في بلاد ما بين النهرين أو الهلال الخصيب كان إنتاج أول القوانين والنظم والحضارة. لكنَّ العرب اليوم، وعلى مدى عقود وربما قرون، يعانون من اختلال مزمن في روح وواقع القانون والنظام والدولة والسياسة والاجتماع والقيم والأمن والتفاعلات مع الجوار والعالم، ولذلك بالطبع أسباب عديدة.
تصرَّفَ العرب كما لو أنَّ ثمَّة سبيلاً أو طريقاً واحداً للسياسة، بالمعنى الذي ورثوه وعرفوه، وهو محاولة “الإمساك” بالقوة أو السلطة: خروجاً عليها، أو تشبثاً بها. ولذا يعد العالم العربيّ، المشرق منه على نحو خاص، من أكثر المناطق والمجتمعات التي عانت من سطوة السلطة، ومن أكثر المجتمعات خروجاً على السلطات، وأكثرها صراعات ومواجهات وحروب. وثمَّة تاريخ طويل وتراكمات وطبقات كثيرة من خبرات السياسة والسلطة والقوة والموت والثورة، لدرجة وسمت المنطقة العربيّة، على مدى التاريخ، البعيد والقريب.([2])
السياسة، في تواريخ وانثروبولوجيا وحاضر العرب خلال عدة عقود، وربما عدة قرون، وفي هذا شيء من التعميم الحاد أو القاسي، هي أقرب لــ”السياسة العارية”، أي السياسة بما هي “تدبير البقاء” بالمعنى البيولوجيّ،([3]) العنف العاري ـ إن أمكن التعبير ـ الذي مُورس ضدَّ العراقيين والسوريين والمصريين والجزائريين واليمنيين وغيرهم، ومارسوه ضد أنفسهم، وأحياناً ضد غيرهم، وهو عنفٌ يكاد يكون لا مثيل له، أو هكذا يبدو لقارئ يريد ان يتقصى الظاهرة العربيّة في زماننا: مَقَاتِل وإبادات كثيرة، لا تزال حاضرة في الذاكرة والمخيال، تستدعي مخيالاً مقابلاً، وخاصَّة إذا كان الحديث عن صدوع طائفيّة وعرقيّة وقبليّة وجهويَّة وطبقيّة إلخ..
إذا كانت السياسة، من منظور الإغريق مثلاً هي: “تدبير الحياة”، والاختيار والتعدد والمداولة، فإنها من منظور ومعيوش مشرقي تاريخيّ وراهن: “سوسُ الناس كما تُساسُ الخيل”، أي “الضبط” و”الترويض”، والمعنى العميق هو: القوّة والغلبة، وهذا ما كان في كثير لحظات هذا الشرق الجميل([4]).
إن لدى مجتمعات المشرق مدارك مثالية ومخيالية وخلاصية في السياسة وتدبير الحياة. وشهدت المنطقة عبر التاريخ انتفاضات وثورات كثيرة تحركت أو انطلقت من مدارك “الخلاص” و”المثال”، الدينيّ على نحو خاصّ، أو أنّها توسلت المعطى والخطاب الدينيّ والمدارك والقيم والسرديّات الدينيّة من أجل: التخلص من الاستبداد، وإعادة توزيع الموارد الماديَّة والمعنويَّة، وهي أهداف أو أغراض سياسيّة واجتماعية واقتصادية وقيمية إلخ..
وهكذا، ثمَّة فارق بين فكرة السياسة ومثالها ومأمولها، بما هي تدبير للحياة، وبين خبرتها التاريخيّة ومعيوشها، بما هي تغلب وقهر وحمل على السمع والطاعة، و”رؤوس قد أينعت وحان قطافها”،([5]) وبما هي عصبية وطائفية إلخ..
إذا كان الجميع يعلن التزامه بمجتمع واحد وبلد واحد، قوي وسيد ومستقل عن التأثيرات الخارجيّة، وضد الفساد والطائفيَّة، فلماذا تتراجع أحوال البلدان العربيّة، وتغرق بالتبعية والطائفيَّة والفساد؟ ولماذا يتذمَّر الناس في عدد من المجتمعات والدول من رجال السياسة ورجال الدين، ثم يعودون للتمسك بهم مع أول خضة أو استحقاق، بل ويكونون مستعدين للموت من أجلهم، أو تحت عباءتهم؟
بالطبع، يصعب تصوّر أنَّ المنطقة ترزح تحت سياسات وسلطات استبداد وصراع واقتتال على طول الخط، لكنَّها كانت كذلك بالفعل، في كثير من تاريخها. ومن ثم فإنَّ “التسويات” و”الحلول” للصراعات وحتى فترات الاستقرار، كانت من النمط المؤقت والخَتَّال والقابل للنكوص والارتكاس، والذي يعكس ميزان القوة وليس ميزان القناعة بالسياسة بما هي “تكييف” و”تسوية” و”تدبير للحياة”.
