في هذا الفصل الجديد، بعنوان “قطاف شقائق النعمان”، يقول بيرغمان إنه بعد أن أمر أرييل شارون بالغاء الغارة الجوية على منزل المسؤول في “حماس” الدكتور مروان ابو راس في غزة، حيث كان مُقرراً أن تجتمع قيادتا الحركة العسكرية والسياسية، وبعد أن غادر المسؤولون “الإسرائيليون” غرفة الحرب المشتركة، بقي رئيس جهاز “الشين بيت” آفي ديتشر وحده هناك غاضباً ومحبطاً جراء قرار إلغاء الغارة. “ولسخرية الأمر ـ يضيف بيرغمان ـ فإن ديتشر كان من بين أوائل من أقروا بالنتائج الكارثية التي نجمت عن عملية قتل القيادي في حماس صلاح شحادة إلى جانب العشرات من المدنيين القتلى والجرحى ما جعله حينها يقر أن قتل وجرح أعداد من المدنيين يعني أنه تمت تصفية الهدف ولكن فشلت العملية”.
يواصل بيرغمان، أن اجتماع حماس “كان تاريخياً، وكما وصفه ديتشر “اجتماع فريق الحلم”، وبعد بضع دقائق توصل الأخير إلى حل، فقد كان “الديوان” (مكان الإجتماع)، أي غرفة الجلوس المفروشة، في الطابق العلوي للمبنى حيث كانت الستائر مُسدلة، وكان من المنطقي الاعتقاد أن الاجتماع سيعقد هناك، فأحضر ديتشر أحد المحللين الى غرفة الحرب المشتركة ليؤكد له ذلك فقط. دعا ديتشر محللي العمليات وسألهم ما اذا كانت هناك طريقة ما لتدمير هذا الجزء فقط من المنزل من دون التسبب بأية اضرار للمبنى الملاصق، فجاءه الجواب بالإيجاب، إذ من شأن صاروخ صغير برأس حربي زنة ربع طن اذا ما تم اطلاقه من داخل النافذة أن يدمّر كل من وما في الغرفة مع التسبب بأضرار طفيفة أو من دون أية أضرار خارج القاعة”.
قامت طائرتا هليكوبتر من طراز اباتشي باطلاق ثلاثة صواريخ على منزل الزهّار ما ادى الى تدميره ومقتل ابنه خالد (29 عاما) واحد مرافقيه وإصابة زوجته بجروح بليغة، ولكن الزهّار نفسه اصيب بجروح طفيفة جدا، فقد كان قد خرج الى حديقة المنزل لتناول فنجان قهوة وتدخين سيجارة فيما كان يستخدم هاتفا لاسلكياً
ويتابع بيرغمان سرديته “استدعى ديتشر مجدداً الجميع الى مكالمة هاتفية جامعة واخبرهم ان الاجتماع يُرجح ان يُعقد في الطابق الثالث. شكّك رئيس جهاز “أمان” الجنرال زئيفي فاركاش بالامر ولم يقتنع به رئيس الأركان موشيه يعلون ايضاً الذي قال “سيكون من الغريب بالنسبة اليَّ ان يقوموا بحمل الشيخ أحمد ياسين مع كرسيه النقال الى الطابق الثالث”، فقال ديتشر “هذه معلومات الشين بيت، وانا اعرف كيف يمكن ان نُدمّر هذا الجزء من المنزل من دون التسبب بأية أضرار في المنازل الملاصقة”. وهكذا جرى استدعاء جميع المسؤولين الكبار الى الخط الهاتفي الآمن حيث كان شارون يستمع إلى المداخلات إلى أن أنهى ديتشر ويعلون كلامهما فأعطى رئيس الوزراء الإذن بتنفيذ العملية”.
