في كتابه “إنهض واقتل أولاً، التاريخ السري لعمليات الإغتيال الإسرائيلية”، يبدأ رونين بيرغمان سردية الغارة على دير الزور من عند الإجتماع الذي عقده رئيس جهاز “الموساد” مائير داغان (2002 ـ 2010) مع الرئيس الأمريكي جورج دبليو بوش في واشنطن في صيف العام 2007 “وختمه الأخير بأمرين واضحين ومتعارضين؛ أن يُصار إلى التأكد من معلومات الموساد حول منشأة دير الزور أولاً ومن ثم عدم تسريب أي معلومة عنها، الأمر الذي اعتبره هايدن صعباً للغاية، كون التأكد من الأمر يتطلب اطلاع عدد من الأشخاص، وهذا ما يُصعّب كتمان السر وبالتالي يُخشى من تسريبه”.
ويقول بيرغمان، “عمل هايدن على الموازنة بين الأمرين الصادرين عن بوش، وبدأت الـ”سي آي ايه” وأجهزة استخبارات أمريكية أخرى “جهوداً مكثفة على مدى شهور طويلة للتأكد من المعلومات التي زوّدتهم بها إسرائيل عن المفاعل وبجمع المعلومات من مصادرنا الخاصة وبطرقنا الخاصة” بحسب ما ينقل الكاتب عن هايدن. وجاءت النتيجة التي توصل اليها فريق مشترك من وكالة الأمن القومي الأمريكية (ان اس ايه) والـ”سي آي ايه” في شهر يونيو/حزيران وقد تضمنت المخاوف نفسها التي أعربت عنها إسرائيل”، وجاء في تقرير الفريق “أن خبراءنا في الاستخبارات على ثقة أن المنشأة هي في الحقيقة مفاعلاً نووياً شبيهاً بالمنشأة النووية التي بنتها كوريا الشمالية في مدينة يونغ بيون.. وأن لدينا سبباً قوياً للاعتقاد أن المفاعل لم يكن بنية الاستخدام السلمي”.
ويتابع الكاتب، أن الولايات المتحدة الامريكية “أعربت مراراً عن التزامها بأمن “إسرائيل” وأراد إيهود أولمرت منها أن تكون عند التزامها، وأن تقوم القوات الأمريكية بتدمير المفاعل، وتوقيت ذلك كان امراً مهماً أيضاً (لأولمرت). فقد قال الخبراء في مفاعل ديمونا النووي (“الإسرائيلي”) إنه وفقاً لما رأوه في الصور، فان المنشأة السورية قاربت على الانتهاء وقدّروا أنها لن تحتاج لأكثر من ستة أشهر ليصبح المفاعل جاهزاً كلياً. وإذا ما تم الانتظار حتى ذلك الوقت لقصفه، فإن من شأن ذلك أن يتسبب بتلوث اشعاعي وكارثة بيئية”.
من الناحية العملية ـ يتابع بيرغمان ـ “كان بإمكان سرب من قاذفات الشبح “بي 2” الأمريكية أن يُدمّر المنشأة من دون أية مشاكل خاصة، ولكن وفقاً لحسابات خبراء الشرق الأوسط في الـ”سي أي ايه”، فإن مهمة القصف الأمريكي ستكون محفوفة بالمخاطر. وقد قال هايدن لمائير داغان “إن خبرائي محافظون للغاية”، وذلك فيما أسماها “واحدة من أصرح المحادثات التي اجريتها معه”، وفيها قال هايدن إن عائلة الأسد تُذكّره بعائلة كورليوني في فيلم “العراب”، ولكن عندما ازيح الإبن “صوني” تسلّم مقاليد الأمور مكانه ولده الموهوب “مايكل”، ووفقاً لهذه المقارنة، فإنه عندما قتل باسل الأسد في حادث السيارة “كان على الأسد الأب أن يُولي فريدو/بشار” الذي كان يعرف بالـ”سي آي ايه” بـ”المخطئ المتسلسل في الحسابات”. وأضاف هايدن “أن الأسد لا يستطيع أن يتحمل احراجاً آخر بعد انسحابه عام 2005 من لبنان، ومن موقع الضعف لا بد له أن يظهر القوة بالرد عبر الحرب”.
