شارون “يمحو عرفات من الوجود”.. بتسميمه (113)

يروي الكاتب "الإسرائيلي" رونين بيرغمان في كتابه "انهض واقتل اولا، التاريخ السري لعمليات الاغتيال الإسرائيلية"، الموضوع الاكثر حساسية في عمليات الاغتيال والقتل المتعمد التي مارستها الاجهزة الاستخبارية والامنية والعسكرية الصهيونية في كل تاريخها، وهو المصير الذي آل اليه الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات.

في هذا الفصل الذي يحمل عنوان “قطاف شقائق النعمان”، لا يحسم الكاتب رونين بيرغمان فكرة أن تكون الاستخبارات الإسرائيلية تقف خلف عملية اغتيال ياسر عرفات بطريقة احترافية، بل يتعمد إلقاء ظلال من الشك عند القارىء هدفها ترسيخ فكرة ان يد الاستخبارات الصهيونية هي الأعلى والأقدر، وفي الوقت نفسه، تبرئة هذه الاجهزة، ولو بصورة شكلية، من تصفية عرفات، وذلك وفق نظرية النفي في معرض التأكيد، ولكن يتعمد الكاتب نفسه تنفيذ جريمة إغتيال أخلاقي وإنساني لعرفات قبل أن تُمارس قيادة الكيان الصهيوني ما يمكن ان يكون اغتيالاً جسدياً، وذلك وفق روايات لم يتم تثبيتها بالوقائع والأدلة، التي توفرت لاجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية”، من مصادر متعددة، بحسب زعم بيرغمان.

بعد تصفية مؤسس حركة “حماس” ورئيسها الشيخ احمد ياسين ومن ثم خلفه الدكتور عبد العزيز الرنتيسي وبعد ان تمكن ارييل شارون، رئيس الوزراء حينها، وبوساطة وزير الاستخبارات المصري الجنرال عمر سليمان من التوصل مع حركة “حماس” الى معادلة وقف عمليات الاغتيال والقتل المتعمد ضد القيادات السياسية للحركة مقابل وقف الأخيرة هجماتها الإستشهادية، “تمحور اهتمام شارون على فكرة التخلص من عرفات بأي طريقة من الطرق”، ويقول رونين بيرغمان ان افكاراً عدة “طرحت في هذه المجال، وبينها نفي عرفات مع عدد صغير من مساعديه الى إحدى الجزر قرب السودان أو الى جزيرة صغيرة قريبة من الشاطىء اللبناني، ومنها ايضا قتله بعملية لا تترك بصمات “إسرائيل” عليها”.

البعض فكر ان يكون عرفات هدفا للتصفية، والبعض الاخر فكر انه يجب ضربه بطريقة سرية من دون ان يتم ربط العملية بـ”إسرائيل” واخرون كانوا يؤيدون فكرة نفيه فيما ارتأى البعض الآخر ان يتم تركه وحيدا حتى “يعفن” في المقاطعة”

هنا يغوص بيرغمان في التفاصيل قائلاً: “كجزء من خطة نزع الشرعية عن عرفات، اعطى شارون مجموعة صغيرة من الصحافيين (انا من ضمنهم بالاضافة الى عدد من الصحافيين غير “الإسرائيليين”) الاذن بالاطلاع على المواد التي حصلت عليها اجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية” في ارشيف عرفات في مقره في “المقاطعة” في مدينة رام الله، وذلك من اجل نشر هذه المواد في كل انحاء العالم. واعطى توجيهاته بان تُحوّل اموال من الصندوق السري لقائد جهاز “الموساد” من اجل نشر هذه الوثائق في كتاب عبر المحيطات. وفكّر شارون في انتاج شريط فيديو صوّره جهاز الاستخبارات الرومانية في أواخر سبعينيات القرن الماضي”.

