“حرب الخرطوم”.. خونة في كل “الجبهات” (2/2)

في الجزء الأول من هذه المقالة، قاربت كيفية تناول العلماء قضية الخيانة الوطنية ودوافعها والظروف التي تصنع الخونة في أوطانهم.. وفي هذا الجزء الثاني والأخير، ثمة تأملات أولية من وحي "حرب الخرطوم".

في مسرح العبث السياسي السوداني هناك آلاف المستعدين للعب دور الخائن، لكن يُمكن للمرء أن يجيل النظر فيرى كم من هؤلاء بالفعل يلعب دور الخائن المكتمل الشروط لدى صاحب العمل. قلة من هؤلاء فقط تم انتقاؤهم بواسطة أصحاب العمل وهؤلاء تتوفر فيهم العناصر الأربعة الرئيسية (ماما) إضافة إلى عناصر التشخيص النفسي من “الجرح النرجسي” و”عقدة أوديب” والعداء للأب وللأبوة بما في ذلك السلطة والوطن، والحاجة المستمرة إلى اشباع المناطق المعتمة الموروثة من الطفولة، إضافة إلى التعليم الرفيع وشبكات العلاقات الدولية والمحلية وغيرها.

إذا تم تطبيق هذه المعايير، يمكننا الوصول بسهولة إلى الخونة الحقيقيين الفاعلين الذين يقبضون ثمن خيانتهم كاملاً ويؤدون المهمة كاملة. من دون هؤلاء تأتي الطبقة الثانية والذين هم أدنى وهؤلاء خونة لكنهم خارج دائرة الكفالة ويقومون بعرض بضاعتهم لعل هناك من يشتري.

***

إيلان ديامانت، الطبيب النفسي والمؤلف وضابط “الموساد”، قضى زمناً طويلاً وهو يعمل في هذا المجال وفي مجال معاينة المرشحين للعمل في أجهزة المخابرات في دولة قائمة أصلاً على أعمدة الإنفاق العسكري، وتجييش الشعب، والتجسس والتجسس المضاد.

يقول ديامانت (في حواره مع صحيفة “هآرتس”) إن الخائن المحتمل يُعبّر أيضاً عن شخصية مضطربة وغير مستقرة، ويضرب المثل بشخصية المنشق موردخاي فانونو الذي سرّب معلومات عن البرنامج النووي لبلاده وقضى ١٨ عاماً في السجن وعاش في الخفاء قبل أن يتم اختطافه بعملية مخابراتية معقدة من إيطاليا. أشار ديامانت إلى أن فانونو نشأ في أسرة محافظة ومتدينة، لكنه ترك الدراسة في المدرسة الدينية وهو في المرحلة الثانوية، ما أساء كثيراً إلى علاقته مع عائلته، وبعد سنوات تحوّل من الفكر اليميني إلى اليساري ثم اليساري المتطرف، فيما كان يعمل في مركز الأبحاث النووية في صحراء النقب.

تعرض فانونو للتوبيخ في عمله بسبب نشاطه السياسي، وكشف عن عدم قدرته على قبول السلطة عليه وعلى عدم التواؤم (الإجتماعي)، وبعد فصله من العمل بدأ يجب العالم وتحول من اليهودية إلى البوذية.

عاش فانونو، كما تقول مصادر أخرى، حياة عاطفية متقلبة وغير مستقرة ثم صار وحيداً فنصب له جهاز “الموساد” شركاً من خلال الحسناء الأمريكية شيريل بينتوف التي صادقته قبل أن تقوم بإقناعه بالسفر معها إلى روما حيث تم اختطافه هناك في عملية سينمائية عام ١٩٨٦ لتتم محاكمته وسجنه في إسرائيل ثم تقييد حياته وحريته حتى يومنا هذا.

لم يكف فانونو أبداً عن التخلي عن تعهداته لدولة إسرائيل وفيما تجاوز الآن السبعين، فإنه ما يزال ملتزماً بما وطن نفسه عليه.

فانونو مثله مثل الجاسوس الشهير كيم فيلبي الذي كان يتباهى في موسكو كيف أنه كان يقوم بتسليم حقيبة من التقارير والوثائق يومياً لجهاز المخابرات السوفييتية (كي جي بي) ليقوم بتصويرها ثم إعادتها له في اليوم التالي. الجاسوسة المصرية المدانة مي سليم والتي أعدمت لاحقاً ورويت حكايتها في الفيلم السينمائي (الصعود إلى الهاوية) كانت تظن حتى لحظة استدعائها المأساوية إلى غرفة الإعدام بأنها لم ترتكب خطأ.

لن يكفي الليل السوداني كله للحكايات لكن المهم هنا أن نشير إلى أن الخيانة متعددة الأشكال والأضرار مثلما أن الخونة متنوعون ومختلفون في دوافعهم ومحفزاتهم وسلوكهم وظروفهم ونتائج أفعالهم. بعضهم خونة مع سبق الإصرار والترصد وبعضهم ضحايا، هم أنفسهم، لأنشوطة الخيانة بسبب ماضيهم أو حاضرهم.