لكن داغان كان له رأي معاكس تماماً، يقول بيرغمان، إذ ردّ عليه قائلاً “عليك أن تنظر إلى الأمور من وجهة نظر الأسد، فمن جهة، كان على الدوام يريد أن يحقق المساواة مع إسرائيل، وبالتالي أن يضع يده على سلاح نووي، ومن جهة ثانية، فإن بشار الأسد فضّل دائماً عدم مواجهتنا بصورة مباشرة. أضف إلى أنه إن ذهب إلى الحرب بعد القصف، فإن ذلك سوف يُبيّن أن المنشأة التي بناها – وهي تُشكّل خرقاً لتوقيعه معاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية – حتى حلفائه الروس لم يكونوا على علم بها وبالتأكيد لن يكونوا سعيدين بمعرفة ذلك. فان هاجمنا بسرية واحتفظنا بالأمر طي الكتمان ومن دون أي اعلان عن الهجوم ومن دون إحراجه فإن الأسد لن يفعل شيئاً”.
ويكشف بيرغمان “أن القرار النهائي اتخذ خلال إجتماع مع الرئيس الأمريكي، والذي نظرا للدرجة العالية من السرية، لم يعقد في الجناح الغربي للبيت الأبيض، بل في القاعة الصفراء البيضاوية في الجناح السكني، وذلك كي لا يُدرج الاجتماع في لائحة المواعيد الرئاسية العامة المسجلة. وخلال الإجتماع، فقط نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني أيّد هجوماً أمريكياً على المنشأة زاعماً أن على الولايات المتحدة أن تُرسل من خلاله رسالة قوية جداً ليس فقط لسوريا، بل أيضاً لكوريا الشمالية وإيران. أما وزيرة الخارجية (كوندوليسا) رايس فقد اعتبرت أن المفاعل السوري يُشكّل “خطراً وجودياً” على “إسرائيل” لكنها لم تعتقد أن على الولايات المتحدة أن تتورط في الأمر. من جهته، قالها مدير الـ”سي آي ايه” مايكل هايدن (2006 ـ 2009) إن المفاعل بات في مرحلة متقدمة من البناء، ولكن سوريا لا تزال تحتاج طريقاً طويلاً لامتلاك قنبلة ذرية. واختتم الرئيس بوش الإجتماع بالقول إن أمريكا “غارقة في مستنقع حرب في بلدين مسلمين (أفغانستان والعراق) وما أخبرني به للتو مايك (هايدن) أن ذلك لا يُشكّل خطراً داهماً، لذلك لن نفعل ذلك”. وهكذا بات على “إسرائيل” أن تعتمد على نفسها”.
يتابع الكاتب، “أن وضع سوريا يدها على سلاح نووي بلا شك هو تهديد وجودي لـ”إسرائيل” ولكن المحللين في جهاز “أمان” وافقوا هايدن وحذروا أولمرت من أن مهاجمة سوريا من دون استفزاز مسبق ومباشر يمكن أن يؤدي إلى رد فعل عسكري قوي من قبل الأسد. لكن داغان على الجهة المقابلة نصح بأن يتم القصف على الموقع على الفور وقبل أن يُصار إلى تفعيل المفاعل، وأضاف “دولة إسرائيل لا تستطيع أن تتحمل امتلاك دولة في حالة حرب معها سلاحاً نووياً” (…).
