سميح صعب23/04/2023
عرف السودان حروباً كثيرة منذ إستقلاله عن بريطانيا عام 1956. لكن الحرب التي تفجرت في 15 نيسان/أبريل الجاري بين الجيش السوداني بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق أول محمد حمدان دقلو "حميدتي"، تختلف إلى حدٍ كبيرٍ عن سابقاتها، شكلاً ومضموناً.. وربما على صعيد النتائج التي ستسفر عنها.
في نيسان/أبريل 2019 أطاحت ثورة شعبية، على خلفية رفع أسعار الخبز، الرئيس عمر حسن البشير الذي حكم 30 عاماً بعدما كان نفذ إنقلاباً عسكرياً على الحكومة المدنية للصادق المهدي زعيم حزب الأمة. وقبل أن يتسنى للقوى المدنية التي إضطلعت بدور رئيسي في قيادة الإنتفاضة ضد البشير، أن تشق طريقها نحو تسلم السلطة وقيادة البلاد نحو الحكم المدني، إنبرى البرهان وكان يتولى منصب المفتش العام للقوات المسلحة بمساندة دقلو إلى تولي السلطة. ووافق الرجلان على مضض تحت ضغط الشارع، الذي كان لا يزال في حالة غليان، على تقاسم السلطة مع المدنيين في آب/أغسطس 2019 في إطار ما سمي بـ”المجلس السيادي” وتم تعيين الأكاديمي عبدالله حمدوك رئيساً للوزراء، على أن تجري إنتخابات حرة في أواخر 2023.
ونص الإتفاق على تولي رئاسة المجلس السيادي مداورة بين العسكريين والمدنيين حتى يحين موعد الإنتخابات. وقبل أيام فقط من موعد تسليم رئاسة المجلس السيادي للمدنيين، نفذ البرهان بالتكافل والتضامن مع دقلو في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021 إنقلاباً ثانياً أطاحا فيه بالمكون المدني في مجلس السيادة. ومذاك، بات البرهان رئيساً لمجلس السيادة ودقلو نائباً له.
الحرب الدائرة إذا ما إستطالت قد تنتهي بتقسيم السودان إلى إقطاعات متنافسة وتجر أطرافاً إقليمية ودولية إلى النزاع. أحداث الخرطوم هي نسخة شمالية عن الحرب الأهلية التي تدور في دولة جنوب السودان بين الرئيس سلفا كير ونائبه ريك ماشار. وهنا الحرب بين البرهان ونائبه دقلو
بعد ذلك، عمل “الجنرالان” على تفتيت القوى المدنية التي برزت خلال الإنتفاضة على البشير، وعلى إستمالة قوى قبلية وعرقية وحركات مسلحة سابقة، الأمر الذي أثّر على حركة المطالبة بالديموقراطية وسهّل إستهدافها من قبل قوات الأمن. ولم يكن في إمكان الولايات المتحدة التي طبّعت العلاقات مع السودان عقب توقيع البرهان إتفاق لإقامة علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل، ممارسة ما يكفي من ضغوط لحمل العسكريين على التنازل عن السلطة وفرض العقوبات عليهم، كما حصل مع جنرالات آخرين قادوا إنقلابات في الفترة ذاتها في مالي وبوركينا فاسو.
ومع ذلك، كانت الولايات المتحدة مهتمة بإسباغ شرعية على حكم الجنرالات في السودان، وذلك من خلال الدفع بعملية إنتقال سياسي يشرف عليها العسكريون أنفسهم وتتمتع في الوقت نفسه بواجهة مدنية، فكان “الإتفاق الإطاري” الذي تم التوقيع عليه بين المؤسسة العسكرية وقوى مدنية في 5 كانون الأول/ديسمبر 2022، على أن يتم التوقيع النهائي على الإتفاق في أوائل نيسان/أبريل الجاري.
والمفارقة أن هذا الإتفاق الذي أريد منه نقل السودان إلى الحكم المدني، إذا به يتحول إلى الأساس الذي فجّر الحرب بين البرهان ودقلو.
لقد تضمن الإتفاق بنداً يتحدث عن توحيد القوات المسلحة السودانية، أي دمج قوات الدعم السريع بالجيش. وهنا وقع الخلاف بعدما تحدث البرهان عن مهلة عامين للدمج بينما أراد دقلو مهلة تمتد عشرة أعوام أو أكثر.
في حقيقة الأمر، يرى البرهان أن الدمج سيُقوي أسهمه داخل المؤسسة العسكرية ومن الآن حتى موعد إجراء إنتخابات يكون الشخصية الأبرز لتبوؤ منصب الرئاسة. وهناك جنرالات في الجيش كان يتخوفون من أن تؤدي عملية الدمج إلى تجويف المؤسسة العسكرية وجعلها تحت هيمنة قوات الدعم السريع.
أما دقلو الذي يطمح بدوره إلى دور قيادي، فقد خشي أن تُحوّله فترة العامين التي يقترحها البرهان إلى مجرد ضابط عادي داخل القوات المسلحة ويفقد تالياً حظوظه بالوصول إلى القيادة. ولذلك سعى إلى إطالة مدة الدمج حتى تبقى قوات الدعم السريع الرافعة التي يستخدمها في الصراع على السلطة. ولا ينظر دقلو المتحدر من دارفور بأنه أقل شأناً من جون غارانغ الذي فاز بدولة مستقلة بجنوب السودان، فإذا إستحالت الخرطوم عليه، فلماذا لا يكرر تجربة جنوب السودان في دارفور؟
إن القتال مختلف عما شهده السودان من حروب أهلية. وخلال حروب سابقة في دارفور والنيل الأزرق وجنوب كردفان، كانت الحكومة السودانية تقاتل ضد مجموعات مسلحة متمردة. أما الآن، فإن الجيش يقاتل قوة شبه عسكرية أسّسها البشير وأسبغ عليها الشرعية كأداة في يد الدولة ساعدت الجيش في حرب دارفور. وهذا ما يزيد الوضع تعقيداً.
