من المُتعسّر إلى حدّ بعيد افتراض تعرّض فلاديمير بوتين لهزيمة لن تعني أقل من قلب صفحة روسيا من كتاب الدول العظمى وتشرذمها وإخراجها محطمة من المشهد الدولي وإعادة تثبيت الأحادية الأميركية على أنقاض بوتين.. وعلى عرش العالم؛ كذلك من العسير من الجهة المقابلة توقع انكسار الغرب برمته أمام القوة الروسية الناهضة بطموح قيصري هائل.. وهذان نفيان غير منطقيين عملياً بأي شكل بحيث يبدوان غير واقعيين.
ربما لكسر هذه الحِدّة العسيرة على الفهم، يعلّق المراقبون في الغرب آمالهم على ما يُسمّونها “معركة الربيع” الفاصلة التي ينبغي حسب منطقهم، أن تفضي إلى جلاء الغموض لمصلحة الغرب. والمعنى أنهم يراهنون على جدوى دخول دباباتهم الحديثة إلى الميدان، على اعتبار أنها ستحمل الجواب اليقين.
إلا أن هكذا نتيجة لا بد أن تكون مرتكزة على استنتاج ضروري مُسبق يحتاج إلى التأكيد، بأن دباباتهم المتطوّرة ستكون العامل الأساس في حسم نتيجة الحرب القائمة. وهذا تفاؤل طموح وغير مضمون البتّة، لا سيما وأن الجنرالات الروس ليسوا متكاسلين على مقاعد المتفرّجين، ويدركون طبيعة ما ينتظر وحداتهم المقاتلة، وبالتالي يرسمون من جهتهم سُبُلهم للمواجهة، وللتذكير هؤلاء عملوا تِباعاً وبشكل منتظم على رفع مستوى الأسلحة والأعتدة التي يزجّونها في المعارك، تبعاً لتطوّر الأسلحة والأعتدة التي تواجههم في الميدان.
وهنا يقف قادة الغرب أمام جدار ـ حاجز لا يعرفون تماماً ما ينتظرهم خلفه من مفاجآت برع الروس في تحضيرها وإخراجها إلى الميدان خلال السياقات العسكرية الجارية على امتداد سنة الحرب المنصرمة، ذلك أن مصانعهم العسكرية لم تتوقف دقيقة عن العمل، برغم أن معظم ما إستخدم في الحرب حتى الآن لم يخرج عن سياق الأسلحة التقليدية الروسية.
لماذا يلجأ بوتين إلى النووي طالما أن فرص أسلحته التقليدية لم تنفذ؟ ثم أنه.. و”بفضل” الدبابات الألمانية والأميركية والبريطانية وغيرها المنتظر وصولها إلى حقول الجليد الأوكرانية، سيكون أمام الروس فرصة مفتوحة لـ”حرق” هذه الورقة الغربية الأخيرة، وهم الذين يرفعون مستوى القوة التسليحية التي يزجونها في المعارك
وكان لافتاً للإنتباه قول الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف إن “الأسلحة الغربية الجديدة ستفاقم من حدة الصراع، ولكنها لن تغير مجراه”. والمعنى أن روسيا لن تقف مكتوفة الأيدي أمام التصعيد الغربي المحتمل.. لكن ماذا ستفعل بالضبط حيال ذلك، بل ماذا بوسعها أن تفعل؟ هل هي الحرب العالمية الثالثة التي تحمل في طيّاتها الجحيم النووي.. كما تسوّق صحيفة “تايم” الأميركية؟ وهل ستكون روسيا قادرة حقاً على تحقيق مآربها في الموسم المقبل، وفي إقليم “دونباس” بالتحديد، وما بعد “دونباس”، أم انها ستكون في وارد “الهزيمة الحتمية”، ما يضطرها إلى القبول بتسوية تفاوضية بشروط أوكرانية مُهينة، أو اللجوء إلى المجظور النووي، أو ربما.. الإنكفاء إلى الداخل والتفرّغ لكيفية لعق جراحها.. والغرق في حروب روسية بينية داخل أروقة الكرملين أو في شوارع موسكو (على ما يلهج به الإعلام الغربي..) على وقع سقوط الصواريخ الأميركية بعيدة المدى التي يشغّلها خبراء الغرب من أوكرانيا.