“وفي الساعة الثالثة من فجر يوم السادس من سبتمبر/أيلول 2007، أقلعت طائرات مقاتلة من قاعدة رامات ديفيد الجوية في شمال “إسرائيل” على بعد حوالي 15 ميلاً جنوب غرب حيفا، يقول الكاتب، وتوجهت غرباً إلى البحر الأبيض المتوسط ومن ثم جنوباً. كان الأمر جزءاً من تمرين روتيني على الإخلاء، وهو معروف لوكالات الاستخبارات العربية التي تراقب سلاح الجو “الإسرائيلي”، لذلك لم يكن هناك شيء خاص في هذا التحرك، ولكن هذه المرة، فان مخططي التمرين قصدوا ارباك أولئك الرجال الذين يراقبون التحرك على أجهزة راداراتهم في دمشق. وفي نقطة ما فوق البحر، انفصل تشكيل من طائرات إف 16 المقاتلة عن الطائرات الأخرى وذهب في اتجاه معاكس نحو الشمال. طواقم هذه الطائرات كانت على بينة بالموقع المحدد للأهداف التي يجب تدميرها. فقد تم شرح أهمية هذه المهمة لهم من ضباطهم قبل اقلاعهم. طاروا على علو منخفض على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط ومن ثم فوق تركيا قبل دخول المجال الجوي السوري، ومن على مسافة ثلاثين ميلاً أطلقوا 32 صاروخاً على ثلاثة مواقع داخل المجمع النووي السوري”.
يتابع بيرغمان، “بُوغت السوريون بعنصر المفاجأة، فأنظمة الدفاع الجوي لديهم لم تلحظ شيئاً حتى كانت الصواريخ قد أطلقت من دون أن تترك أي وقت للموجودين داخل المجمع لإخلائه. وقد أُطلقت على الطائرات المُغيرة بضعة صواريخ مضادة للطائرات، ولكن بعد وقت طويل من مغادرتها. بعدها بوقت قصير، أظهرت الأقمار الصناعية الأمريكية و”الإسرائيلية” التي تحوم فوق سوريا أن الموقع قد دُمّر بالكامل. وأرسل أولمرت رسالة سرية إلى الأسد عبر رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان تقول إنه إذا مارس الأسد ضبط النفس، فإن إسرائيل لن تعلن عن الهجوم، وهذا ما يُجنّب سوريا إحراج فضحها بأنها كانت تعمل وفق خرق فاضح لمعاهدة منع انتشار الأسلحة النووية التي سبق وأن وقّعت عليها. وأنه ليس على العالم أن يعرف أن الدولة العبرية قد فجّرت برنامج أبحاث عسكرية وتكنولوجية أمضت سوريا سنوات لأجل تحقيقه. لذلك فان إبقاء الأمور هادئة هو الأفضل لجميع الأطراف”.
كان الرابح الأكبر من “عملية من خارج الصندوق”، الإسم الذي أطلق على الغارة على دير الزور، هو مائير داغان الذي كان الجهاز الذي يرأسه هو من كشف المعلومات التي فضحت البرنامج السوري والذي تبين بحسب ما قال مدير الـ”سي آي ايه” هايدن انه “كان على حق فيما كان المحللون عندي مخطئين”. ومن بعد “عملية من خارج الصندوق”، فك أولمرت قفل الحقيبة وقرّر إعطاء “الموساد” أكبر موازنة سبق له أن حصل عليها”. وينقل بيرغمان عن أحد كبار المسؤولين في “الموساد” قوله “لم يعد يؤجل أو يلغى أي نشاط واحد لأسباب مالية، فكبُر الجهاز بصورة هائلة، وكل ما كنا نطلبه كنا نحصل عليه”.
وينقل بيرغمان عن أولمرت قوله “إن أريك (شارون) و(اسحق) رابين كانا أكثر تردداً مني في إقرار المهمات”. وأضاف مع ابتسامة على وجهه “لقد أعطيت الموافقة على 300 مهمة (للموساد) خلال ولايتي كرئيس للوزراء، واحدة منها فقط فشلت”.