يتابع بيرغمان، “وضعت غرفة العمليات المشتركة ثلاث مسيرات في الجو للمحافظة على مراقبة دقيقة للمنزل، وكان يمكن رؤية المشاركين في الاجتماع يصلون تباعاً إلى المنزل، وقد اثبت ذلك أن معلومات الشين بيت عن الاجتماع كانت دقيقة – كل القيادة السياسية والعسكرية لحماس كانت هناك – بمن فيهم الشيخ ياسين على كرسيه المتنقل، وأحمد الجبري الذي حلّ محل صلاح شحادة كآمر ميداني ومحمد ضيف قائد كتائب عز الدين القسام. وكان “الإسرائيليون” يحاولون قتل ضيف لأكثر من سبع سنوات، منذ أن حلّ محل يحيى عياش في مطلع العام 1996″.
وينقل بيرغمان عن احد كبار مسؤولي “الشين بيت” الذين كانوا موجودين حينذاك في غرفة الحرب المشتركة قوله “في كل مرة كنا ننتزع منه (ضيف) ذراعاً أو قدماً ولكنه كان دائماً ينجو من كل محاولات قتله”.
وعند الساعة 4:35 بعد الظهر، يضيف بيرغمان، “أطلقت مقاتلة من طراز اف -16 صاروخاً من خلال النافذة المغطاة بالستائر في الطابق الثالث، وقال قائد الطائرة على جهاز الراديو لديه “ألفا”، في اشارة منه إلى “ضربة في عين الثور” (أي اصابة مباشرة)، فاشتعل سطح المبنى باللهب وتناثر الركام وبقايا المفروشات الموجودة في داخله في كل اتجاه، فانكب محللو غرفة الحرب المشتركة يحاولون رؤية ما اذا كان بين بقايا الركام ما يشير الى وجود أجزاء بشرية، فقد كان انفجاراً قوياً هزّ المنطقة بأكملها. لكن تبين أن الاجتماع كان يعقد في الطابق الارضي. ويقول ديتشر “لقد نهضوا ونفضوا الغبار عن ثيابهم وركضوا مبتعدين عن المنزل، لقد رأيناهم يفرون بحثا عن النجاة بأرواحهم، للحظة تراءى لي ان الشيخ ياسين نهض على قدميه من كرسيه المتنقل وبدأ بالركض في نوبة من الهلع”.
اراد ديتشر حينها ان يرسل سرباً من المُسيرات لنسف السيارات التي كانت تفر من مرآب المنزل، يقول بيرغمان، “ولكن وزير الدفاع شاوول موفاز كبح جماحه قائلاً له هناك احتمال كبير ان يتأذى بهذا العمل مدنيون. يقول ديتشر “نظرت حولي في غرفة الحرب المشتركة ورأيت كيف ان الجميع كانوا يفقدون صوابهم لخسارتنا مثل هذه الفرصة، لقد كان ذلك مثالاً كلاسيكياً للثمن الذي تدفعه بسبب المشاكل التي خلقتها قصة مشابهة لاغتيال صلاح شحادة. وانا لا اجرؤ ان اعد الإسرائيليين الذين قتلوا وجرحوا نتيجة عدم اتخاذ القرار بنسف المبنى برمته، فيما بعد كان علينا ان نتعامل معهم فرداً فرداً. في حالات معينة نجحنا بعد جهود كبيرة ولكن البعض منهم، يؤسفني القول، أنهم ما زالوا احياء حتى يومنا هذا”.
ويمضي بيرغمان في روايته: “بعد ثلاثة ايام من تنفيد الغارة على منزل ابو راس وقبل الساعة السادسة مساء، انضم رجل يرتدي زيا عسكريا ويحمل على ظهره حقيبة ظهر كبيرة الى مجموعة من مئات جنود الجيش “الإسرائيلي” الذين كانوا ينتظرون خارج قاعدة “تزريفين” العسكرية تحت حرارة مساء ذلك اليوم. وكان هناك بمحاذاة محطة الحافلات مكان مغطى بسقف عال يؤمن الظل ويقي من حرارة الشمس اللاذعة. كان الجنود ينتظرون حافلاتهم او اي شخص يود ان يساعد اياً من الجنود المسرعين للاستفادة من إجازاتهم. بعد دقائق قليلة اقتربت دورية للجيش “الإسرائيلي” من المحطة، ويبدو أن رجل حماس، وهو مفجر انتحاري، شعر بالخوف من ان يكون قد انكشف، فكبس الزر. فقتل تسعة جنود وجرح ثمانية عشر اخرين”.