وينقل بيرغمان عن رئيس جهاز الاستخبارات الرومانية في زمن نيكولاي تشاوشيسكو ويدعى الجنرال ميهاي باسيبا قوله عن عرفات “لم ارَ في حياتي هكذا ذكاء ودم وفظاعات بغيضة كلها ممزوجة في رجل واحد”، مُستذكراً كيف ان رجاله تمكنوا من زرع كاميرات خفية في الاستراحة الرسمية التي كان يقيم فيها عرفات بعد إجتماعه بالرئيس تشاوشيسكو وكيف ان تلك الكاميرات صوّرت عرفات متورطاً في علاقات شاذة مع مرافقيه (من المؤكد ان الكاتب يمارس عملية الاغتيال الاخلاقي والانساني للقائد والزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، ومن الممكن ان يكون حاز على حصته من اموال الموساد التي خصصها شارون لهذا الامر، اذ لو ان هكذا مواد كانت بالفعل موجودة لما تردد شارون لحظة واحدة في نشرها عبر العالم بشتى السبل). ويتابع بيرغمان قائلا ان شارون اخبر مساعديه ان هذه الوثائق وصلت الى ايدي اجهزة الاستخبارات “الإسرائيلية” وانه كان يفكر بتوزيعها على الشبكة العنكبوتية بطريقة تظهر انها مجهولة المصدر، ولكن شارون عدل عن هذه الفكرة (من يعرف حجم العداوة التي يكنها شارون للفلسطينيين بصورة عامة ولعرفات بصورة خاصة يعرف جيدا انه يستحيل ان تتوفر هكذا مواد لدى شارون ولا يقوم بنشرها) عندما تمكنت “إسرائيل” من تحقيق الهدف نفسه عبر وسائل اخرى – باقناع الادارة الامريكية بان عرفات شخص لا يمكن اصلاحه، اذ حصلت على ادلة بينة بان عرفات متورط في تهريب الاسلحة على باخرة “كارين ايه” من ايران الى مجموعات “الارهاب” في السلطة الفلسطينية، وقد اعتقل طاقم الباخرة وجرى التحقيق معه فاعترف بتورط مساعد مقرب من عرفات بالامر، غير ان رئيس السلطة الفلسطينية نفى في رسالة خاصة بعث بها الى الرئيس الامريكي جورج بوش تورطه هو او اي من فريق عمله بالامر. ومع ذلك فان معلومات استخبارية تتضمن اشرطة تسجيل صوتية ووثائق وتقارير التحقيقات مع الموقوفين، حملها ضابط رفيع في جهاز “أمان” الى البيت الابيض وكانت اكثر اقناعا من رسالة عرفات. وعندما عرف بوش ان عرفات كان يكذب عليه بوقاحة اعلن ان الرئيس الفلسطيني غير صالح وفي 24 يونيو/حزيران 2002 دعا الشعب الفلسطيني لانتخاب قائد جديد.

وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2002، “وبعد سلسلة هجمات مرعبة ضد “الإسرائيليين” (على غير عادته لم يذكر الكاتب تفاصيل اي من تلك الهجمات وذلك بهدف التبرير للافعال الاجرامية التي ارتكبتها “إسرائيل” بحق مقر السلطة الفلسطينية ورئيسها في مدينة رام الله)، أعطى شارون الامر بتطويق مقر “المقاطعة”، أي مقر قيادة عرفات، والابقاء على عرفات وبعض رجاله محاصرين. وكانت تعليماته تقضي بأن تكون حياة بائسة لـ”لكلب المقاطعة” كما كان يصفه. ففي حين كانت تقطع الكهرباء واحياناً اخرى تقطع المياه، امر شارون احدى الشركات التي تملك جرافات مدرعة من طراز D9 ان تزيل جزءا من حائط مجمع المقاطعة كل بضعة ايام. البعض فكر ان يكون عرفات هدفا للتصفية، والبعض الاخر فكر انه يجب ضربه بطريقة سرية من دون ان يتم ربط العملية بـ”إسرائيل” واخرون كانوا يؤيدون فكرة نفيه فيما ارتأى البعض الآخر ان يتم تركه وحيدا حتى “يعفن” في المقاطعة”، كما جاء في رواية بيرغمان.

وحسب رواية بيرغمان “في ابريل/نيسان 2002، كان شارون ورئيس الاركان شاوول موفاز يجريان محادثة خاصة وكانا يجلسان بالقرب من ميكروفونات وضعت لنقل حدث عام، ولم يدركا ان فريق التلفزة الذي وضع الميكروفونات قد اوصلها الى الاجهزة وكان يصورهما من بعد وتضمنت المحادثة الآتي:

موفاز: يجب علينا التخلص منه.

شارون: ماذا؟

موفاز: التخلص منه.

شارون: اعرف.

موفاز: يجب ان نستفيد من الفرصة المتاحة الآن، فلن يكون هناك فرصة اخرى. اريد التحدث معك الآن.

