ثمة نغمة تعزف على ذات اللحن القديم عن الشعب المصري الذليل الذي أدمن العبودية واستكان للمستعمرين وذيولهم؛ الشعب غير الجاهز للديمقراطية والذي يلزمه فرعوناً يسوقه. تلك النغمة لها حامل شبه سياسي ينطلق من بعض الأصوات الناصرية التي، ومع ظهور الأخبار عن إنشاء صندوق لهيئة قناة السويس يهدد الإنجاز الوطني الذي تحقّق في العام 1956 بانتزاع القناة من الأيادي الاحتكارية للإنجليز والفرنسيين، انطلقت تلك الأصوات للتنظير حول هذا الشعب الذي استعذب العصف بحقوقه الوطنية، الشعب الذي يستحق ما يحدث له، فها هو يشهد إمكانية ما للتفريط في القناة – التي لا يمكن ذكرها دون الحديث عن عبدالناصر – دون أن تكون له ردة فعل، لذا فإن هذا الشعب الذي أنصفه جمال عبدالناصر، جدير به الذل طالما أنه بات عاجزاً عن صيانة وحماية ما منحه إياه عبدالناصر.
هذا النوع من الخطاب الناصري المتعالي على الشعب “المعلم” كما وصفه عبدالناصر يوماً ما، ينم ليس فقط عن احتقار متأصل الجذور للشعب المصري؛ متأصل في الممارسة قبل الكلام والتنظير لأنه يفسر التاريخ لا من جهة حركيته الداخلية المحكومة بقوانين موضوعية، وإنما من زاوية الانحياز العاطفي لعبدالناصر لا للفكرة التي زرعها وكان يجدر بمن حملوا فكره أن يرووها دائماً حتى تصبح شجرة باسقة.
إن تعليقات بعض الناصريين على مشروع صندوق قناة السويس، ليست فقط تعليقات مسيئة للشعب المصري، بل إنها منافية لمنطق التاريخ وأحداثه، ومسيئة لجمال عبدالناصر نفسه. إن تأميم قناة السويس كان معركة، لم يخضها عبدالناصر بالتنظير بل خاضها في شوارع بورسعيد بجموع الجماهير الثورية
نعم، لعبدالناصر رمزيته العاطفية التي جلبتها إليه رمزيته النضالية ومعاركه الطويلة ضد الاستعمار؛ المعارك التي كانت مليئة بلحظات رومانسية لبطل شعبي وقف في ميدان المنشية ليعلن تأميم القناة ثم أعلن أن هذا البلد سيقاتل من منبر الجامع الأزهر واستعد لمقاومة طويلة بتخزين السلاح في مغارات الجبال بمصر الوسطى؛ الرجل الذي تهدج صوته تحت ضغط اللحظة محاطاً بجماهير قررت القتال من أجل حقوقها المغتصبة فاتحدت به واتحد بها وهو يفتح باب المقاومة الشعبية في بورسعيد لتخوض مصر معركة القناة التي ارتسم بعدها مسار الثورة المصرية.. ومصيرها.
من ينسى إعلان عبدالناصر بالفم الملآن عن أننا “بعتنا لشعب الكونجو سلاح وهانبعت لشعب الكونجو سلاح” في تحدٍ بطولي للإجرام البلجيكي في الكونجو. إن مثل تلك اللحظات وغيرها الكثير قد رسمت لعبدالناصر في الأذهان صورة رومانسية جاءت على خلفية انكسار تاريخي طال فيه وقوع الأمة المصرية في البراثن الاستعمارية، لكن تلك الصورة في مجال السياسة ليست كافية؛ فالرمز هو تعبير عن حركة تاريخية، ولم يكن عبدالناصر في رمزيته سوى تجسيداً للحركة التاريخية للشعب المصري، في نضاله الممتد من صد الحملة الفرنسية إلى معارك محمد علي إلى الثورة العرابية ثم ثورة 1919 وانتفاضتي 1935 و1946.
نعم، على خلفية هذا النضال التاريخي ومنه وبه تبلورت حركة الضباط الأحرار التي جاءت على هذا الشكل لأسباب تاريخية أهمها الفشل المزمن والهيكلي للبرجوازية المصرية في إنجاز مهامها التاريخية، وضعف تكوين اليسار المصري وإعتلالاته الهيكلية التي تمثلت في سيطرة الأجانب ومرض الانقسامية، ما أدى بميل مركز القوة إلى الجيش وبالتحديد إلى الفئات الوسطى من الضباط..
