عن سليماني.. بعيون الإعلام الغربي والإسرائيلي

إذا أردت أن تتعرّف على حقيقة شخص ما، من المنصف أن تبحث عن شهادات ذات مصداقية؛ فكيف إذا كانت صادرة عن عدوّه الذي لا مصلحة له بتزيين صورته أو رفع قدره، وإنما هي شهادات تكشف قدرة تأثير ذلك الشخص في عدوه إلى درجة عدم القدرة على إنكار حقّه.

عندما اغتيل قائد “قوة القدس” في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، في فجر الثالث من كانون الثاني/يناير 2020، تهافت الإعلام الغربي، والإسرائيلي ضمنًا، لنقل الحدث الاستثنائي لجهة الشخصية المستهدَفة والظروف الزمكانية وتداعيات العملية بشكل عام؛ الحدث الذي وصفه خبراء أجانب بالزلزال الهائل، ومنهم المسؤول في وكالة المخابرات المركزية، مارك بوليمروبولوس. وبرغم نعت بعض تلك المقالات المحور الذي ينتمي إليه سليماني بأنه “محور الإرهاب”، إلّا أن الأوصاف تتّسم من جهة أخرى بالإيجابية لعدم تجاوز المزايا الحسنة في القيادة والميدان.

 لعلّ هناك من يقول إن التوصيف جاء من باب الموضوعية والمهنية، وهناك رأي آخر يتبنّى القول بقدرة شخصية سليماني الكاريزماتية على التأثير في العدو قبل الصديق، وقد تجد للأمر تفسيرًا ثالثًا، إلّا أن معظم الآراء تتوقف عند حقيقة تلك الشخصية، بما يسمح بفهم خلفيات الاغتيال، وتاليًا مدى التهديد الذي مثّله سليماني حتى يصدر قرار الاغتيال من قلب البيت الأبيض.

باختصار، إنها تلك الشخصية التي أخرجت الرئاسة الأميركية عن طورها، ودفعتها باتجاه فعل كاد أن يؤدي إلى اشتعال المنطقة بتقديرات الخبراء، لولا تدارُك القيادة الإيرانية وحكمتها في الرد؛ ما حال دون تكريس معادلة الردع الأميركية ووفّر لها الاحتفاظ بحق الردّ المفتوح.

أندرو إكسوم: “كنت أشاهد سليماني يتنقل ذهابًا وإيابًا بين سوريا والعراق. عندما كانت الحرب لدعم بشار الأسد تسير ببطء، كان سليماني يغادر العراق إلى سوريا. وعندما بدأت الميليشيات ـ على حد تعبيره ـ المدعومة من إيران في العراق محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، غادر سليماني سوريا إلى العراق”

الكاريزما القيادية بعين العدو

إنّه الجنرال قاسم سليماني أكثر القادة العسكريين احترامًا في البلاد ضمن تقارير الواشنطن بوست؛ الأمر الذي عرّض الصحيفة، يومذاك، لانتقادات لاذعة. وهو المقاتل الأكثر خبرة في العمل على مستوى العالم“، وفقًا لأحد مسؤولي الاستخبارات الأميركية. وقد نال لقب “أقوى جنرال في الشرق الأوسط اليوم، وفقًا لمقالة “ذا أتلنتيك” تحت عنوان “اغتيال سليماني الضربة الأميركية الأكثر عواقبًا في هذا القرن”. أمّا الشهادة المفاجئة – لصدورها عن الآخر- فهي تلك التي جاءت على لسان نائب مساعد وزير الدفاع لسياسة الشرق الأوسط، أندرو إكسوم، محدّدة رؤيته لسليماني من باب الموقعية التي يشغلها الأول في وزارة الدفاع الاميركية. يقول إكسوم: “من منظورٍ عسكري ودبلوماسي، كان سليماني ديفيد بتريوس وستانلي ماكريستال وبريت ماكغورك، مندمجين في شخص واحد”.

إنّ نائب مساعد وزير الدفاع الأميركي بنفسه يعترف بأن سليماني رجلٌ واحدٌ بمهام جامعة لمسؤوليات ثلاث من كبار القادة الأميركيين، مهام استخباراتية وعسكرية ودبلوماسية: فالأول، بتريوس، شغل منصب مدير وكالة المخابرات المركزية؛ ماكريستال قاد العمليات الخاصة المشتركة في منتصف العقد الأول من القرن الحالي؛ وماكغورك هو المبعوث الرئاسي الخاص للتحالف العالمي لمكافحة “تنظيم الدولة الإسلامية” الإرهابي. وتشير هذه الشهادة إلى مدلولات عدة أبرزها ثقل إنجازات سليماني لمصلحةالمحور الذي ينتمي إليه، والتهديد الذي مثّله بالنسبة للمحور المقابل.

