة إلى مبادىء الثورة الفرنسية الثلاث، الحرية، المساواة والأخوة!

لماذا يبدو المشهد عبثياً إلى هذه الدرجة يا ترى؟ تمهل يا عزيزي، فالعبث لم يبدأ بعد.

يقول بعض المحللون، إن الأمر يتخطى العبث بتايلاند، إلى خطة شاملة من العبث الأمريكي بمحيط الصين الجنوب شرق آسيوي، لتفكيك تحالفات وتفاهمات الصين هناك. يستشهدون على ذلك بتكرار استخدام ذات هذه الإشارات والرموز (الساندويتش، الأرز الدبق والثلاثة أصابع)، في تظاهرات نظمت بعدة دول بالمنطقة. منها الفلبين، ميانمار، كمبوديا، وكذلك في تظاهرات هونج كونج وتايوان الصينيتين، ضد حكومة بكين المركزية.

بالطبع، وعملاً بمبدأ What goes around, comes around، استخدمت ذات الإشارة داخل الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، في إطار اعتراضات المنظمة الأمريكية غير الربحية ذات النشاط العالمي Fandom Forward، على غياب العدالة الاقتصادية وضعف الدخول في شركات أمريكية مثل Walmart وMcDonald’s. وقد تبنى الاتحاد الأمريكي للعمل-كونغرس المنظمات الصناعية (AFL-CIO)، هذه الإشارة بنشره صوراً لقيادات نقابية عمالية يرفعون أيديهم بذات إشارة الثلاثة أصابع.

إقرأ على موقع 180  منظمة شنغهاي تتمدد.. نحو عالم متعدد الإقطاب!

عودة لمحيط الصين، حيث أكاد أسمع السؤال الذي يقول: لِمَ تدعم الولايات المتحدة تظاهرات وقلاقل في محيط منظمة (APEC)، وهي ذاتها عضو بها، وقد كانت الدافع الرئيسي لإقامتها، لتعزيز مصالحها وحلفاءها في جنوب شرق آسيا؟ ليرد عليه التحليل القائل بأننا نشهد تحولاً تدريجياً، لتوجهات هذا المؤتمر، منذ انتهاء فترة رئاسة باراك أوباما الثانية، من مؤتمر راعي للمصالح الغربية تنتظم بداخله دول هذه المنطقة، في اصطفاف يخدم رؤية الغرب، إلى مؤتمر جنوب شرق آسيوي بحق، تُناقش وتُرسم فيه خطط التعاون بين دول المنطقة، بما يتفق مع مصالح الصين، ويخدم مشروعاتها التعاونية مع دول محيطها. لذا وجبت الإشارة لهذا التفسير، الذي قد يزيل حيرة المتسائل المدقق. هذه الحيرة، ربما إن سألت أحد المتظاهرين التايلانديين أنفسهم، علام تعترض بالتحديد؟، ستجدها حاضرة أيضاً. وهذا ليس بالأمر المستغرب، فبعضهم يتم حشده، معتقداً أنه يدافع عن مصالحه وأسرته، وهو لا يعرف، وربما لا يكترث إذا ما كان اعتراضه ضد الصين أم أمريكا، أم “الكل كليلة”!

استمراراً بالمحيط الصيني، تجدر الإشارة هنا، إلى كل منابع للتحركات السياسية المعارضة، التي تجري (أو يتم صنعها) داخل ذات هذه الدول التي تصطف مصالحها تدريجياً مع مصالح جارتهم الكبيرة الصين. فالصوت العالي لأقلية معارضة داخل تايلاند، يمكن التعاطف معه لأول وهلة، قبل أن تسترق النظر فيما يجري بالكواليس، لتحاول فهم طبيعة هذه التظاهرات، ومن وراءها من أشخاص، جماعات و“ممولين”، بفتح الواو وكسرها.

تساؤل هام، ما الذي قد يشغل متظاهر تايلاندي بنظام الدولة الصينية، لدرجة أن يحمل لافتة تقول: “لا، للصين الموحدة“! أيبدو لك هذا المتظاهر من الذين يفرغون عن كبت (دون فهم)، ضد الكل؟ أم يبدو موجهاً ضد وجهة بعينها؟

وبرغم تركيزنا هنا على تايلاند كنموذج، ألا تتشابه لافتة هذا التايلاندي، مع أخريات تحمل عبارات مثل “حرروا هونج كونج” أو “الحرية لتايوان”، أو حتى “نعم لخروج الصين من مياه الفيليبين”؟ وصولاً إلى لافتة حملها متظاهر كازاخستاني في 2019 تقول “لا للتوسع الصيني“؟!

ما الذي يجمع كل هؤلاء المتظاهرين ولافتاتهم ياترى؟ الإجابة حاضرة في ذهن كل من يقرأ هذه الأسئلة، وإن سكت عنها من طرحها عمداً، بعد أن جمع بضع نماذج منها جنباً إلى جنب لرسم الصورة.

لا تتعجب إذن، حين تسمع متظاهر تايلاندي، يدعم حرية تايوان أو هونج كونج، أو ميانمار. حيث ستختفي الحيرة حين تسمع المعارض التلايلاندي البارز “تاناتورن” لا داعي لمحاولة تعريب اسمه الأخير (Thanathorn Juangroongruangkit)، وهو يقول “لو كانت تايلاند قد نجحت في إيقاف الانقلاب العسكري في 2014، لربما لم يتم إنقلاب عسكري بميانمار في 2021”!

أعتقد أن الأمر يحتاج للرد على الرجل باقتباس مصطنع: “وهل وقعت انقلابات على نظامي الدولتين، لأنهما كانتا متوجهتين نحو تجربة استقلالية وطنية أم إلى تبعية للعاصمة الأمريكية”؟

لندع الإجابة هنا لذكاء القارىء، ربما بعد أن يرى صور أون سان سو تشي، رئيسة الوزراء السابقة لميانمار، بصحبة أصدقائها، بارك أوباما، هيلاري كلنتون، والراحلة مادلين أولبرايت على سبيل المثال. ثم يتساءل: هل المطلوب من تاناتورن التليلاندي هو ذات الذي كانت تحاول تنفيذه أون سان الميانمارية؟.

لا أظن أن أي أحد سيجد صعوبة في الإجابة على هذا السؤال.

لنتعرف أكثر على تاناتورن ومن هم أخطر، في جزء ثان قريب.

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  شظايا "خبطة بوتين" في وسط أوروبا