روسيا الجديدة خارجياً.. الإمساك بالفضاء الأوراسي

في 31 مارس/آذار 2023 الحالي، وقّع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مرسوما بالمفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية، بما يعني الانتقال من مرحلة القطب العالمي الاوحد (أميركا)، الى مرحلة التعددية القطبية المرتكزة على القوة الاقتصادية التي تقدمت على القوة العسكرية في صوغ الاستراتيجيات على مساحة المعمورة.

الاعلان عن هذا المفهوم الجديد للسياسة الخارجية الروسية، جاء في أعقاب الزيارة التاريخية التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ الى الاتحاد الروسي (20 ـ 22 آذار/مارس)، اذ سُجل اطول اجتماع قمة بينه وبين بوتين استمر نحو عشر ساعات، تخلله بحث تفصيلي في كل الملفات الحيوية، لا سيما تلك التي تتهدد كل من روسيا والصين، فالأولى تواجه حرباً عالمية مع الناتو على أرض أوكرانيا، بينما تواجه بكين حرباً إقتصادية، بما تمثل حالياً من ثقل في الإقتصاد العالمي.

ترجم بوتين في الوثيقة الجديدة للسياسة الخارجية الروسية هذا التحول الذي فرضته سياقات ممتدة منذ تفكك الاتحاد السوفياتي، قبل ثلاثة عقود من الزمن. لذلك؛ وضع في رأس اولويات التوجه الجديد اعتبار الولايات المتحدة المحرك الرئيسي للسياسة المعادية لروسيا وأكبر تهديد يواجه العالم وتطور البشرية، وهو بذلك قرر انتهاج سياسات تقوم على اعتبار الولايات المتحدة “العدو الاول”، مع ما يقتضيه ذلك من تطوير للقدرات والتقنيات والإمكانيات العسكرية والتسليحية والاقتصادية وتطوير التحالفات، لا سيما التحالف الاستراتيجي مع الصين.

وللمرة الاولى تتحدث الوثيقة عن استعداد روسي لاستخدام القوة العسكرية ليس فقط في الدفاع عن السيادة الروسية انما في الدفاع عن الحلفاء، اي استعداد روسيا للانتقال الى أرض الحلفاء لخوض المواجهة الى جانبهم في حال تعرضهم لاي اعتداء، على قاعدة ان روسيا “سوف تستخدم الجيش لصد ومنع أي هجوم مسلح ضدها أو ضد أي من حلفائها”، وهذا يفترض ايضاً فتح الباب أمام اقامة قواعد عسكرية روسية في دول حليفة في شتى أنحاء العالم. وبالتالي لن تكون القواعد العسكرية في سوريا او بيلاروسيا هي الاستثناء انما ستتوسع لتشمل مناطق استراتيجية في ما تسمى الدول الحليفة، انطلاقا من المبدأ القائل ان روسيا “ستتعامل مع الدول الأخرى بالمثل”.

حدّدت وثيقة التوجهات الخارجية الجديدة مرتكزين اساسيين ستجعل منهما روسيا دعامة استراتيجية ومنطلق عملية اعادة التوازن على مستوى القرار الدولي، من خلال الاهتمام، والى ابعد الحدود، بتعزيز العلاقات والتنسيق مع مراكز القوة العالمية الصديقة كالصين والهند، اي اكبر قوتين بشريتين واقتصاديتين في العالم.

من التوجهات البارزة في الوثيقة، الالتزام الروسي الصريح بسيادة روسيا في “اوراسيا”، التي استغلت الولايات المتحدة الاميركية ودول الاتحاد الاوروبي تفكك الاتحاد السوفياتي في عملية قضم دولها واخضاعها لنفوذها وجعل العديد منها اعضاء في حلف شمال الاطلسي المناهض لروسيا، وبالتالي؛ فان المشروع الرائد بالنسبة إلى روسيا في القرن الحادي والعشرين هو تحويل “أوراسيا” إلى مساحة متكاملة يعمها السلام والاستقرار والازدهار، بما يعني وقف تدخل الناتو فيها بالاستفادة من تجربة الحرب المستمرة في اوكرانيا. وفي ذلك ايضا، رفض مطلق لسياسة خطوط التقسيم في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.

والنقطة الاهم في التوجهات الجديدة، اعلان روسي صريح بأن روسيا تُعرِّف نفسها بأنها “معقل العالم الروسي ومهد إحدى الحضارات الأصيلة التي تحافظ على التوازن العالمي”، في رسالة الى واشنطن بأن زمن الاحادية القطبية قد انتهى، واي حوار وتفاوض جديد بين البلدين سيكون انطلاقا من الندية وعلى قدم المساواة في تحديد التوجهات والمواقف من القضايا العالمية المطروحة، وهذا يُدلّل على أهمية الملفات التي تم الاتفاق عليها في القمة الروسية الصينية مؤخراً..