ووفق رواية بيرغمان “كانت حركة حماس على عجلة من امرها لتجلد ظهر “إسرائيل” جراء الغارة على منزل ابو راس ومحاولة اغتيال قادتها السياسيين، فقررت الرد على هذه الغارة. عادت حماس الى نفس الاسلوب القديم الذي يعتمد على تقنية بدائية وتكتيكات “ارهابية” عالية والتي كانت في الاساس سبب التصعيد “الإسرائيلي”، اي إرسال المفجرين الانتحاريين. وقد تم تكليف مركز القيادة الوسطى لحماس في رام الله بتولي هذه المهمة. كان المركز قد فعّل عمل خلية على تواصل مع عدد من المفجرين الانتحاريين المحتملين من بلدة بيت لقيا (تقع على بعد 21 كلم جنوب غرب رام الله) وهي قرية فلسطينية شمال غرب مدينة القدس، وقبل يوم واحد من عملية “تزريفين” ارسل مفجر انتحاري الى مطعم في مدينة القدس ولكنه تراجع في اللحظات الاخيرة نتيجة الخوف، فجرى تجنيد شاب غيره ليفجر نفسه في اليوم التالي في قاعدة “تزريفين”.
يتابع بيرغمان، “تلقى شارون اخبار الهجوم بينما كان في اجتماع في نيودلهي مع نظيره الهندي آتال بيهاري فاجبايي. وكان قد فوّض سلطاته خلال غيابه لوزير الخارجية سيلفان شالوم وكلفه ان يتخذ “كل الاعمال الضرورية للرد”، فدعا شالوم لاجتماع طارىء لكل القادة في الجيش والاجهزة الاستخبارية في مقر وزارة الدفاع. وفي الساعة العاشرة مساء، بعد اربع ساعات على مقتل الجنود في الهجوم على قاعدة “تزريفين”، طلب شالوم من ممثلي “الشين بيت” و”أمان” الحاضرين في الاجتماع ان يقدموا له من يجب ان يُقتل من حماس على الفور، اذ يجب الا يمر الهجوم الانتحاري من دون رد. فقال احد مسؤولي “الشين بيت”: “لدينا مراقبة جيدة لمحمود الزهار. يمكن ان نقتله ولكن قد ينجم عن ذلك تداعيات كتلك التي تنجم عن اذية اشخاص لا علاقة لهم”. وكان الزهار طبيباً جراحاً، واحد مؤسسي حركة حماس ويُنظر اليه على انه قائد الجناح المتطرف في الحركة”.
مرت ساعة وبات النقاش يتمحور حول سؤال “ما العمل مع ياسر عرفات”، فقد كان سيلفان شالوم ينادي دائماً بقتل عرفات او على الاقل ابعاده لانه بحسب شالوم “كان مهندس الارهاب ويقف وراء كل الهجمات وطالما انه موجود لا فرصة لايقاف حمام الدم والوصول الى اتفاقية مع الفلسطينيين”. قال شالوم انه تلقى اتصالا هاتفيا من مسؤول رفيع في الادارة الامريكية بعد ان سمع الاخير عن الهجوم فسأله “هل تنوون ان تصفوا ابن الحرام؟” انقسمت الآراء بشأن طريقة التعامل مع عرفات، ولكن كان واضحا ان هذا الامر يتطلب قراراً رئيسياً لا احد باستطاعته اتخاذه الا رئيس الوزراء.