لذا، علينا أن نقول إن تعليقات بعض الناصريين على مشروع صندوق قناة السويس، ليست فقط تعليقات مسيئة للشعب المصري، بل إنها منافية لمنطق التاريخ وأحداثه، ومسيئة لجمال عبدالناصر نفسه. إن تأميم قناة السويس كان معركة، لم يخضها عبدالناصر بالتنظير بل خاضها في شوارع بورسعيد بجموع الجماهير الثورية؛ إنها جموع المصريين تحديداً الذين يوصمون في يومنا هذا بأنهم سلبيون ومتقاعسون ويستحقون ما يجري لهم. إنه هذا الشعب المصري الذي دفع تحت أنقاض بورسعيد ثمن تحرير القناة من أيدي الاستعمار، ولم يكن قرار التأميم إنصافاً ولا منة من عبدالناصر للشعب المصري، بل كان تجسيداً لحركة الشعب المصري التاريخية الذي تهيأت له ظروف انتزاع حقوقه التاريخية، ولا نحسب أن هذا الشعب كان ينتظر منة من أحد بل هو الذي يمن ويعطي ويمنح الزعامات أو يسلبها.
إن جمال عبدالناصر نفسه وكل من أتى بعده حاملاً صفة الناصرية، هم نفر من المصريين لكن هؤلاء الناصريين الذين أتوا بعده هم في غالبيتهم نفرٌ من بني جلدتنا يعيشون عقدة ذنب لن يستطيعوا التخلص منها لأنهم في ذاتيتهم يشعرون بأن النقد الذاتي هو نقض لمجموع الشعارات التي أطلقها عبدالناصر دون أن تتسق مع الممارسة.
لا بد أن نفراً من غير الناصريين قد وصم هذا الشعب الخامل أيضاً بعشقه لفراعنته واستعذابه للعذاب الذي يسومونه إياه، حين خرج في ليلة 9 ـ 10 يونيو/حزيران يلملم أشلاء عبدالناصر الذي استسلم علناً بتسليم الحكم لزكريا محي الدين صديق الأمريكان، هذا الشعب الذي ظل منذ 1954 حتى 1967 يقتات الوهم تلو الوهم، مسلوب الحق في المبادرة الثورية، في الرقابة على مساره الثوري، مسلوب الحق في إبداء رأيه إلا من خلال قنوات رسمية خاضعة لرقابة حديدية، هذا الشعب لا بد أنه قد وُصِم بكل نعوت العبودية لأنه ظل ينظر مشرئباً لعبدالناصر الذي علمه “العزة والكرامة” كما أعلن بنفسه في المنشية، فلم ينظر تحت قدميه ولا خلفه، وكأن تاريخ النضال الوطني المصري كان إفكاً وخواءً، وكأن السنوات السبع التي مرت منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى قيام حركة الضباط، تلك السنوات التي خاض فيها الشعب المصري معاركه على كل جبهة ممكنة، ضد الإنجليز وضد القصر، وضد إسماعيل صدقي وضد الصهيونية، وشاركت كل قواه الحية في الإعداد لثورة يوليو بل واشتركت فيها بكوادرها العسكرية وأجهزتها الفنية، كأن تلك السنوات لم تكن، وكأن أحداث التاريخ تسقط من شجرة معلقة في الهواء بلا جذور ترويها أمطار المصادفة والاجتهادات الشخصية.
“الشعب هو القائد والمعلم” شعار للاستهلاك الشعبي، دخل متحف التاريخ مع الكثير من الشعارات التي لم تتسق يوماً مع الممارسة، إذ أن القائد والمعلم قد وُضع تحت أقسى درجات الوصاية لدرجة أنه حين قرر هذا الشعب أن يغادر مقاعد الجمهور ويستولي على خشبة المسرح التي تم تهجيره منها منذ مارس/آذار 1954، ويقود بالفعل طلائعه العمالية والطلابية التي خرجت ترفض أحكام الطيران الهزيلة وميل النظام لإصلاحات شكلية وتغييرات في الأفراد على السطح دون المساس بجوهر الأوضاع التي قادت لمذبحة سيناء، هذا الشعب تم وصمه بأنه صيني الهوى، يخدم مؤامرة تمثل خطراً على الجبهة الداخلية، ليعلن عبدالناصر سريعاً “إذا لم نستطع أن نقود.. يجب أن نحكم”. كان هذا هو المحك الأول الذي أسقط ورقة التوت عن شعار “الشعب هو القائد والمعلم”.
إن الشعب الذي يريدونه موجودٌ في رؤوسهم فقط؛ الشعب الذي تم تحطيم منظماته لكنه خاض ضد أنور السادات حرباً ضروس، فوصف الأخير أصلب مكوناته بالرعاع و”الحرامية” والأرذال، هو نفس الشعب الذي خذل الناصريين فلم يثر لقناة عبدالناصر التي تعرف مجازاً بقناة السويس، إن الناصريين يهبون وتثور ثائرتهم فقط مع كل تعدٍ على الأشياء التي ارتبطت في الوجدان الشعبي بعبدالناصر، قناة السويس، الحديد والصلب، شركة النصر، السد العالي، وهم لا ينعون قيادة نضالية دولية إلا إذا كانت على اتصال ما بعبدالناصر، لا يعلو صوت الناصريين إلا حيث يخدم ذلك إعلاء اسم عبدالناصر، وهذا مفهوم، فعبدالناصر بالنسبة إليهم ليس أكثر من مجموعة مواقف وطنية، ومشاريع اقتصادية، تلك المشاريع التي لا يهم السياق الذي تعمل فيه، فطالما أن شركة النصر قائمة حتى لو على ساق واحدة، فطالما أن مجمع الحديد والصلب موجود وتشهد جداريته أنه قد افتتح في عهد عبدالناصر، فلا شئ آخر يهم، لا يهم أنه قد تم تكسيح مجمع حلوان لمصلحة حديد عز وغيره من الاستثمارات الخاصة.