وأياً كان البادىء بالحرب، فإنها حرب إلغاء يشنها طرف ضد الطرف الآخر، والرابح فيها يرى نفسه رئيساً للسودان. وفي رأي مدير برنامج الدراسات الأفريقية في جامعة واشنطن كريستوفر تاونسيل، أن المسألة “لا تتعلق برجلين أو فصائل تختلف إيدولوجياً على مستقبل البلاد. ولا يمكن تصنيفها بين شمال ذي غالبية مسلمة ضد جنوب مسيحي. كما أنها ليست مسألة عرقية على غرار نزاع دارفور الذي وضع الجنجويد التابعين للقبائل العربية ضد قبائل أفريقية.. إنها معركة بين رجلين يستميتان كي لا يُقصى أحدهما عن دوائر السلطة خلال عملية الإنتقال إلى حكومة منتخبة”.
ما يحصل الآن ليس إنقلاباً على غرار إنقلابات 1958 و1969 و1985 و1989 و2019 و2021. الحرب الدائرة إذا ما إستطالت قد تنتهي بتقسيم السودان إلى إقطاعات متنافسة وتجر أطرافاً إقليمية ودولية إلى النزاع. أحداث الخرطوم هي نسخة شمالية عن الحرب الأهلية التي تدور في دولة جنوب السودان بين الرئيس سلفا كير ونائبه ريك ماشار. وهنا الحرب بين البرهان ونائبه دقلو.
ويرى الخبير في الشؤون السودانية بجامعة تافتس الأميركية أليكس دوفال، أن المعارك الدائرة الآن ليست سوى “الجولة الأولى من حرب أهلية.. وإذا لم تنتهِ سريعاً، فإن النزاع سيتحول لعبة متعددة المستويات تضم لاعبين إقليميين وبعض اللاعبين الدوليين، الذين يريدون تحقيق مصالحهم، بإستخدام الأموال وإمدادات السلاح وربما حتى قواتهم الخاصة ووكلائهم”.
والخبير في مجموعة الأزمات الدولية آلان بوسويل يرى أن “ما يحدث في السودان لن يبقى في السودان.. والتشاد وجنوب السودان هما الأكثر عرضة لإنتقال الحرب إليهما. وكلما طال أمد الحرب كلما كان مرجحاً حصول تدخلات خارجية”.
ويحاذي السودان الذي يعتبر ثالث أكبر دولة أفريقية من حيث المساحة، سبع دول وبينها ما يشهد صراعات وحروباً أهلية. ومصر إختبرت تجربتها الأولى مع إحتجاز قوات الدعم السريع لجنود مصريين في مطار مروي بشمال السودان، قبل أن يُسلّموهم للقاهرة لاحقاً.
ويوجد على الأراضي السودانية لاجئون إثيوبيين فرّوا من الحرب الأهلية التي تدور هناك منذ عام 2020. وليبيا ليست بحال أفضل. وشبكة “سي إن إن” الأميركية للتلفزيون تتهم مجموعة “فاغنر” الروسية الأمنية بتحركات عبر طائرات “إليوشن-76” لنقل أسلحة لقوات الدعم السريع من قواعد تسيطر عليها المجموعة في ليبيا. وهذا ما يدعم السردية الغربية عن تورط “فاغنر” في نقل الذهب في السنوات الأخيرة من منطقة جبل عامر في دارفور حيث تسيطر قوات دقلو، إلى روسيا. ويُصنف السودان وحده من بين الدول العربية في “قائمة الكبار” في إنتاج الذهب عالمياً، إذ أنه احتل المرتبة الـ 16 في العام 2022.
الحرب إذا لم تجد طريقها في وقت قريب، فإنها قد تُحوّل السودان مجدداً إلى أرض خصبة للتدخلات الخارجية وإعادة رسم التحالفات في المنطقة.. ولن تكون القوى الكبرى من الولايات المتحدة إلى روسيا والصين ببعيدة
وإمتلاك السودان ساحلاً طويلاً على البحر الأحمر، يجعل دول الخليج تراقب بقلق الإنفجار السوداني، في وقت تسود مناخات المصالحة والتطبيع بين الدول العربية الخليجية وإيران، وتميل حرب اليمن إلى سلوك الحل السياسي بعد إتفاق بكين في العاشر من آذار/مارس الذي قضى بإستئناف العلاقات الديبلوماسية بين الرياض وطهران.
والإطلالة السودانية على البحر الأحمر جعلت روسيا في السنوات الأخيرة تطمح إلى قاعدة بحرية في بورتسودان، لكن البرهان رفض المضي في تنفيذ إتفاق كان جرى بين الحكومة الروسية وحكومة البشير على هذا الأمر. وسعت تركيا أيضاً إلى قاعدة عسكرية في جزيرة سواكن السودانية. وإسرائيل غير البعيدة عن البحر الأحمر تخشى أن يؤدي إنهيار الإستقرار في السودان للإطاحة بإتفاق التطبيع وبما نسجته الدولة العبرية من علاقات مع الخرطوم في العامين الماضيين.
الأكيد أن الحرب إذا لم تجد طريقها في وقت قريب، فإنها قد تُحوّل السودان مجدداً إلى أرض خصبة للتدخلات الخارجية وإعادة رسم التحالفات في المنطقة.. ولن تكون القوى الكبرى من الولايات المتحدة إلى روسيا والصين ببعيدة.