صار واضحاً في لبنان أن الحاكم واحد وأنه يريد السيطرة على ما للآخرين من أموال ومراكز نفوذ رسمية. ليس عشوائياً مسلسل الجرائم السياسية التي لا نعرف شيئاً عن التحقيق بخصوصها، وأن جريمة العصر في المرفأ ومدينة بيروت يُزاح القاضي المحقق فيها الواحد تلو الآخر، وصولاً الى شرذمة القضاء. وقوى الواقع تسجن أهل الضحايا بينما المتهمون أحرار. الذين في السجن يُشك في إدانتهم، أو بعضهم على الأقل، ونجد “مدنياً” يُهدّد بـ”قبع” القاضي، ومن حاول التلفظ بالإدانة لم يبقَ على قيد الحياة.
يمكن الحديث وحتماً التوجّه باللوم، إن لم تكن الإدانة، لجميع الأطراف ما عدا طرف واحد، الى أن عيل صبر البطريرك الماروني ليقول إن المراكز المارونية الأساسية في الدولة مستهدفة، وإن الوضع بات لا يحتمل.
عشوائية السلطة وارتكاباتها تشبه أي بلد ديكتاتوري في العالم، عربياً كان أم غير عربي، إسلامياً كان أم غير إسلامي. سمة الديكتاتورية الأساسية هي عشوائية من تحت وتسلّط من فوق. حق “الفيتو” باسم الميثاقية هو طريق للعشوائية. الانتخابات النيابية بقانونها الذي لا يفهمه أي مقترع، حتى الذين ساهموا في صياغته، هو أيضاً عشوائي الإجراء والنتائج.
لقد فشلت الانقلابات في لبنان في السابق لكن انقلاباً تدريجياً يقوم به حزب ديني سيضطر أصحابه الى فرض ثقافة جديدة تتنافى والتعددية المعهودة. وقد تعودنا في الأقطار العربية الأخرى أن تفرض أحزاب التحرير الوطني إرادتها بالقوة. فهي تعتبر أن ذلك مكافأة لها على ما أنجزته من تحرير
الحديث عن إتفاق الطائف كثير لكن معظمه نفاق. يُراد ويُعمل على نسفه. كان الأجدر الحديث عن الدستور إذ أن “الطائف” أنهى مهمته في إنهاء الحرب الأهلية، والتعديلات أدرجت في الدستور. أمام صعوبة تعديل الدستور في مجلس النواب، يُراد العمل على تعديل الوضع اللبناني من خارجه بإنقلاب تدريجي. ليس كل تعديل دستوري حراماً، بل واجباً؛ ما يراد هو نسف الدستور من أجل وضع جديد يعكس موازين القوى. لا ننسى أن التحرير جاء بعد الطائف. وكل تحرير يفرض أن يكون لمن يحرر “حصة” تناسبه في الحكم، أو الحكم كله..
حكم الطائفة لا يعني أنها تحكم الآخرين كطائفة، بل أن نخبة منها تحكم وتتحكّم بالآخرين بما فيها الطائفة التي تنتمي إليها. الطائفة أيضاً طبقات. والطبقات العليا والدنيا تعم كل الطوائف. كل وظائف الدولة في لبنان يُراعى فيها التقسيم الطائفي. ومصالح القطاع الخاص تخضع لنظام من شبكة فساد لا تراعي إلا المال. يصير الحكم الطائفي مجرد عصبية لدين (لا يفهمه أتباعه في العادة)، وتبعية لكبش الطائفة الذي يغذي طائفته بالأوهام، وذلك كلما كان الفريق دينياً أكثر منه طائفياً. الفريق الديني يوجّه اهتمامه الى الأمور الثقافية، خاصة الطقوس والرموز، أكثر من الأمور المادية، وإن اعتبر الجميع أن المال والجاه ضروريان لتسيير الأمور. ليس المطلوب خفض أهمية الجانب التعصبي أو الديني أو المذهبي في الطائفية، لكن المطلوب إغفال الجوانب المادية الطبقية، إذ تتخذ الطبقة العليا أتباعها مطايا لمآرب اقتصادية وسياسية. مع الأخذ بالاعتبار أن الجانب الايديولوجي الدعوي يلعب دوراً أكبر لدى الحزب الديني مما في الحزب الطائفي. الحزب الدعوي يعتبر أن السلطة وسيلة لفرض أوامر الله. لا يستطيع الحزب الدعوي ممارسة السياسة إلا بالتخلي عن بعض جوانب دعويته.
لا يحاول هذا النص مناقشة أية عقيدة حزبية، بل هو محاولة لتوقّع ما قد يحصل في حال استلم حزب ديني السلطة. إذ أن العقيدة الدينية ذاتها تفرض أن لا يمارس أي تسوية (نظرياً على الأقل) مع أي طرف سياسي. من يعتقد أن لديه تكليف من الله لا يستطيع التفريط به. وكل ممارسة للسياسة تفترض تفريطاً ببعض الحقيقة من أجل التسوية. كل تسوية فيها تنازل عن بعض حقائق كل طرف وإلا يستحيل الالتقاء في نقطة بين الموقفين.
