دبابةٌ.. تُعيد ألمانيا إلى حدود روسيا بعد ثمانية عقود!

منذ أسابيع وألمانيا واقعة تحت ضغط هائل من حلفائها كي تتخذ قراراً بتزويد أوكرانيا بدبابات "ليوبارد". ويجري ربط مصير الحرب وإنتصار أوكرانيا فيها بحصول كييف على مئات الدبابات التي ستمكنها من مواصلة هجماتها المعاكسة في الربيع المقبل لطرد القوات الروسية من كامل أراضيها بما فيها القرم والدونباس.   

أوكرانيا وحلفاؤها يخوضون سباقاً مع الوقت. وكأنهم يخشون أن تتمكن روسيا بمرور الزمن من التغلب على مأزقها العسكري الراهن في الميدان، في ضوء الزج بـ280 ألف جندي شملتهم تعبئة أيلول/سبتمبر في الحرب، وسريان الحديث عن إحتمال الدعوة إلى تعبئة جزئية ثانية قريباً، وربما إيجاد حلول لمشاكل الإمداد التي كانت نقطة الضعف الأساسية لدى الجيش الروسي. مثل هذه التطورات قد تُمكن روسيا من قلب المعادلة الميدانية أو على الأقل مواجهة الهجمات الأوكرانية المعاكسة التي يجري الإعداد لها.

الإستراتيجية التي تتبعها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن حيال أوكرانيا هي الدفع نحو تقصير أمد الحرب، ودفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الجلوس إلى طاولة المفاوضات بشروط غير مثالية بالنسبة للكرملين. وقد تعتبر العودة الروسية إلى خطوط ما قبل 24 شباط/فبراير 2022 أمراً مقبولاً بالنسبة للولايات المتحدة لبدء الحديث الجدي عن المفاوضات. هذا ما إقترحه وزير الخارجية الأميركي سابقاً هنري كيسنجر في مداخلة إفتراضية أمام منتدى دافوس المنعقد حالياً. في سبيل هذه الغاية، تُكثّف أميركا من إرسال حزم الأسلحة التي بلغت بعد 11 شهراً نحو 27 مليار دولار، هذا عدا عن حزمتي دعم إقتصادي ومالي بنحو 80 مليار دولار.. والحديث عن سلاح الدبابات اليوم يعتبر نقلة نوعية من شأنها تغيير ديناميكية الحرب.

ما لم يكن يدور في الحسبان أن ترفض برلين إرسال دبابات “ليوبارد” إلا ضمن تحالف دولي ترسل بموجبه أميركا دباباتها من طراز “أبرامز”. وكان الرد الأميركي على المطالبة الألمانية بأن “أبرامز” تتطلب عمليات صيانة معقدة ومكلفة وتحتاج تدريباً طويلاً، على عكس دبابات “ليوبارد” الألمانية التي يعتبر إستخدامها أسهل بكثير بالنسبة للقوات الأوكرانية.

من شأن سلاح الدبابات أن يدخل النزاع الأوكراني في مرحلة أخطر ويزيد من إحتمالات وقوع صدام روسي-اطلسي مباشر. ولا شيء يضمن ألا يخضع شولتس في نهاية الأمر للضغوط الأميركية وتعود الدبابات الألمانية إلى الحدود الروسية بعد ثمانية عقود

في الوقت نفسه، طلب الأوكرانيون من بريطانيا إتخاذ خطوة تشجع ألمانيا على إنهاء ترددها، فأعلن رئيس الوزراء ريسي سوناك الأسبوع الماضي عزمه إرسال 14 دبابة “تشالينجر -2” إلى كييف، بينما كانت بولندا التي تملك دبابات “ليوبارد” تُهدّد بإتخاذ إجراء إستثنائي يتجاوز القاعدة التي تفترض الحصول على إذن ألماني قبل تزويد أي طرف ثالث بهذا الطراز من الدبابات الألمانية.

