لودريان في بيروت.. مهمة أبعد من إسم رئيس الجمهورية!

كيف يبدو المشهد الديبلوماسي الفرنسي حيال الوضع اللبناني غداة لقاء القمة بين الرئيس ايمانويل ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان وعشية بدء الموفد الرئاسي الشخصي الى لبنان وزير الخارجية السابق جان-ايف لودريان مهمته في بيروت؟

لم تنتظر باريس نتائج جلسة مجلس النواب اللبناني الأخيرة في 14 حزيران/يونيو الجاري، والمخصصة لانتخاب رئيس جديد للجمهورية، حتى تقوم بـ”مراجعة وتقويم” تحركها الهادف لمساعدة لبنان على تخطي أزمة الشغور الرئاسي المستمرة منذ حوالي الثمانية أشهر، سواء من خلال إنجاز هذا الإستحقاق بانتخاب رئيس جديد للبلاد يكون مقدمة لانطلاق عملية إعادة تنشيط المؤسسات الدستورية وإطلاق ورشة الاصلاحات المطلوبة.

وعملية المراجعة تتولاها ثلاث جهات فرنسية: الخلية الرئاسية في قصر الاليزيه؛ الدوائر الديبلوماسية المعنية في وزارة الخارجية (الكي دورسيه)؛ والأجهزة الأمنية ذات الصلة. مسار التقييم أفضى إلى إعادة قراءة خلاصات مختلف اللقاءات والاتصالات أكان في باريس أو في بيروت إضافة الى المشاورات مع الجهات الخارجية المهتمة بالوضع اللبناني وأبرزها أعضاء اللجنة الخماسية (السعودية، الولايات المتحدة، مصر، وقطر) إضافة إلى الفاتيكان. وجرى التوقف عند مختلف ردود الفعل التي أثارها التحرك الفرنسي لدى البيئات اللبنانية المعنية.

وأقر الرأي القائل بضرورة إضفاء ديناميكية جديدة على المساعي الفرنسية، شكلاً ومضموناً، على أن تأخذ في الاعتبار نقاط الضعف والقوة ومواقع التراجع والفشل. من هنا جاء القرار الرئاسي بتعيين الوزير السابق لودريان بصفة “موفد رئاسي شخصي”.

لودريان 2023 = دوشاريت 1996؟

وهنا تكشف مصادر متابعة للملف اللبناني وعليمة بدقائقه وحساسياته أن قرار تخصيص مرجع فرنسي يتولى مهمة “مواكبة مسار المساعي الفرنسية عن قرب وعلى الأرض” ليس جديداً وأن الدوائر الديبلوماسية كانت قد أبدت تشجيعها لهذا التوجه غداة زيارة الرئيس إيمانويل ماكرون إلى بيروت في أيلول/سبتمبر 2020 واطلاق مبادرته اللبنانية، حيث كان ينبغي على ماكرون تكليف وزير خارجيته حينذاك (لودريان) بالبقاء في العاصمة اللبنانية للسهرعلى تنفيذ “الورقة الفرنسية”، مستذكرة بذلك ما قام به الرئيس الراحل جاك شيراك إثر عملية “عناقيد الغضب” الاسرائيلية (نيسان/أبريل 1996) من خلال ابقاء وزير خارجيته حينها هيرفيه دوشاريت في المنطقة متنقلاً بين بيروت وتل أبيب، تلك المساعي التي أنتجت “تفاهم نيسان” الشهير.

وأوضحت هذه المصادر أن قرار اختيار لودريان له أبعاده المتعددة:

أولاً، للدلالة على “استمرارية” الاهتمام و”عدم التراجع” عن الالتزام الفرنسي بالعمل من أجل لبنان، فباريس ربما هي العاصمة الكبرى الوحيدة التي “تهتم بلبنان لنفسه”.

ثانياً، رفع مستوى الشخص المكلف بالملف من “موظف برتبة مستشار” إلى “شخصية بمقام وزير”. فالوزير السابق لودريان أولاً هو شخصية سياسية عريقة لها وزنها وكان لها موقعها القيادي في الحزب الاشتراكي وتبوأ وزارة الدفاع ثم التحق بماكرون الذي عيّنه بعد انتخابه وزيراً للخارجية على مدى خمسة أعوام طوال فترة ولايته الرئاسية الأولى، ما أتاح له تكوين علاقات متميزة خصوصاً مع دول الخليج.

ثالثاً، لودريان هو حالياً من أبرز المرشحين لتولي رئاسة “معهد العالم العربي” في باريس (مع إبقاء التساؤل: هل يكون إسناد المهمة الجديدة له في لبنان تعويضاً عن عدم تعيينه من قبل ماكرون في معهد العالم العربي؟).

مهمة لودريان لا تقتصر على “البحث عن شخص”!

وتشدد المصادر على أن خارطة طريق مهمة لودريان في لبنان لا تقتصر على المساعدة في إنجاز الإستحقاق الرئاسي بل إنها “تتعدى عملية اختيار شخص والاتفاق على إسمه” لتكون “أوسع وأشمل”، نظراً لأن عملية الخروج من الأزمات العميقة والمتشعبة السياسية والمالية والإقتصادية والإجتماعية تتطلب “توافقاً حقيقياً وشاملاً وفعلياً حول مسيرة متكاملة متعددة المراحل” تبدأ من اختيار شخصية رئيس الحكومة الجديدة إلى تشكيل الوزارة ومن ثم تبنيها للاصلاحات المطلوبة، مع الأمل في حال مرّت هذه “المرحلة الانتقالية” بنجاح إلى “وضع أسس حوار هادىء ومعمق يتناول رسم هيكلية حديثة لعقد اجتماعي جديد يأخذ في الاعتبار هواجس وطموحات كل المكونات اللبنانية”.