لكنَّ سرديّة السياسة لدى العرب، أكثر تعقيداً، وحتى لا نبقى في الماضي، فإننا نسوق مؤشرات اليوم، فقد أظهر العراقيون والسوريون والفلسطينيون واللبنانيون مثلاً اهتماماً جدياً، ووَقَّعُوا (من توقيع أو إمضاء) بالدماء والأرواح، وقدموا تضحيات كبيرة، من أجل وطن وسياسة ودولة؛ وحتى الأكثر طائفية، يعلن رفضه للطائفية، والأكثر تبعية للخارج يعلن أنّه ضدّ التبعيّة للخارج، وهذا بسبب أن في نظم القيم الجمعية ما يعلي من شأن فكرة الوطن والاستقلال. وهذه مسألة تتطلب المزيد من التدقيق والتقصّي.
وهكذا، فإنَّه في أكثر فواعل الفكر والسياسة والاجتماع، في سوريا والعراق وليبيا والجزائر وتونس مثلاً، يعلنون أنّهم تحت سقف الوطن والدولة وفي أفقهما، ما عدا بعض أهل الخطاب الدينيّ المتطرف، وبعض الخطاب الكياني في شمال العراق ومنطقة الجزيرة السورية، وإلى حدّ ما بعض النزعات الكيانية (الفدرالية أو اللا مركزية) في مناطق أخرى من العراق وسوريا وليبيا واليمن والسودان، ولو أنَّ الجميع تقريباً ما يزال يتحدَّث عن أنّه يعمل في أفق بلد واحد.
وإذا كان الجميع يعلن التزامه بمجتمع واحد وبلد واحد، قوي وسيد ومستقل عن التأثيرات الخارجيّة، وضد الفساد، وضد الطائفيَّة، فلماذا تتراجع أحوال البلدان العربيّة، وتغرق بالتبعية والطائفيَّة والفساد على هذا النحو؟ ولماذا يتذمَّر الناس في عدد من المجتمعات والدول من رجال السياسة ورجال الدين، ثم يعودون للتمسك بهم مع أول خضة أو استحقاق، بل ويكونون مستعدين للموت من أجلهم، أو تحت عباءتهم؟
والآن، ويبدو أننا نستدرك على جانب مما ورد أعلاه؛
هل المجتمع في عدد من البلدان العربيّة في المشرق والمغرب، هو مجتمع “اللا دولة”، بتعبير مستعار من الانثروبولوجي بيير كلاستر، أي أنَّه عصيّ بطبعه على “الدولنة” و”الانتظام” تحت حكم القانون؟ أليس في ذلك تبرير ـ بكيفية ما ـ للاستبداد واستخدام القوة المفرطة والقهرية للسلطات ونظم الحكم ضد المجتمع؟ أليس في ذلك نوع من “الجوهرانية” و”الحتمية” في قراءة وفهم المجتمعات العربيّة، أليس فيه إساءة وانتقاص من قدر تلك المجتمعات وقدرتها ومقامها، وقد عرف العالمُ عن أسلافها، أنّهم من أول من أنتج القانون والحضارة في التاريخ المعروف؟
وبالمقابل؛
هل “يعاف” العرب أنفسَهم، وسياسيّيهم، واصطفافاتهم، والصور النمطيّة الدارجة عنهم، ويتركون التخندق فيما هم فيه، على ما يظهر من مطالب وبرامج ومشاريع بين الحين والآخر، منطلقين في أفق مختلف، يقوم على البداهات، إن أمكن التعبير، منها أن يكونوا عراقيين أو سوريين أو مصريين أو جزائريين أو سعوديين إلخ، وأنَّ كونهم ذلك، لا يضعهم بالضرورة في مقابل عراقيين أو سوريين.. آخرين، أو إيرانيين أو أتراك أو آسيويين أو أفارقة إلخ؟
كيف يمكن أن يحصل ذلك، وهم ممزّقون بين هويات وولاءات وانتماءات هي “في” مجتمعاتهم وبلدانهم، لكنَّها قد لا تكون “في أفقها”، وكيف يمكن أن يحصل ذلك، والعالم كلّه تقريباً، في فصام واختلال في مدارك وتطلعات العيش والوجود والمعنى؟
([1]) انظر مثلاً: إيف شيمل، السياسة في الشرق القديم، ترجمة: مصطفى ماهر، (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، المشروع القوميّ للترجمة، دون تاريخ).
([2]) علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، (بيروت: دار الوراق للنشر والتوزيع، 2017).
([3]) جورجيو آغامبين، المنبوذ: السلطة السياسيّة والحياة العارية، ترجمة وتقديم وتعليق: عبد العزيز العيادي، ط1، (بيروت، بغداد: منشورات الجمل، 2017).
([4]) هذا يذكرنا بكلام ميشيل فوكو عن نموذج الملك – الراعي/”راعي البشر” لدى الشرقيين، انظر: ميشيل فوكو، “من أجل نقد العقل السياسيّ”، تعريب: حسونة المصباحي، الكراس الفكريّ، العدد 47، تشرين الأول/أكتوبر 2005.
([5]) العبارة لــ الحجاج بن يوسف الثقفي، الوالي الأموي على العراق.