ربما كان الأجدى من الركون للتهويل الغربي بحرب نووية يشنّها الروس “الأشرار”، أن نتذكر أن قوة عالمية عظمى بوزن روسيا، لم تخرج من حساباتها إحتمال هزيمة وتحطيم قوة صغيرة مثل أوكرانيا وإحراج حلف شمال الأطلسي معها، باستخدام ترسانتها العسكرية التقليدية وحدها، من دون اللجوء إلى استخدام أسلحتها النووية. وهذا ما ألمحت إليه مجلة “ذا ناشونال إنترست” الأميركية مستشهدة بحادث مشابه لما يجري في أوكرانيا اليوم، وذلك حين غزا الاتحاد السوفياتي السابق جارته المجر عام 1956، حيث اختارت واشنطن يومها السكوت في النهاية.. مُفضّلة مراقبة الدبابات السوفياتية في شوارع بودابست، على شنّ هجوم نووي.
فما الذي يمنع من تكرار المشهد اليوم في أوكرانيا؟
وهنا يأتي دور السؤال الإعتراضي: لماذا يلجأ بوتين إلى النووي طالما أن فرص أسلحته التقليدية لم تنفذ؟ ثم أنه.. و”بفضل” الدبابات الألمانية والأميركية والبريطانية وغيرها المنتظر وصولها إلى حقول الجليد الأوكرانية، سيكون أمام الروس فرصة مفتوحة لـ”حرق” هذه الورقة الغربية الأخيرة، وهم الذين يرفعون مستوى القوة التسليحية التي يزجونها في المعارك مع ارتفاع مستوى أسلحة الخصم. وهذا، إن حصل، سيضع نهاية منطقية للحرب، ويمنح واشنطن ومعها الدول السائرة في ركابها، العذر الكافي تحت عنوان “حاولنا جهدنا.. ولكن”. ولا يبقى على القائد الجديد الجنرال فاليري غيراسيموف، المُعيّن على رأس الأركان العامة للإشراف المباشر على العمليات الأوكرانية، سوى استخدام القوة الهائلة المتاحة لسلاحه الجوي ومنظوماته الصاروخية المتقدمة، لإجبار الزعيم الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على الموافقة على اتفاقية سلام تضمن تأمين المصالح الروسية.
أهمية هذا الافتراض في أنه يفسّر ما توقعه أحد قادة “الناتو” السابقين، الجنرال هانزلوتر دومروزه، حين تحدث عن “هجوم روسيّ كاسح في الربيع المقبل، تُخاض خلاله معارك دامية وشرسة تتكبّد فيها أوكرانيا خسائر فادحة وتخسر بعض المناطق الإضافية”.
ما هي أوراق القوة الأخرى بيد الروس؟
تراهن موسكو على استفحال أزمة الطاقة في القارة العجوز وأن تؤثر على القرار السياسي فيها وتتسبب في حصول انقسام سياسي داخل المنظومة الغربية كنتيجة للأزمة المتوقعة في في مجال الطاقة.. وهذا ما هو حاصل عملياً وربما يتطوّر نحو الأسوأ على وقع الأخبار التي لا يُمكن إخفاءها عن تقلّص مخزونات السلاح والعتاد في ترسانات الدول الأوروبية إلى حد الإستعانة بما يُخزّنه البنتاغون في “إسرائيل”. هذا فضلاً عن دفعات المدد الصيني لروسيا بالرقائق الإلكترونية الضرورية لإنتاج الصواريخ الروسية. يأتي هذا خصوصاً بعد ضَم الروس ما يشكّل مجموع 20 % من مساحة أوكرانيا و70 % من حجم الاقتصاد الأوكراني وعمليات التدمير المنهجي للبُنى التحتية في أوكرانيا. وهذا يعني أن المعركة الروسية باتت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق كل أهدافها. هذا من دون إغفال ما ينشره خبراء أوروبيون من أنّ “كلفة وحدة الصف الأوروبية خلف واشنطن ستجعل اقتصاديات اوروبا ومصانع الأسلحة فيها تعمل لفترة أكثر من 15 سنة لكي تُعيد تعويض الخسائر التي تكبدتها حتى الآن”. كل هذا و”العملية الخاصة” تتجه نحو ذروة جديدة، في حين أن المعارك في الجنوب تقرّب الروس من قطع الجسر المؤدى إلى مدينة بوكروفسكي، ما يعني قطع عمليات إمداد أوكرانيا بالسلاح والعتاد، وبالتالي حدوث “مفاجآت استراتيجية”، كما توقعت “الغارديان” البريطانية.
الاستنتاج المنطقي من كل ذلك يشير إلى أن العملية الروسية في أوكرانيا تقترب من نهايتها بالفعل.. وكل الغبار الإعلامي الذي يشيعه الإعلام الغربي، لا يعدو كونه كتابة على الماء.