علی الرغم من وجود مؤشرات عديدة، سياسية وإقتصادية وعسكرية، تضع العالم على مشارف تحولات كبرى، إلا أن الجديد الذي سيُولد على أنقاض قديم يتهاوى يحتاج الی المزيد من عمليات المخاض التي لم تكتمل بعد وهي بلا شك تعتمد بشكل مباشر علی مآلات الحرب الاوكرانية لأنها ترتبط بقطبين بارزين أولهما الولايات المتحدة التي تقود أوروبا والناتو وثانيهما روسيا حليفة الصين ودول أخرى معارضة للهيمنة الأمريكية.
استمرار الحرب الأوكرانية أو نهايتها له ترجماته الحتمية علی صعيد قواعد اللعبة في المجتمع الدولي؛ وبالتالي فإن الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو لن يكونا بعيدين عن تداعيات هذه الحرب حيث نشهد راهناً بعض مؤشراتها وإن كانت الصورة غير مكتملة في “رتوشها” الاخيرة؛ ولذلك فإن هذا المسار يحتاج إلى وقت أطول للتأثير علی الآليات الدولية التي تشكل مفاصل قواعد النظام العالمي الجديد.
في ضوء ذلك، من المستبعد رؤية ولادة ما يُسمى “النظام العالمي الجديد” في العام 2023 علی الرغم من وجود مؤشرات وتطورات عديدة تؤكد حاجة المجتمع الدولي إلى مثل هذا النظام الجديد لعله يضع الألفية الثالثة علی سكة المصالح المتبادلة بديلاً لمنطق الهيمنة والانتهازية السياسية.
أما في منطقة الشرق الاوسط، فإن وجود الكيان الإسرائيلي يُشكل أحد أبرز مفاصل النظام الاقليمي إن لم نقل المفصل الاساس والوحيد الذي يؤثر علی مستقبل واستقرار هذه المنطقة الحيوية علی المستوی الدولي، لما تمثله من ثقل جيو سياسي ـ اقتصادي ومجال حيوي للعديد من القوی الدولية والإقليمية.
وما شهدته هذه المنطقة خلال العام 2022 من أحداث وتطورات يؤشر علی مقاربة محتملة لما تؤول إليه التطورات خلال العام الجديد 2023. فالزيارة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ للمملكة العربية السعودية وإجتماعه بالزعماء العرب (قمة الرياض الصينية العربية) اعٌتبرت من أهم التطورات التي شهدتها هذه المنطقة خلال العام المنتهي. وايضاً تطورات التعاون الروسي الايراني في المجال العسكري؛ ومجیء حكومة اسرائيلية متطرفة تضمّ أحزاباً من أقصی اليمين الصهيوني تُشكل سابقة في تاريخ الكيان؛ اضافة الی ما يتردد عن سعي الولايات المتحدة للخروج من غرب اسيا لمصلحة حضورها المتعاظم في جنوب شرق آسيا وهو المشروع الذي لم تكتمل تفاصيله وسط تطور بارز يتمثل بتعثر المفاوضات النووية بين ايران والمجموعة الغربية التي لم تصل الی نتيجة لاحياء الاتفاق النووي الموقع عام 2015.
ربما نشهد مصالحة تركية ـ سورية في العام المقبل، وقد تفضي الجهود الدولية إلى فرض هدنة في اليمن، وربما يتم الاتفاق علی انتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان؛ لكن الأكيد أن الوضع الأمني الهش في الإقليم سيُرحّل إلى الآتي من أشهر وربما سنوات ما لم تقتنع دول المنطقة بطاولة حوار لإستكشاف المقاصد بعيداً عن اهداف وأجندات اللاعبين من خارج الإقليم
وما ينتظر “الشرق الاوسط الجديد” يعتمد علی ما يُمكن أن يأتينا من إجابات على أسئلة مفصلية: كيف ستتعامل الصين مع منافسيها وخصوصاً الولايات المتحدة في الشرق الأوسط؟ ماذا عن مستقبل العلاقات الروسية ـ الايرانية؟ وهل تسير باتجاه حلف استراتيجي فعال يشمل المجالات المتعددة؟ وما هو سقف التعامل الايراني مع الحليف الروسي؟ وكيف ستتطور العلاقات الاسرائيلية ـ العربية وباي إتجاه؟ والی اين ستصل جهود اللاعبين الاقليميين كإيران وتركيا والسعودية في مشاريعهم للحصول علی موقع متقدم في أي ترتيبات امنية وسياسية اقليمية مستقبلية في ظل بؤر ما زالت مفتوحة كاليمن وسوريا وربما العراق؟.