شارون: ما هو العمل الذي نقوم به.. لا اعرف ما هي الطريقة التي ستستخدمها لهذا العمل (مع ضحكة مكتومة). ولكن يجب ان نجعل الجميع نيام. (وهنا تتحول النبرة الى الجدية) يجب ان نكون متنبهين.

يتابع بيرغمان، “لم يكن واضحاً بصورة دقيقة ما هو “العمل” الذي كان شارون يشير اليه في كلامه هنا ولكن الجيش “الإسرائيلي” واجهزة الاستخبارات كانوا قد حضّروا خطة طوارىء لكل استراتيجية قد يلجأ اليها عرفات. وكان قائد سلاح الجو دان حالوتس متحمسا لنفي عرفات من المقاطعة، وقد اختار جزيرتين صغيرتين – واحدة قرب الساحل اللبناني واخرى قرب السودان – لتكون احداهما المنزل الجديد المحتمل للرئيس الفلسطيني. ووفق وجهة نظره، يجب نفي عرفات الى هناك مع مساعدين اثنين والقليل من الطعام والماء للرحلة وعندها تعلن “إسرائيل” للعالم عن مكان وجوده. وتم تحديد وحدات مشاة خاصة لاقتحام المقاطعة والتقدم الى غرفة عرفات. وفكرت “إسرائيل” باستخدام غاز منوم داخل المجمع قبل اقتحامه من اجل عدم اهدار حياة احد (من المهاجمين). ولكن هذه الخطة الغيت لاننا “لم نكن متأكدين ان عرفات سيخرج حيا من هذه العملية”، بحسب ما ينقل بيرغمان عن رئيس وحدة الصدمات في الهيئات الطبية العقيد امير بلومنفيلد.

إقرأ على موقع 180  إسرائيل… اسطورة التعايش

وصلت انباء محاصرة عرفات الى واشنطن، يقول بيرغمان، “وقد خشي مسؤولون في الادارة الامريكية ان يكون شارون قد قرر تصفية عرفات كما فعل عندما صفى الشيخ احمد ياسين، وانه قد اعطى الامر بذلك. وفي اجتماع في البيت الابيض في 14 ابريل/نيسان عام 2004، طلب بوش من شارون ان يعطيه وعدا قاطعا بألا يؤذي عرفات، وبحسب احد الذين كانوا حاضرين في هذا الاجتماع، فان شارون قال للرئيس بوش انه فهم طلبه (“ارى وجهة نظرك”)، فرأى بوش ان شارون يراوغ في كلامه فضغط عليه اكثر حتى اعطى شارون وعده على مضض بالا يقتل عرفات”.

وحتى قبل الوعد، يضيف بيرغمان، “وخلال مشاورات شارون مع قادة الجيش “الإسرائيلي” واجهزة الاستخبارات كان قد جرى التوصل إلى استنتاج بانه يجب الا تظهر “إسرائيل” بأي شكل من الاشكال على علاقة بموت عرفات كيفما يحصل هذا الموت. وقد اصبح هذا الامر اكثر اهمية بعد الوعد الذي قطعه شارون للرئيس بوش”.

“وفجأة، فان الرجل الذي استطاع ان ينفذ من الموت المحتم مرات عديدة (هنا يتعمد بيرغمان عدم تسمية عرفات بالإسم، بل يترك الموضوع منسوبا لمجهول معلوم) وقع فريسة مرض غامض في الامعاء ومات. وتوصلت الاختبارات المخبرية التي بادرت اليها جهات عدة الى استنتاجات مختلفة، فوفقا لبعض الاختبارات وجدت آثار لمادة البولونيوم، وهي مادة مشعة تستخدم في عمليات الاغتيال، على ثياب عرفات ورفاته، فيما جزم خبراء آخرون بأنه مات ميتة طبيعية، اما الملف الطبي لعرفات في المستشفى العسكري الفرنسي قرب العاصمة باريس، حيث سمح شارون بنقل عرفات اليه كي لا يموت في المناطق الواقعة تحت السيطرة “الإسرائيلية”، فقد طرح العديد من الاسئلة ولم يستبعد ان تكون الوفاة ناجمة عن مرض نقص المناعة “الايدز”. (وهنا مجدداً يحاول الكاتب اغتيال عرفات اخلاقياً).