***

ما عدا حالات نادرة ومحدودة، فإن الخيانة عمل خاسر لا يوفر كسباً ولا يورث صاحبه سوى الشقاء وتعذيب الذات أو هجران الأهل والرفاق.

العالم الإسرائيلي أفراهام كلينبيرغ ورئيس مركز الأبحاث البيولوجية السري لم يقبض شيئاً من تجسسه للروس؛ والجاسوس المصري المدان أمام محكمة أمن الدولة المصرية شريف الفيلالي (الصورة أدناه) لم يقبض سوى الفتات وأوردت النيابة أمام المحكمة أنه قبض مبلغ ألفي دولار مقابل معلومات عن التطوير الزراعي والأسلحة الروسية.

العقيد في الجيش الإسرائيلي الحنان تننباوم أغري بمبلغ ٢٠٠ ألف دولار فقط برتبته الرفيعة وكمية المعلومات الهائلة التي يعرفها ولم يتسلم مليماً واحداً منها وخرج من السجن في إسرائيل ليعمل على سيارة أجرة، أما عنصر الـ”سي آي إيه” الأمريكية كيفين مالوري فقد باع الأسرار الهامة التي كانت بحوزته وحوكم بسببها بالسجن لمدة ٢٠ عاماً بمبلغ ٢٥ ألف دولار فقط كان يمكنه الحصول عليها بطريقة أسهل وأشرف في بلاد الفرص السعيدة.

هذه أمثلة فقط من سفر ضخم عن الجواسيس.

في السودان نفسه إتهم عدد محدود جداً أمام المحاكم، أو تم اعتقالهم بغية محاكمتهم ثم لم تمض الإجراءات كما ينبغي لأسباب مختلفة من بينها تقديرات الادعاء، أو الوصول إلى صيغ للتسوية خارج المحاكم بين أجهزة المخابرات والمشتبه بهم، لكن المشترك الأوحد بين هؤلاء جميعاً هو عدم توفر هؤلاء على ثروة أو حياة مرفهة، وأغلبهم كانوا يعيشون أو ما زالوا يعيشون حياة فيها من الشظف أكثر من الرفاه.

هناك مجموعة أخرى من نجوم المجتمع ظلّت تحوم حولهم شبهة الخيانة الوطنية والتجسس، لكن من العسير جداً ضبطهم إلا بعمليات معقدة يتم فيها استخدام العملاء المزدوجين، وهناك تجارب حول العالم حول نجاح هذه الفئة في الكشف عن زملائهم في الجانبين للطرفين.

برفض الخونة المحتملين للحرب فإنهم يرفضون الحديث عن احتلال التمرد للمستشفيات، ومصادرة المنازل، واستباحة الممتلكات، وقتل المدنيين، وتدمير المنشآت الخاصة والعامة، ونهب المصارف، وحرق المصانع والمزارع بإعتبارها جانب هامشي من جوهر قضيتهم وهي أنهم يرفضون الحرب جملة وتفصيلاً، ويريدون لها أن تتوقف فوراً.

***

إقرأ على موقع 180  الشرق الأوسط ما بعد أميركا: حروبنا الآتية (1)

لا تعتبر الخيانة عملاً مشرفاً والخونة عادة ما يعرفون بأنهم يقومون بعمل غير محمود، وينظر المجتمع عادة إلى من يمارسه من أعلى، لذلك فإن الخونة عادة ما يصنعون لأنفسهم حزمة من الدوافع المصطنعة يقومون بها بالتغطية على بشاعة جرمهم فـ”الخائن لا يقول لنفسه أنا خائن”، كما يقول الطبيب النفسي وضابط “الموساد” السابق إيلان ديامانت.

***

في المشهد السوداني الحالي الكثير من الخونة المحتملين، وقلة من الخونة القادرين على اجتياز اختبار الخيانة والتكسب من خيانتهم.

نريد أن نقتصد جداً في منح صفة خائن لكل من أبدى استعداده للقيام بفعل الخيانة، ولعل الأفضل هو وصف المؤيدين للحرب ضد الجيش الوطني والدولة في السودان بالخونة المحتملين كونهم لم يحظوا حتى الآن بالفرصة المناسبة للإتيان بفعل الخيانة.

الخونة الحقيقيون يعملون الآن سراً، وقلة منهم تعمل جهراً في وحدات الاسناد العسكري واللوجيستي والسياسي والدبلوماسي لقوات الدعم السريع المتمردة بالداخل والخارج، فيما ينتشر الخونة المحتملون على ثلاث جبهات:

  • على الأرض حيث يعملون كطابور خامس مؤقت مع القوات المتمردة وتفيد تقارير متطابقة أن مجموعات تعمل بمقابل مالي مباشر في إرشاد فصائل المتمردين إلى منازل الشخصيات الرسمية وموظفي الحكومة وخصوم قائد التمرد الفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) من الشخصيات العامة لإستباحتها ونهبها.
  • على وسائل التواصل الاجتماعي خصوصاً على تطبيقات “فيسبوك” و”تيكتوك” و”واتساب” حيث تنشر الدعاية والدعاية المضادة وتنقل الأخبار عن تحركات قوات الجيش الوطني وغير ذلك مما يحتاجه المتمردون.
  • على الفضائيات العربية وكمصادر للإعلام الغربي ويمكن بتحليل محتوى إفاداتهم (وهذا ممكن وسهل تقنياً بإستخدام برامج الكمبيوتر) وتحليل التوجهات السياسية للفضائيات والصحف التعرف على المصادر الموحدة لخطاب هذه الفئة.