لقد انسحب طابع المزايا القيادية على المقالات الإسرائيلية أيضًا، فقد وصِف في صحيفة “هآرتس” بأنه “ثاني أقوى رجل في بلاده، وعلى مدى العقدين الماضيين هو الأقوى في المنطقة”، حتى قال الكاتب الإسرائيلي، صاحب المقال ذاته: “أهم رمز للقوة الإيرانية وأداة عملياتها الأكثر فاعلية في المنطقة، من المستحيل المبالغة في النفوذ الذي مارسه قاسم سليماني في 22 عامًا. كان هناك تلك القوة التي كان يتمتع بها على الحكومات والقوات المقاتلة في جميع أنحاء المنطقة، وقدرته على تشكيل الأحداث من وجوده المادي على الخطوط الأمامية، والذي اتّخذ على مرّ السنين صفة أسطورية تقريبًا، إلى دبلوماسيته الهادئة، إلى التهديد الدائم”. هذه المزايا لخصّها كاتب إسرائيلي آخر في مقولة بسيطة وواضحة مفادها “إن سليماني نال الاحترام لشجاعته. وأمام هذه الصّفات التي يذكرها الآخر، لا غنى عن السؤال عن ماهية التهديد والنفوذ “السليماني” حتى صار اغتياله خيار الضرورة الذي لا بدّ منه، ولو عنى ذلك تجاوز الخطوط الحمر؟

بالعودة إلى الوراء، وتحديدًا إلى العام 2013، تطالعك مجلة “نيويوركر” بمقال عنوانه “القائد الظل” في إشارة إلى سليماني؛ فهو الرجل الغامض الذي يعمل في الخفاء ومع ذلك هو الرجل الفرد الأكثر فعالية في الشرق الأوسط، وفقًا لتعبير مسؤول الاستخبارات الأميركي السابق الذي عمل في العراق، جون ماغواير. لاحقًا، تردّد هذا اللقب، في آذار/مارس 2019، عندما أنتجت محطة الـ”بي بي سي” فيلمًا وثائقيًّا عن سليماني، حمل عنوان قائد الظل: العقل العسكري المدبر لإيران، وقد تحدّث فيه الدبلوماسي، رايان كروكر، والقائد السابق للقوات الأميركية في العراق، الجنرال ديفيد بتريوس بصراحة عما عبّرا عنه بـ”الصراع اليائس في منطقة الشرق الأوسط ونفوذ الجنرال سليماني الممتد من طهران إلى بيروت”. ويتساءل الفيلم عما إذا كان خروج الجنرال الإيراني من الظلّ يتزامن مع تشكّل صراع جديد مع الغرب في المنطقة.

وتكاد تكون هذه النقطة الأخيرة هي نقطة التحوّل المفصلية التي جعلت الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يغامر بأمن إسرائيل وأمن القوات الأميركية كلها في المنطقة. إنّ تنامي نفوذ سليماني يعني نمو المحور الذي ينتمي إليه. إن حجم التهديد الذي مثّله سليماني للولايات المتحدة الأميركية كان كفيلًا بجعل قرار تنفيذ الاغتيال بأمر مباشر من شخص ترامب، الذي ما لبث أن غرّد بنشر صورة العلم الأميركي بعد انتشار خبر الاغتيال. كانت التغريدة واضحة الدلالة: “الاغتيال يعادل حفظ الأمة الأميركية”.

إقرأ على موقع 180  بين روسيا وسوريا... صراع أوليغارشيات

سليماني.. التهديد والردع

إنّ التهديد الذي سكن العقلين الأميركي والإسرائيلي في غرف صناعة القرار تكمن حقيقته في مساهمات سليماني في بناء محور إمتد من إيران إلى العراق وسوريا ولبنان واليمن وفلسطين. لقد أطلِق عليه لقب العقل المدبر لـ”ميدان المحور”، أو القيادة الأساس لما أسماه فيليب سميث، الكاتب في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، بـشبكة عابرة للحدود تقودها إيران“. وعن دور سليماني المحوري في هذه الشبكة في كل حدث إقليمي تقريبًا في العقدين الماضيين، يمكن الاستناد إلى شهادة مساعد نائب وزير الدفاع، إكسوم، حول دور سليماني في كل من العراق وسوريا في الفترة الزمنية ما بين عامي 2015 و2017، وفي ذلك قوله: “كنت أشاهد سليماني يتنقل ذهابًا وإيابًا بين سوريا والعراق. عندما كانت الحرب لدعم بشار الأسد تسير ببطء، كان سليماني يغادر العراق إلى سوريا. وعندما بدأت الميليشيات ـ على حد تعبيره ـ المدعومة من إيران في العراق محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، غادر سليماني سوريا إلى العراق”.

إنّ هذا التصريح الرسمي الصادر عن مسؤول أميركي ليس إلّا وثيقة تاريخية إزاء مساهمات الجنرال سليماني في محاربة تلك الجماعات التكفيرية الإرهابية المتطرفة. فقائد “قوة القدس” في الحرس الثوري، وفق هذه الشهادة، “كان رجل الميدان في محاربة الإرهاب الذي جاء به المخطط الصهيو-أميركي لتغيير خريطة المنطقة”، وفق ما كشفته وثائق رسمية وشهادات في الكونغرس الاميركي.

