على جاري عادته، يتابع الكرسي الرسولي باهتمام وقلق شديدين التردي المتسارع للأوضاع اللبنانية، سياسياً واقتصادياً واجتماعياَ وانسانياً، إلا أنه قرّر الإنتقال من مرحلة الترقب إلى تفعيل تحركه لأجل لبنان، داخلياً وخارجياً، بعدما بدأ يشعر بتخوف كبير من “الانزلاق والانهيار نتيجة تمادي الشغور الرئاسي وانعكاساته الخطرة على المصير اللبناني ومستقبل الوجود المسيحي فيه”، كما تقول أوساط فاتيكانية مطلعة.
لذلك بادرت الدوائر الفاتيكانية بالتواصل مع المراجع الفرنسية من أجل ابلاغها موقفها من المستجدات اللبنانية والطلب اليها استقبال البطريرك الماروني على أعلى مستوى للاستماع إليه. وقد استجابت باريس فأعطت دوائر قصر الإليزيه الضوء الأخضر لاستقبال البطريرك الراعي من قبل الرئيس إيمانويل ماكرون شخصياً في وقت اقتصر اتصال باريس ببقية الشخصيات اللبنانية إما على المستشار في الخلية الرئاسية باتريك دوريل وإما على السفيرة الفرنسية في بيروت آن غريو.
وقد تمنت الدوائر الفاتيكانية على الراعي المرور بروما، وهو في طريقه الى باريس. جاء ذلك، بالترافق مع معلومات تحدثت عن امتعاض فاتيكاني من كيفية تصرف وأداء بكركي حيال الاستحقاق الرئاسي وعدم قدرتها على اتخاذ “المبادرات الجريئة والفاعلة” مسيحياً ووطنياً. ويبدو أن الفاتيكان تجنب إظهار هذا الموقف المتحفظ بشكل علني نظراً للظرف الحساس والدقيق في لبنان.
وأشارت هذه الأوساط إلى أن دوائر الكرسي الرسولي لم تخفِ تحفظها على توجهات باريس حيال الإستحقاق الرئاسي، وهي أبلغتها للعاصمة الفرنسية مؤكدة لها أنها مع استمرار تشجيعها على المحافظة على قنوات الإتصال مفتوحة مع الفرقاء المسلمين وأخذ موقفهم في الإعتبار، إلا أنها تشترط في الوقت نفسه أن لا يتم السير بأي خيار يُشكل تحدياً مباشراً للفرقاء المسيحيين الذين لم يُخفوا بأكثريتهم معارضتهم لحال الفرض بالاكراه لهذا المرشح أو ذاك.. ومن هنا ضرورة محاولة تحصين التركيبة اللبنانية الهشة في هذه الظروف الإقليمية الدقيقة.
وقد استمع الراعي إلى موقف الفاتيكان من أمين سر الدولة الكاردينال بييترو بارولين. وشددت المراجع الفاتيكانية خلال اللقاء على ضرورة الإسراع في اتمام الإستحقاق الرئاسي، وفي الوقت نفسه، تحث الفرقاء المسيحيين على تجاوز الانقسامات والخلافات ونبذ الأحقاد والانانيات في ما بينهم، مع الإبقاء على ضرورة التواصل والانفتاح على بقية مكونات المجتمع اللبناني “في إطار من الإحترام المتبادل وبعيداً عن أجواء التحدي أو المواجهة”.
هل سيُمهد هذا التحرك البطريركي، في حال حسن تنفيذه، إلى فتح الباب أمام إعادة خلط الأوراق الرئاسية والبحث عن “خيار ثالث” يكون خياراً توافقياً وانقاذياً للجميع ولا يشعر معه هذا الفريق أو ذاك الفريق بأي تحدٍ أو محاولة فرض أو مشروع مواجهة تحمل في طياتها أخطاراً مبيتة؟
رسالة توضيح وتطمين فرنسية
في باريس، كما في روما مع بارولين، إختلى ماكرون بالراعي، أما اللقاء مع أعضاء الوفد المرافق فقد اقتصر على التقاط الصور.. والملاحظ أن البطريرك الماروني في الزيارات المهمة والمفصلية كان في السابق يصطحب معه إلى الإليزيه والفاتيكان نائبه البطريركي، كما فعل البطريرك الراحل مار انطونيوس بطرس خريش في بداية الحرب الأهلية في لبنان حين رافقه النائب البطريركي المطران نصرالله صفير، وهذا ما لم يبادر الراعي إليه!
وقد حرص الرئيس الفرنسي على إبلاغ البطريرك الماروني رسالة مزدوجة. أولاً؛ الرد على الانتقادات التي طالت التحرك الفرنسي الرئاسي من خلال التوضيح والتأكيد أن “لا خيار خاصاً ولا مرشح محدداً” لفرنسا في الانتخابات الرئاسية اللبنانية، وأن باريس لم تقم إلا بمواكبة “الخيار الممكن” المبني على الواقعية السياسية وميزان القوى الداخلي. ثانياً؛ تطمين المسيحيين بعدم تخلي فرنسا عن سياستها التقليدية وعلاقاتها التاريخية معهم وتمسكها بدورهم المحوري في التوازن الوطني اللبناني.