عند الساعة 11:20 (ليلا) دخل مساعدون الى الغرفة بوجوه شاحبة، شنّ مفجر انتحاري هجوماً اخر، وهذه المرة في “مقهى هيليل” في المقاطعة الالمانية في القدس، فقتل سبعة اشخاص وجرح خمسون اخرون، ومن ضمن القتلى الدكتور ديفيد ابلبوم مدير وحدة الطوارىء في مركز شائير زيديك الطبي وابنته نافا التي كان يفترض ان تتزوج في اليوم التالي. كان ذلك يعني ان محمود الزهار اصبح رجلا ميتا، يقول بيرغمان، (اي ان الهجوم الانتحاري الثاني حسم الامر لجهة تنفيذ عملية اغتيال الزهار).
ديتشر: “لقد نهضوا ونفضوا الغبار عن ثيابهم وركضوا مبتعدين عن المنزل، لقد رأيناهم يفرون بحثا عن النجاة بأرواحهم، للحظة تراءى لي ان الشيخ ياسين نهض على قدميه من كرسيه المتنقل وبدأ بالركض في نوبة من الهلع”
اخذ شالوم الهاتف الذي يعمل عبر الاقمار الاصطناعية واتصل بيوف جالانت، الامر السابق لوحدة فلوتيلا 13 والذي سبق له ان شارك في عدة عمليات اغتيال وقتل متعمد وبات حينها يخدم بصفة مساعد عسكري لرئيس الوزراء. ايقظ جالانت رئيس الوزراء أرييل شارون (التوقيت في الهند يتقدم ساعتين ونصف الساعة عن التوقيت في تل أبيب) الذي بادر على الفور إلى إعطاء الاذن بشن ضربة صاروخية على منزل الزهار ولكن فقط بعد الثامنة والنصف من صباح اليوم التالي، بحيث يكون كل الكبار قد ذهبوا الى اعمالهم والاطفال الى مدارسهم وتكون الطرقات هادئة. ولكن ماذا عن عائلة الزهار؟ إثر الاجواء التي اعقبت هجومين بشعين خلال ست ساعات وروّعا “إسرائيل”، لم يكن احد مهتماً بطرح سؤال من هذا النوع!
في الصباح، يقول بيرغمان، “تمكنت مجسات المراقبة الصوتية في قاعدة “توربان” من التحقق من ان الزهّار يجري مكالمة من منزله مستخدماً الخط الهاتفي في مكتبه في الطابق الثاني. اخطرت غرفة الحرب المشتركة شالوم بالامر، فجاء تقرير اخر يفيد ان الزهّار كان يعطي مقابلة هاتفية للخدمة العربية في الاذاعة البريطانية “بي بي سي”. ما اقلق شالوم ان تتم الضربة فيما تجري مقابلة حية – “لا سمح الله ان يسمع صوت الانفجار على الهواء” – فأمر شالوم بان يتم تأجيل الضربة حتى انتهاء المقابلة، اصغى فريق غرفة الحرب المشتركة للمقابلة حتى اقفل الزهّار سماعة الهاتف. وبما ان المكالمة كانت تجري عبر خط ارضي وبسماعة واحدة، وبما ان صوت الزهّار تم تحديده بوضوح من قبل مستمعين محترفين في قاعدة “توربان” ومن قبل مذيع الـ”بي بي سي” الذي كان يجري المقابلة، فقد جرى اقرار مذكرة قتل الزهّار من دون ان تكون هناك كاميرات مراقبة او عملاء لتأكيد ما اذا كان الزهار في مكتبه. فقامت طائرتا هليكوبتر من طراز اباتشي باطلاق ثلاثة صواريخ على منزل الزهّار ما ادى الى تدميره ومقتل ابنه خالد (29 عاما) واحد مرافقيه وإصابة زوجته بجروح بليغة، ولكن الزهّار نفسه اصيب بجروح طفيفة جدا، فقد كان قد خرج الى حديقة المنزل لتناول فنجان قهوة وتدخين سيجارة فيما كان يستخدم هاتفا لاسلكياً”.