وليس بعيداً على مسارات الضغط على ألمانيا، كان إصدار 9 دول أوروبية بينها بريطانيا وجمهوريات البلطيق وهولندا وبولندا والدانمارك بياناً مشتركاً تعلن فيه إستعدادها لإرسال دبابات ومدفعية وأنظمة دفاع جوي إلى كييف. السويد، التي فكّت حيادها قبل أقل من عام، أبدت إستعداداً لتزويد أوكرانيا بمدفعية “آرتشر” بعيدة المدى، يمكن أن تضرب الأراضي الروسية أو على الأقل جزيرة القرم التي يسطر عليها الروس منذ تسع سنوات. أما الممثل الأعلى للإتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوزيب بوريل فقد حذّر من التكاسل حيال مواجهة روسيا، وذكّر بتجربتي نابليون وهتلر، وكيف وصلت روسيا إلى “حافة الهزيمة” وإستعادت قواها.

كل هذا التجييش الأوروبي يهدف في جزء أساسي منه إلى إحراج ألمانيا ووضعها في مأزق أخلاقي في حال عدم موافقتها على إرسال دباباتها إلى الحرب. والسؤال المحوري: لماذا التركيز على “ليوبارد”؟

هناك 2000 دبابة من هذا الطراز تستخدمها جيوش 13 دولة في حلف شمال الأطلسي. أي أنه من الناحية العملية هذه الدبابة هي الأكثر إعتماداً في أوروبا لأنها الأكثر حداثة، والتي يمكن أن تشكل نداً للدبابة الروسية “ت-90“، علماً أن الأخيرة أقل وزناً بعشرين طناً من “ليوبارد” التي تزن 69 طناً، بينما تزن “تشالينجر-2” 72 طناً. هذا يجعل من “ليوبارد” الأنسب عملياً قبل هجوم الربيع، وهذا ما جعل الضغوط الأميركية والأوروبية تتركز على ألمانيا، في وقت كان يتم تصوير المستشار أولاف شولتس بأنه العقبة الأخيرة التي تعترض شن الهجوم الأوكراني في موعده، وها هو وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن يتحدث عن “لحظة حاسمة” في أوكرانيا يتعين إنتهازها الآن.

وزادت إستقالة وزيرة الدفاع الألمانية كريستين لامبرخت في وقت سابق من الأسبوع الماضي وتعيين بوريس بستوريوس خلفاً لها من البلبلة. الإعلام الغربي جعل من إتخاذ قرار في شأن دبابات “ليوبارد” الإختبار الأول لهذا الوزير الآتي ومن وزارة الداخلية في مقاطعة ساكسونيا السفلى وسبق أن نافس شولتس على زعامة الحزب الديموقراطي الإشتراكي الذي يقود الإئتلاف الحاكم. لكن ليس من المعروف أن لديه أي تجربة عسكرية باستثناء تأديته الخدمة الإلزامية في الجيش في أوائل الثمانينيات الماضية، علماً أن ألمانيا قررت إلغاء التجنيد الإجباري في العام 2011، وهناك تفكير بعد الحرب الروسية-الأوكرانية وإقرار خطة تحديث القوات المسلحة بـ110 مليارات دولار، بإعادة العمل بالتجنيد الإجباري.

إقرأ على موقع 180  نحو الحرب العالمية الثانية.. تحالف المحور (5)

التصريح الأول الذي أدلى به بوريس بستوريوس قبل ساعات من إجتماع مجموعة الإتصال العسكرية لأوكرانيا الذي يضم ممثلين عن أربعين دولة في العالم في قاعدة رامشتاين الجوية الأميركية بألمانيا يوم الجمعة الماضي، نفى فيه الربط بين موافقة ألمانيا على إرسال “ليوبارد” إلى كييف بإرسال أميركا دبابات “أبرامز”. لكن عدم حسم إجتماع قاعدة رامشتاين لمسألة الدبابات، أكد أن القرار لا يزال في يد شولتس وليس في يد وزيره الجديد. وهذا تخوف كانت أعربت عنه صحيفة “الفايننشال تايمز” البريطانية عند الإعلان عن تعيين بستوريوس.

في أوروبا كما في أميركا، شولتس موضوع تحت المجهر منذ بداية الحرب، علماً أنه عندما تسلم منصبه قبل أكثر من عام، لم يفكر لحظة بأنه سيكون مستشاراً في زمن الحرب.