يعاني المتحدثون المؤيدون للتمرد مما يسميه علماء النفس والطب النفسي بالتنافر المعرفي (Cognitive Dissonance) وهو شعور بالخيبة والأسف يشعر به الشخص عادة حين يقوم بعمل أو يتخذ موقفاً يعلم أنه غير صحيح.

هذا شعور يشعر به الكثيرون ممن تضطرهم وظائفهم للتعبير عن أشياء هم غير مقتنعين بها مثل وكلاء التسويق وغيرهم. لتفادي الشعور المؤذي بالخيبة، فإن خبراء التسويق مثلاً يلزمون الباعة بإستخدام البضاعة التي يقومون بالترويج لها في حملاتهم، ويستطيع البائع إفادتك صادقاً بأنه يستخدم ذات المنتج دون أن يشعر بالذنب كونه لم يطلعك على عيوبه.

لقد جاوز الخونة السودانيون الفاعلون والمحتملون المدى، وحان الوقت لصياغة استراتيجية وطنية وفكرية وثقافية وإعلامية وأمنية تتحدد فيها بوضوح شروط الولاء الوطني، والتزامات المواطن تجاه الدولة وحقوقه عليها، وهو أمر ممكن

الخونة المحتملون الذين يساندون التمرد يقومون بتعبئة الفجوة بين الحقيقة التي يعرفونها والأكاذيب التي يبثونها (تجسيرها بلغة ديامانت) بسردية بديلة لا تخاطب قضية الحرب القائمة حالياً وذلك بالإعلان عن رفضها كلية تحت شعار (#لا_للحرب) وبالتالي عدم الخوض في مساراتها والإنتهاكات الفظيعة لحقوق الإنسان فيها، وجرائم الحرب البشعة التي ترتكب فيها.

برفض الخونة المحتملين للحرب فإنهم يرفضون الحديث عن احتلال التمرد للمستشفيات، ومصادرة المنازل، واستباحة الممتلكات، وقتل المدنيين، وتدمير المنشآت الخاصة والعامة، ونهب المصارف، وحرق المصانع والمزارع بإعتبارها جانب هامشي من جوهر قضيتهم وهي أنهم يرفضون الحرب جملة وتفصيلاً، ويريدون لها أن تتوقف فوراً.

هذه السردية المثالية توفر لهم مهرباً مؤقتاً من (التنافر المعرفي) الذي يرهق أرواحهم وعقولهم، حتى إذا عاد السؤال هربوا بالهجوم عن إنهم ليسوا في الواقع ضد الجيش الوطني وإنما هم ضد (الإسلاميين) يختطفون قرار الجيش. وإذا سئلوا عن هؤلاء الإسلاميين وأين هي كتائبهم عادوا إلى الإجابة بأنهم موجودون في مفاصل الجيش كله. خلاصة هذا الحديث هي أنهم يعتقدون أن الجيش يمثل التيار الإسلامي وهم ضده، لكن واحداً منهم لم يعترف بهذه الخلاصة ولم يقل إنه ضد الجيش.

سردية الإسلاميين نفسها أكذوبة يتم تصنيعها لإغواء (Lure) الغربيين ودول الخليج العربي المناهضة للتيارات الإسلامية والتي تريد محاربتها في الخارج لإعطاء الدرس للداخل، على طريقة الطفل المدلل الذي أتت به والدته للحضانة فسألتها المربية عن الطريقة المثالية لمنعه من ممارسة شيء ما، فردت الأم: إن طفلي مؤدب جداً وإذا ارتكب خطأ يمكنك صفع الطفل الذي يجلس بجانبه وسيرعوي فوراً. الخليج يريد تأديب الإسلاميين في البيت بضرب الإسلاميين في الخارج.

الغرب أرهق بمحاربة التيارات الإسلامية الحقيقية التي قام بصناعتها ولم يتمكن من صرف عفاريتها، وهو في الحالة السودانية يرحب بأي معركة ضدها ما دام لا يدفع الثمن.

لقد جاوز الخونة السودانيون الفاعلون والمحتملون المدى، وحان الوقت لصياغة استراتيجية وطنية وفكرية وثقافية وإعلامية وأمنية تتحدد فيها بوضوح شروط الولاء الوطني، والتزامات المواطن تجاه الدولة وحقوقه عليها، وهو أمر ممكن.. للبحث صلة.

(*) راجع الجزء الأول: كيف يمكن أن يخون الخائنون؟

Print Friendly, PDF & Email
محمد عثمان ابراهيم

كاتب وصحفي سوداني

Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الفوضى الخضراء.. الجغرافيا السياسية الجديدة للطاقة (1)