عملياً؛ تمكن قاسم سليماني من إرهاق الإدارة الاميركية بدعمه الدولة السورية في مواجهة أهداف الحرب الكونية عليها برعاية أميركية دولية وتواطؤ عربي وخليجي – للأسف – وذلك عندما أصبح رأس حربة في مواجهة المشروع التكفيري، فضلًا عن دوره في إنزال الهزائم بالأميركيين في العراق وسوريا واستنزاف الحضور الأميركي في حروب “لا نهاية لها”، كلّفت خزينة البيت الأبيض مع فوائدها الباهظة ما يقارب 27 تريليون دولار، علمًا أنّ فوائدها ممتدة حتى العام 2050.

الأفدح أن يُصبح جدول أعمال الأميركيين في مفاوضاتهم غير المباشرة مع طهران محكوماً بنقطة مركزية: نريد من طهران شطب “القائمة السوداء” التي تضم أسماء كل من هو مشتبه به أميركياً في عملية إغتيال سليماني وأبو مهدي المهندس

لقد كان الاغتيال جزءاً من استهداف القدرات الإيرانية النووية والبشرية والعسكرية، أمّا الهدف المطلوب فهو كسر الردع الإيراني المتعاظم في منطقة غرب آسيا بشعابه الثلاث: البرنامج النووي ودعم الحلفاء وبناء القدرات الصاروخية والباليستية، وقد أدرك هؤلاء أنّ قاسم سليماني هو رأس رمح إيران في المنطقة. إنّ الردع الإيراني بشقيه؛ النووي والعسكري، هو جوهر التهديد الإيراني الذي تعاظم لدرجة تصنيف الولايات المتحدة الحرس الثوري الإسلامي، بما في ذلك فيلق القدس في نيسان/أبريل 2019، على أنه “منظمة إرهابية أجنبية”. وفي هذا الإعلان، خصّ وزير الخارجية، مايك بومبيو، سليماني بالحديث، قائلًا: “بهذا التصنيف، نرسل إشارة واضحة ورسالة واضحة لقادة إيران، بمن فيهم قاسم سليماني”. وعليه، يمكن فهم ما قاله بومبيو لاحقاً “لا أعتقد أن أي مسؤول أميركي منتخب وعاقل سيرى ما شاهده الرئيس ترامب وأنا والوزير (مارك) إسبر، ويستنتج أنه كان بإمكاننا فعل أي شيء سوى الإجراء الذي اتخذناه”، ويقصد قرار الاغتيال الذي اتّخذ في غرفة الرئاسة مباشرة.

لقد كشف قرار الإغتيال عمق الانقسام الحزبي بين المشرّعين الأميركيين أنفسهم؛ يومها وصفت رئيسة مجلس النواب (السابقة) وزعيمة الديموقراطيين نانسي بيلوسي، تحرك ترامب “بالاستفزازي وغير المتناسب”، كما وصفت مديرة مبادرة مستقبل إيران في المجلس الأطلسي، باربرا سلافين، الغارة الجوية الأميركية بأنّها غبية جدًّا وذات نتائج عكسية، قائلة: “سوف ندفع الثمن“. لقد شكّك العديد من الخبراء في الأسباب الموجبة التي جعلت ترامب يعطي الضوء الأخضر لتنفيذ إجراء سينجح في وقف الحرب. هو إخفاق أميركي آخر يضاف إلى سجل سوء تقديرات العقل المدبّر بأن اغتيال سليماني ورفيقه نائب رئيس هيئة الحشد العراقي، أبو مهدي المهندس، قادر على تغيير توازن الردع في المنطقة.

القائمة السوداء

وإذا كانت عملية الاغتيال قد نجحت نسبيّا في تقييد قدرات إيران، إلا أنها لم تُقيّد إرادة إيران ونفوذها، كما يُعبّر كريم سادجادبور، الباحث في مؤسسة كارنيغي، بدليل حرص طهران على الإمساك بالورقة العراقية كما لم تفعل من قبل.. وخير دليل هو مسار تعاملها حلفاء إيران في العراق مع معطيات الداخل العراقي.

وما يسري على العراق ينسحب على لبنان وسوريا واليمن والعديد من الساحات التي كان يتحرك فيها سليماني.. ولكن الأفدح أن يُصبح جدول أعمال الأميركيين في مفاوضاتهم غير المباشرة مع طهران محكوماً بنقطة مركزية: نريد من طهران شطب “القائمة السوداء” التي تضم أسماء كل من هو مشتبه به أميركياً في عملية إغتيال الجنرال قاسم سليماني ورفيقه نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس قرب مطار بغداد فجر يوم الثالث من كانون الثاني/يناير 2020.

Print Friendly, PDF & Email
Avatar

أستاذة جامعية لبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  في لبنان.. الفاسد كالعميل فوق المحاسبة