وفي نمط تفكير يدل على إلتزام الحذر الدائم، قال شولتس في مقابلة مع مجلة “دير شبيغل” الألمانية “إنه لا توجد قاعدة تنص على متى يمكن اعتبار ألمانيا طرفاً في الحرب في أوكرانيا.. لهذا السبب، من المهم جداً أن نفكر في كل خطوة بحذر شديد، وأن ننسق بشكل وثيق مع بعضنا البعض، تجنب التصعيد حيال الحلف (الأطلسي) يمثل أولوية قصوى بالنسبة لي.. أفعل كل ما في وسعي لمنع تصعيد يؤدي إلى حرب عالمية ثالثة، ويجب ألا تكون هناك حرب نووية”.

مقال في الموقع الإلكتروني لشبكة “سي إن إن” الأميركية، يوغل عميقاً في سبر أغوار التردد الألماني، ومنها الأخذ في الإعتبار بوجهة النظر التاريخية، أي أن شولتس أو أي زعيم ألماني، يجد صعوبة في إتخاذ قرار بوضع سلاح ألماني في مواجهة الروس، بعد 80 سنة من إنتهاء الحرب العالمية الثانية. وعلى هذا الهاجس، يرد مسؤول أوروبي للموقع نفسه، من دون أن يذكر إسمه، بأن الألمان يجب أن يأخذوا في الإعتبار أيضاً، أن دباباتهم قبل 80 عاماً قتلت أوكرانيين، وأنه يتعين عليهم اليوم إرسال دباباتهم للدفاع عنهم.

والزميل الأول لشؤون الحرب البرية في المؤسسة الملكية المتحدة جاك وتلينغ تناول في صحيفة “الغارديان” البريطانية، التأثير الذي يمكن أن يتركه إرسال دول غربية دبابات إلى أوكرانيا، فقال إن “هذا الإحتمال يوفر طريقاً نحو تجديد كييف الزخم من أجل إستعادة أراضيها من الإحتلال الروسي”.

الأخطر من ذلك، أن واشنطن لم تعد تستبعد فكرة تزويد أوكرانيا بأسلحة تمكنها من إستعادة القرم، بعدما كان المسؤولون الأميركيون يتحاشون الحديث عن الموضوع

المحامي والضابط البريطاني السابق فرانك ليدويدج، الذي خدم في البلقان وأفغانستان والعراق، يكتب في “الغارديان” أيضاً أنه “حتى الآن، فإن الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا لا تشمل كميات كبيرة من العتاد الذي يتيح لأوكرانيا إستعادة أراضيها. إن القدرات الأساسية التي تطلبها القيادة العسكرية الأوكرانية هي دبابات من صنع أميركي وعربات قتالية وقفزة نوعية في عدد قطع المدفعية.. ونتحدث هنا عن مئات وليس العشرات”.

إذن، الإنتصار الأوكراني في الحرب بات معقوداً على توافر مئات الدبابات الثقيلة، وليس العربات القتالية التي أبدت أميركا لإرسال مئة عربة “برادلي” منها، وكذلك كانت هناك حماسة فرنسية لفكرة إرسال عربات “أي آر إم إكس-10“. والأخطر من ذلك، أن واشنطن لم تعد تستبعد فكرة تزويد أوكرانيا بأسلحة تمكنها من إستعادة القرم، بعدما كان المسؤولون الأميركيون يتحاشون الحديث عن الموضوع. من يدري في ضوء التطورات على الجبهة من الوصول إلى حد تلبية طلب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بإرسال مقاتلات “إف-16“.

والدبابات الثقيلة، ستجعل من أوكرانيا دولة أطلسية بحكم الأمر الواقع، بعد حصولها على أنظمة غربية للدفاع الجوي وبينها الباتريوت ومدافع هاوتزر ومسيرات وأسلحة مضادة للدروع، مما يقلب نظام التسليح الأوكراني ذي التصنيع السوفياتي إلى الأنظمة الغربية.

من شأن سلاح الدبابات أن يدخل النزاع الأوكراني في مرحلة أخطر ويزيد من إحتمالات وقوع صدام روسي-اطلسي مباشر. ولا شيء يضمن ألا يخضع شولتس في نهاية الأمر للضغوط الأميركية وتعود الدبابات الألمانية إلى الحدود الروسية بعد ثمانية عقود.

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free online course
إقرأ على موقع 180  بين انقلابى النيجر والجابون.. المقاربة الفرنسية تتغير!