كرّر مسؤولون رفيعو المستوى في المجتمع الاستخباري “الإسرائيلي” القول “نحن لم نقتل عرفات”. من جهة اخرى ومما لا شك فيه ان توقيت وفاة عرفات كان غير مألوف خاصة انه جاء بعد وقت وجيز من اغتيال الشيخ أحمد ياسين، وقد كتب يوري دان، الناطق باسم شارون في كتابه الذي عنونه “ارييل شارون، صورة حميمة”، بان شارون وفي آخر لقاء له مع بوش اخبر الاخير انه لم يعد ملتزماً بوعده السابق بعدم قتل عرفات وان الرئيس بوش لم يبدِ اي ردة فعل، وفي تلك الفترة، اشتكى دان لشارون وسأله لماذا لا ينفي عرفات او يحاكمه؟ فاجابه شارون باختصار “دعني اعمل الاشياء وفق طريقتي”. وهنا لاحظ دان ان شارون “قطع فجأة المحادثة بيننا وهو امر لم يكن يحصل في العادة” ويتابع دان ان الحالة الصحية لعرفات بدأت بالتدهور بعد اللقاء الاخير مع الرئيس بوش ليستنتج بالقول “سيبدو شارون في كتب التاريخ انه الشخص الذي محا عرفات من الوجود من دون ان يقتله”.

يتابع بيرغمان متحدثا عن نفسه، “لو كنت اعرف الجواب على سؤال من الذي قتل عرفات لم يكن بمقدوري ان اكتب الجواب في هذا الكتاب او حتى كتابة اني اعرف الجواب، فالرقابة العسكرية في “إسرائيل” تمنعني من مناقشة هذا الموضوع”.

وفقا لبعض الاختبارات وجدت آثار لمادة البولونيوم، وهي مادة مشعة تستخدم في عمليات الاغتيال، على ثياب عرفات ورفاته، فيما جزم خبراء آخرون بأنه مات ميتة طبيعية

بامكان المرء القول، بحسب بيرغمان، ان شارون اراد التخلص من عرفات الذي كان يراه “وحشا يسير على قدمين” والذي فشل في قتله قبل عشرين عاما من ذلك التاريخ. فلو ان شارون اعطى الامر بتصفية عرفات فقد تم تنفيذ الامر باقصى درجة من السرية وفي مجمع صغير جدا، اصغر من اي مجمع اعطى الامر باية عملية قتل متعمد اخرى. فشارون نفسه قال بعد وفاة عرفات “ان الاحداث الاخيرة يمكن ان تكون تاريخية ونقطة تحول، فاذا ما ظهرت قيادة فلسطينية مختلفة وجدية ومسؤولة بعد وفاة عرفات، قيادة تحترم تعهداتها.. ستكون هناك فرصة لتنسيق خطوات عدة مع هكذا قيادة وحتى لاستئناف العلاقات الدبلوماسية معها”.

ويختم بيرغمان هذا الفصل، أنه “من دون الاقرار مباشرة باي تورط في وفاة عرفات، فان الهرمية العليا في “إسرائيل” اقرت في تلك الفترة ان ازاحة عرفات حسّنت الوضع الامني لـ”إسرائيل”. فقد قام محمود عباس الذي جرى تعيينه خلفا لعرفات رئيسا للسلطة الفلسطينية وسلام فياض، الذي لديه علاقات وطيدة مع الادارة الامريكية والذي اختير ليكون رئيسا للوزراء، بشن حملات واسعة ضد “الارهاب”، وحتى القادة المشككين في جهاز الشين بيت اقروا بانه بعد تولي عباس وفياض زمام الامور بدا ان الفلسطينيين كانوا جادين في وقف “الارهاب” وان الهدوء الذي ساد بعد وفاة عرفات يعود الفضل فيه بصورة كبيرة الى التعاون الامني الوثيق بين الجانبين. وهكذا فان الحرب التي اندلعت بين “إسرائيل” والفلسطينيين في سبتمبر/ايلول عام 2000 – حرب التفجيرات الانتحارية وعمليات القتل المتعمد – تراجعت كثيرا الى ان انتهت كلياً مع الوقت”.

Print Friendly, PDF & Email
Premium WordPress Themes Download
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  عملية فردان بلسان جاسوسة "الموساد": "كان عرضاً تُرفع له القبعات" (29)