لن يتردد لودريان، المعروف بصراحته المعهودة والصارمة أحياناً، في حث الفرقاء اللبنانيين على ملاقاة الاهتمام الاقليمي والدولي بخطوات “شجاعة” من قبلهم تكون على مستوى خطورة المرحلة التي يجتازها وطنهم، ولو أن باريس تدرك، إستناداً إلى تجاربها “المريرة” مع القيادات اللبنانية طوال ثلاث سنوات، أن فرص الخروج من المأزق الحالي لن تكون سهلة

دور فرنسي “مساعد ومسهل ومواكب”

عن ماهية الدور المستقبلي للتحرك الفرنسي تقول المصادر إنه سيكون “مساعداً ومسهلاً ومواكباً” للمسار الداخلي الذي له الأولوية.

وهنا تتوقف المصادر عند سلسلة معطيات أفرزتها مستجدات الوضعين الداخلي والخارجي في الأسابيع الاخيرة:

أولاً، لا غلبة لفريق داخلي على آخر ولا مكان للتحدي ولا للمواجهة ولا مجال لكسر إرادة هذا او فرض الخيار على ذاك.

ثانياً، ضرورة أن يسير كل فريق من الفريقين مسافة نصف الطريق لملاقاة الآخر.

ثالثاً، لا مكان في النظام السياسي الحالي ولا في تركيبة المجتمع التعددي لحساب الديموقراطية العددية (بعد محاولة الفريق المسيحي التمترس وراء عد الأصوات الناتج عن عملية الانتخاب الرئاسي الاخيرة لمصلحة مرشحهم)، بل إن منطق ديموقراطية التوافق هو الوحيد الصالح (بعد محاولة الفريق – الشيعي – عدم الأخذ في الاعتبار الرأي الجامع للأكثرية المسيحية).

إقرأ على موقع 180  جوار الهند.. قلقٌ مقيمٌ من طموحات القوميين الهندوس

رابعاً، “الشخصية المقبولة” هي تلك التي تستطيع ان تشكل في الوقت نفسه “مصدر اطمئنان لهذا الفريق دون ان تكون مصدر ازعاج للفريق الآخر”، وبالتالي قدرتها على الجمع على اسمها اقل عدد من “الفيتوات”.

خامساً، لا مكان للمشاركة في لعبة حرق المرشحين المحتملين بل إن دور الخارج هو ملاقاة تقارب الداخل وتعزيزه.

سادساً، ينبغي الاستفادة من الأجواء الاقليمية المشجعة خصوصاً بعد التقارب السعودي ـ الإيراني. وتعول باريس الكثير على الاتصالات القائمة بين الرياض وطهران (زيارة وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان الأخيرة إلى العاصمة الإيرانية) والتشاور بينهما حول المواضيع الإقليمية ومن بينها لبنان. كما أن التنسيق السعودي-القطري هو ايضا يشكل “عاملاً مساعداً”.

من جهتها، ستغتنم باريس مناسبة استضافتها لمؤتمر القمة الدولي حول “ميثاق مالي عالمي جديد” لإجراء مشاورات جانبية مع فرقاء اللجنة الخماسية المختصة بلبنان.

من هنا فان الأيام الفاصلة حتى نهاية حزيران/يونيو الحالي مهمة، أكان على صعيد الداخل اللبناني لجهة جمع المعلومات حول حصيلة مهمة لودريان في بيروت أو على الصعيد الخارجي لجهة معرفة نتائج الاتصالات السعودية-الإيرانية-الفرنسية-الأميركية-القطرية-المصرية. كل ذلك بهدف بلورة تصور حول مخرج مقبول للاستحقاق الرئاسي اللبناني وإمكان وضع الأزمة المتشعبة على سكة الحل.

وتدرك باريس جيداً أنها لن تستطيع وحدها لعب دور “المسهل والمساعد” ما لم يشاركها فرقاء اللجنة الخماسية وفي مقدمهم الرياض (اتفاق على التواصل والتنسيق الفرنسي-السعودي) وذلك بالتعاون “الفاعل والدافع” مع طهران للخروج من المأزق الراهن. وترى باريس أن الأجواء الاقليمية والدولية في 2023 مشجعة وأكثر ملاءمة من عام 1996 (تفاهم نيسان) شرط معرفة كيفية الاستفادة منها.

ولن يتردد لودريان، المعروف بصراحته المعهودة والصارمة أحياناً، في حث الفرقاء اللبنانيين على عدم تفويت الفرصة وملاقاة الاهتمام الاقليمي والدولي بخطوات “شجاعة” من قبلهم تكون على مستوى خطورة المرحلة التي يجتازها وطنهم، ولو أن باريس تدرك، إستناداً إلى تجاربها “المريرة” مع القيادات اللبنانية طوال ثلاث سنوات، أن فرص الخروج من المأزق الحالي لن تكون سهلة.

Print Friendly, PDF & Email
باريس ـ بشارة غانم البون

صحافي وكاتب لبناني مقيم في باريس

Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  تأملات 2022.. الدين والإستبداد؛ الأخلاق والضمير (1)