لا يؤمن الناصريون بأن التطورات الحادثة بعد موت عبدالناصر هي امتداد لتطورات كانت تحدث في داخل المجتمع الذي بناه عبدالناصر نفسه، بل إن كل التاريخ منذ هزيمة يونيو هو فعل مؤامرة دّبرها أشخاص كالسادات وصحبه، بل إن الهزيمة نفسها كانت محض مؤامرة لقطع الطريق على تطور المشروع الناصري
إن عبدالناصر لا بد أن يتم تحنيطه في مجموعة جداريات وإلا فإن الناصريين سوف يتلاشون وتذريهم الرياح، فعبدالناصر ليس السياق التاريخي والنضالي، الصعود والهبوط، بل هو اليافطة التي يمارس الناصريون تحتها وجودهم، اليافطة التي لا بد من تلميعها دوماً، ولنعد لنقطة الشعور بالذنب السابق ذكرها، ففيها تكمن مفاتيح فهم الكثير من الحقائق.
لا يؤمن الناصريون بأن التطورات الحادثة بعد موت عبدالناصر هي امتداد لتطورات كانت تحدث في داخل المجتمع الذي بناه عبدالناصر نفسه، بل إن كل التاريخ منذ هزيمة يونيو هو فعل مؤامرة دّبرها أشخاص كالسادات وصحبه، بل إن الهزيمة نفسها كانت محض مؤامرة لقطع الطريق على تطور المشروع الناصري؛ فالتاريخ ليس تاريخاً بالمعنى العلمي، هو فقط ما حدث في الماضي، دون أن يكون له امتداد في الحاضر والمستقبل.
ولأن هزيمة يونيو مثّلت عملياً نهاية المرحلة الناصرية، ولأن الناصريين إن طاوعوا المنهج العلمي في تفسير الهزيمة فإنهم سوف ينتهون بتحميل عبدالناصر مسؤوليتها بصفته الشخصية وبرمزيته الطبقية، وهو ما يُمثل أمراً قاسياً شديد القسوة بالنسبة إليهم، لذا فإنهم في سرديتهم لقصة يونيو/حزيران 1967 يتجاهلون مفصليتها في التاريخ المصري الحديث، باعتبارها هزيمة ولسنا أول من يهزم، وقد اعتبروا الأحداث التي مرت منذ موت عبدالناصر انتقاماً له؛ انتقاماً دفع الشعب المصري ثمنه، الثمن الذي كان هو تبعة تلك التطورات والثمن الذي كان عبء مقاومتها؛ انتقاماً لأنهم تمكنوا من الرد على كل من تجرأ لنقد الناصرية من يسارها بأن انظروا، هناك من خرّب كل شيء ويُخرّب كل شيء بعد أن مات من نصركم وأنصف بلادكم، وها هو التخريب مستمر بعد سنوات من الهزيمة وموت عبدالناصر، لذا فهو لا يتحمل متراً مربعاً من المسؤولية عن كل ما حاق بالبلاد من خراب على أيدي السادات وطبقته ومن تلاه، ثم ولكي تكتمل الحبكة، فإنه كان لا بد للشعب المصري من أن يدخل في مجال المقرعة الناصرية، أو أن يعود إليها إن أردنا الدقة، باعتباره شعباً سلبياً لا يثور بالأمر المباشر ولا يهب للذود عن الذات الناصرية، برغم أنه نفس الشعب الذي خرج في 2011 و2013 لينتصر لنفسه لا لأحد غيره، كما كان يفعل طوال تاريخه، حين خرج مع عرابي لينتصر لمستقبله، وخرج مع عبدالناصر لينتصر لمستقبله، وكما سيخرج في كل وقت تتحقق فيه شروط خروجه للشارع. إنه الشعب القائد والمعلم بحق دون أن يُبتذل الشعار؛ هو الشعب الذي يمنح صكوك الوطنية والنضالية لمن يستحق، وقد منحها لابنه جمال عبدالناصر برغم كل شيء، وهو الشعب الذي لم يمنحها لرجال عبدالناصر الذين مارسوا كافة الأفاعيل باسمه في عصر مراكز القوى وحين طوح يهوذا بأعناقهم في 15 مايو/أيار 1971، لم تهتز لهذا الشعب قصبة، في ممارسة نموذجية لشعار “الشعب هو القائد والمعلم”.!