نقطة مهمة جعلتها وثيقة التوجهات الخارجية الجديدة في صلب أولوياتها، وهي مكافحة “الروسوفوبيا” (الرهاب الروسي) في مختلف المجالات، باعتبارها من أولويات السياسة الإنسانية لروسيا في الخارج. اذ دخل مفهوم “الروسوفوبيا” في سياق الصراع الأوكراني – الروسي في لغة السياسة الرسمية الدولية؛ ما دفع الرئيس فلاديمير بوتين إلى التحذير من أن إذكاء لمشاعر الخوف من روسيا في أوكرانيا قد يؤدي إلى كارثة. كما أشار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى “أن الخوف من روسيا أصبح سمة من سمات السياسة الخارجية لبعض البلدان”، أضاف، في الوقت نفسه، أن هذا النمط من الكراهية “يمكن علاجه من خلال الحوار”. وقد أكد سيرغي ناريشكين، مدير جهاز المخابرات الخارجية الروسي، أن “القوة الناعمة وسيلة فعالة لمكافحة الخوف من روسيا”، ولا سيما الترويج للثقافة الروسية، التي ستحيد الرسالة المعادية لروسيا، خاصةً في الغرب، لذلك؛ بدأت روسيا بالتعامل بجدية أكبر مع “الروسوفوبيا” بعدما أقر البرلمان الأوروبي، عام 2015، أن موسكو دولة مُعتدية، وشبه جزيرة القرم هي أراضٍ مُحتلة؛ ما دفع الحكومة الروسية إلى الدفاع عن موقفها بالتعبير الذي جاء على لسان عضو مجلس الأمن القومي الروسي سيرغي إيفانوف: “ضم شبه جزيرة القرم ودعم استقرار الدونباس منعا “الروسوفوبيا” من القيام بالتطهير العرقي”.

المشروع الرائد بالنسبة إلى روسيا في القرن الحادي والعشرين هو تحويل “أوراسيا” إلى مساحة متكاملة يعمها السلام والاستقرار والازدهار، بما يعني وقف تدخل الناتو فيها بالاستفادة من تجربة الحرب المستمرة في اوكرانيا. وفي ذلك ايضا، رفض مطلق لسياسة خطوط التقسيم في منطقة آسيا والمحيط الهادئ

وبعد جائحة “كوفيد – 19″، والتي توزعت الاتهامات بشأن مصدرها، شرقاً وغرباً، منحت وثيقة التوجهات الخارجية الجديدة هذا الخطر اهتماما خاصا، حيث ستقوم روسيا بالتحقيق في التطوير المفترض للأسلحة البيولوجية والسمّية، كون الأسلحة البيولوجية تشتمل على كائنات دقيقة عبارة عن فيروسات وبكتيريا وفطريات، ومجموعة من السموم الأخرى، يتم إنتاجها في مختبرات خاصة، وتقوم بعض الدول أو الجماعات بإطلاقها بهدف التسبب في أمراض خطيرة لدول أخرى. ويمكن عدّها نوعاً من أسلحة الدمار الشامل؛ التي تشمل أيضا الأسلحة الكيميائية والنووية والإشعاعية، وهي من الأسلحة التي تسبب مشاكل خطيرة للغاية، ويمكن لأي شخص أن يشن بواسطتها هجوماً إرهابياً بيولوجياً، نظراً لانخفاض تكلفتها وسهولة الحصول على مكوناتها وسرعة تحضيرها ويسر نقلها.

إقرأ على موقع 180  "هآرتس": الإتفاق يُثبّت معادلة "قانا ـ كاريش"

الجدير ذكره أن الهندسة الحيوية زادت من خطورة استخدام السلاح البيولوجي وتحضير أسلحة جرثومية لأهداف عسكرية محددة. ومن خصائص الأسلحة البيولوجية أن الكمية المطلوبة لتحضيرها أقل مما تتطلبه الأسلحة الكيميائية، كما أنها عديمة الرائحة واللون، ويتم إنتاجها من دون الحاجة إلى أي معدات متخصصة، ويتم تحضيرها على هيئات كثيرة؛ فتأتي في شكل عبوات ناسفة، أو على هيئة بخاخات أو في طعام أو شراب. وهي على عكس القنابل النووية والكيميائية، إذ يسهل إحاطتها بالسرية التامة، كما أنها تنتشر بشكل خفي عبر الهواء؛ فهي بلا لون ولا رائحة، وبالتالي لا يمكن اكتشافها أو تحديد مصدرها؛ وأمام كل هذه الخصائص تكمن خطورتها. ولعل أحد أبعاد الحرب في اوكرانيا أن الأخيرة أباحت أراضيها لإنشاء مختبرات بيولوجية تنتج هكذا مواد بيولوجية وسمية خطيرة.

يبدو ان القيصر الروسي ماضٍ في حجز مقعده في النظام العالمي الجديد المتعدد الأقطاب؛ فمن افشال المخطط الجيورجي (2004) ابان حقبة جورش بوش الابن مروراً بسوريا (2011) وصولاً إلى اوكرانيا (2022)، يمضي بوتين في معركته التي هي معركة موت او حياة، وثمة قاعدة يُردّدها كثيرون أن ليس بالضرورة لروسيا أن تنتصر بشكل كامل في حرب أوكرانيا، لكنها حتماً لن تنهزم، ما يعني أن هذه الحرب مرشحة لأن تستمر، بعكس ما يشتهي الشعبان الروسي والأوكراني.

Print Friendly, PDF & Email
داود رمال

صحافي لبناني

Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  في أوكرانيا.. نهايةُ نظامٍ دولي وبدايةُ آخر