ليس من السهل الإجابة علی هذه الأسئلة المحورية التي تساهم في إعادة تشكيل الشرق الأوسط ليكون “جديداً” بسبب تقاطع هذه الملفات وأهدافها والمصالح المتوخاة من تنفيذها؛ وهي في نهاية المطاف تعبير عن صراع إرادات وتقاطع مصالح لا يُمكن حلها – أو هكذا علمنا التاريخ – إلا من خلال حرب شاملة تشارك فيها جميع دول المنطقة من أجل الاتفاق علی خارطة جديدة؛ لكن مثل هذه الفرضية لا يمكن تنفيذها ببساطة في هذه المنطقة التي تعتبر المجال الحيوي للعديد من دول العالم المستفيد من إمدادات الطاقة في هذه المنطقة ومن أسواقها التي يسيل لها لعاب الداني والقاصي؛ إضافة إلی الوضع الوجودي الحرج للكيان الذي سوف لن يكون بعيداً عن مثل هذا السيناريو.
منطقة الشرق الاوسط مرّت خلال السنوات الماضية بأحداث وتطورات مهمة لكنها لم تنجح في إعادة صياغتها. للتذكير؛ في العام 2006 عندما شنّ الكيان العبري الحرب علی لبنان قالت وزيرة الخارجية الامريكية انذاك كوندوليسا رايس إن “الشرق الأوسط الجديد” سيخلق من مخاض هذه الحرب!. لم يحدث ذلك. وعندما تمدد تنظيم “داعش” من سوريا إلی العراق وصولاً للحدود العراقية الايرانية المشتركة وأزال الحدود السياسية كان يهدف وبمباركة خارجية إلى فرض واقع سياسي أمني جديد في المنطقة. أيضاً لم يحدث. هذه التطورات علی أهميتها لم تستطع التأثير علی العوامل الجيوسياسية للشرق الاوسط. ولا توجد مؤشرات علی ان ولادة الشرق الاوسط الجديد ستكون في العام 2023 علی الرغم من وجود “رغبات” محلية بذلك.
يبدو ان عملية فرض معادلات “شرق أوسط جديد” ليست بمتناول اليد ما لم يكون هناك اتفاق اقليمي يضم دول المنطقة إضافة إلی تركيا لتسوية مشاكل الإقليم.. ومثل هكذا اتفاق سيصطدم بمصالح الكيان ووجوده الذي يملك ترسانة عسكرية نووية وخطوط مفتوحة مع الدول الغربية عسكرياً وأمنياً وسياسياً.
ربما نشهد مصالحة تركية ـ سورية في العام المقبل، وقد تفضي الجهود الدولية إلى فرض هدنة في اليمن، وربما يتم الاتفاق علی انتخاب رئيس جديد للجمهورية في لبنان؛ لكن الأكيد أن الوضع الأمني الهش في الإقليم سيُرحّل إلى الآتي من أشهر وربما سنوات ما لم تقتنع دول المنطقة بطاولة حوار لإستكشاف المقاصد والمصالح بعيداً عن اهداف وأجندات اللاعبين من خارج الإقليم.
هناك مؤشرات مشجعة علی الحوار الإقليمي لكن ثمة حاجة إلى رغبة صادقة من جميع الأطراف وإلى جهود استثنائية للتوصل إلی قناعات تستطيع أن تؤمن مصالح شعوب هذه المنطقة حتی وإن كانت في حدودها الدنيا وذلك أضعف الايمان.. وكل عام وأنتم بخير.