الراعي.. “مكاريوس لبنان”!
من جهته، حمل البطريرك الراعي معه “هواجس ومخاوف البيئة المارونية خصوصاً والمسيحية عموماً من المسار الذي اتخذه التحرك الفرنسي الرئاسي”. اضافة إلى المطالبة بدعم المساعي الحالية في الداخل اللبناني من أجل فتح آفاق نحو أكثر من خيار وعدم الإكتفاء بخيار رئاسي أوحد. ويبدو أن البطريرك الراعي لم يتطرق إلى لائحة أسماء مرشحين كما أنه لم يزكي أي إسم للرئاسة الأولى.
في المقابل، تردّد أن الراعي ألمح خلال حديثه إلى إمكان اللجوء إلى “شخصية جامعة وعلى مسافة واحدة من الجميع وتكون موضع توافق”، كما سبق وألمح إلى هذا الخيار أمام محاوريه الفرنسيين في مرحلة تعثر الاستحقاق الرئاسي السابق في العام 2016 والمتمثل بـ”سابقة الأسقف مكاريوس” رئيساً لجزيرة قبرص؟
وفي هذا الاطار، أشار الراعي إلى أنه حافظ شخصياً على وضع داخلي وخارجي مميز: أولاً؛ البقاء على مسافة واحدة من جميع الفرقاء المسيحيين. ثانياً؛ المحافظة على قناة تواصل مفتوحة مع الفريق الشيعي (وفي هذا الاتجاه تحدثت أوساط عن “قبة باط” من قبل بكركي أمام المشاركة المارونية في الوفد الكنسي المؤلف من مطارنة وكهنة زاروا مؤخراً معلم مليتا الجنوبي بغية توجيه “رسالة حسن نوايا” الى “الثنائي الشيعي” وبالأخص حزب الله لمناسبة 25 أيار/مايو عيد التحرير). ثالثاً؛ انفتاح بكركي على الفرقاء الإقليميين من خلال مبادرة البطريرك إلى زيارة سوريا والمملكة العربية السعودية في أوقات سابقة.
وحسب المعلومات، بقي الجانب الفرنسي مستمعاً إلى الطرح البطريركي (هذا الطرح كان غائباً في محطة البطريرك الفاتيكانية)، مؤكداً على “ثبات” موقف باريس وعلى الاستعداد الدائم للمساعدة لتسهيل ودعم أي خيار يتوافق عليه اللبنانيون. وهنا وعد الراعي، كما فعل في روما، بإجراء سلسلة اتصالات مع جميع الفرقاء في لبنان في محاولة منه لتقريب وجهات النظر والتوصل الى مخرج بعيداً عن أجواء التحدي والمواجهة الخطرة بأبعادها وانعكاساتها كافة.
وتردد أن الخطوة الأولى التي جرى الحديث عنها من خلال بعض التسريبات الاعلامية من قبل بعض الأوساط اللصيقة ببكركي ومفادها أن الراعي أوكل إلى مستشاره الإعلامي وليد غياض “مهمة رسم خارطة طريق للتحرك والإتصال بالفرقاء السياسيين” أثارت الكثير من التململ والبلبلة والاستياء في الأوساط الكنسية والمدنية وخصوصاً المطارنة والمؤسسات المارونية لتعطي انطباعاً بوجود أزمة ثقة معهم وقد وصلت أصداء هذه الأجواء الداخلية إلى الفاتيكان. من هنا عمد البطريرك الراعي إلى إيلاء مهمة التواصل إلى رئيس أساقفة بيروت للموارنة المطران بولس عبد الساتر.
من أزمة رئيس إلى أزمة نظام!
يبقى السؤال: هل سيُمهد هذا التحرك البطريركي، في حال حسن تنفيذه، إلى فتح الباب أمام إعادة خلط الأوراق الرئاسية والبحث عن “خيار ثالث” يكون خياراً توافقياً وانقاذياً للجميع ولا يشعر معه هذا الفريق أو ذاك الفريق بأي تحدٍ أو محاولة فرض أو مشروع مواجهة تحمل في طياتها أخطاراً مبيتة؟
بداية الجواب يشير إليها مصدر متابع للملف اللبناني بقوله “الأجواء الداخلية الحالية صعبة ومعقدة والظروف الخارجية غير واضحة المعالم بعد، ولكن التجارب السابقة شاهدة على أن الحلحلة الداخلية قد تستجد في أي لحظة ملائمة بفعل إشارة خارجية ما ترافقها ضغوط حاسمة مع ضمانات معينة للجميع في الوقت نفسه”. إلا أن أوساطاً أخرى تدعو إلى عدم استسهال ايجاد مخرج للمعضلة الرئاسية الحالية، وتتخوف في حال استمرار الفراغ الرئاسي من أن تتحول الأزمة من مشكلة “اختيار شخص الرئيس” إلى أزمة البحث عن “نظام بديل”!