ما كانت كل هذه المقدمات ضرورية لولا شعور كثير من اللبنانيين أن تعدديتهم في خطر إذا تم للانقلابيين ما أرادوا. والتعددية في لبنان تحمي الحريات بشكل أو بآخر. لقد فشلت الانقلابات في لبنان في السابق لكن انقلاباً تدريجياً يقوم به حزب ديني سيضطر أصحابه الى فرض ثقافة جديدة تتنافى والتعددية المعهودة. وقد تعودنا في الأقطار العربية الأخرى أن تفرض أحزاب التحرير الوطني إرادتها بالقوة. فهي تعتبر أن ذلك مكافأة لها على ما أنجزته من تحرير؛ وهو إنجاز لا يُقلّل أحد، خاصة كاتب هذا النص، من أهميته.
وبرغم كل ما أصاب اللبنانيين على جميع الأصعدة، إلا أنهم يحرصون على أن تكون لهم كرسي في المقهى للتحدث بصوت عالٍ. إذ تنتزع الحقوق واحداً بعد الآخر. يشعر اللبنانيون أن حرياتهم في خطر، وبدأ الخوف يتآكلهم. وقد رأينا الانتاج الفكري بدأ ينضب، أو بالأحرى بدأ يتباطأ وصولاً الى نقطة اللاعودة، وذلك استباقاً لما قد يحصل في لبنان من سلطة انقلابية ديكتاتورية كما حصل في أقطار عربية أخرى نتيجة التحرر الوطني.
هناك ما يُهدّد الحرية الفردية في لبنان عبر الدولة وغيرها من تنظيمات. ربما شكّلت الطائفية (التعددية) درعاً في وجه التعديات على الحريات الفردية، لكن فرقاً دينية هنا، وأحزاب دعوية هناك، ومجموعات تمارس عبادة الفرد (cult)، وكلها تنتمي الى طوائف مختلفة، وتتحالف ضد عدو مصطنع، لكن فيها من هو أقوى من كل منها وربما أقوى منها جميعاً. كل منها يستل سيف الردع في وجه الرأي الحر، بالأحرى الحرية الفردية، ولا أسهل من استخدام قدسية ما أو نص ديني لاتهام صاحب الردع بإهانة الشعور الديني لدى الآخرين. ليس القانون مرجعية عندهم بل ما يسمى الشعور الديني، الذي هو على كل حال لا تحديد له في الفقه أو في القانون. هي عشوائية القوة التي تمتلك منها فائضاً مادياً، ضد كل عقلانية أو نقد حتى ما خلا من التجريح.
ما يحدث هو سلخ اللبنانيين عما هم عليه (أو ما يجب أن يكونوا عليه). وذلك يتضمن الإفقار ومصادرة الأموال والممتلكات، والإكثار من المقدسات، وتدمير نصاب الدولة، وتذرير البيروقراطية، وطبع الدولة بالعشوائية، ونزعها عن القانون، وتعطيل الدستور، وإلغاء كل شرعية، وتدمير البنى التحتية المادية، والتعمية لتدمير البنى التحتية العقلية، وتزوير التاريخ، واصطناع التهميش، والنهب الشرعي، وإشاحة النظر الديني والأخلاقي عن نزع الحقوق، لا بل إنكار الحقوق، وإيقاظ الثأر، والاقتصاص ممن لم يرتكب جريمة، وتغليب الدين على الإيمان، والطقوس على الدين، والمذهب على الطائفة، والطائفة على الدين..
هو تغليب الخاص على العام، والجزئي على الكلي، وسدنة الهيكل على المجتمع، والمجتمع على الضمير الفردي. ثم تغييب الضمير وراء حجاب الواجب؛ ثم يحول الواجب دون الفرد، والفرد دون الضمير، والضمير دون الأخلاق، والأخلاق الكاذبة دون السياسة، والسياسة دون الدولة، والدولة دون الإنسان. فضاء يخلو من الروح، وروح لا مكان فيها للنفس، ونفس هي مجرد تجميع لأعضاء بل أشلاء بشرية.
الديموقراطية التوافقية وما يسمى الميثاقية هي إلغاء الآخر، ومن حيث ندري أو لا ندري، إلغاء الآخر هو إلغاء “الأنا”. في كل ذلك إلغاء الحرية الفردية وإحالة الفرد الى كائن بلا ضمير أو ضمير مملى عليه دون أخلاق
ربما كانت هذه حال البشرية، بحجة النيوليبرالية والرأسمالية، وما يتعلّق بها. لكن ما يحدث في لبنان هو أمر له بداية ولا ندري ماذا ستكون النهاية. البداية هي أننا قتلنا من يجب أن نحب، ولا نجد الآن ما نحبه، أو من نحبه. قال الحلاج:
أَنا مَن أَهوى وَمَن أَهوى أَنا نَحنُ روحانِ حَلَنا بَدَنا
كان يتحدث عن الآخر الكامن فيه. ولم يعد للانقلابيين آخر. هذا بالإضافة الى تصفية من يعتبر خطراً ولو وهمياً.
الديموقراطية التوافقية وما يسمى الميثاقية هي إلغاء الآخر، ومن حيث ندري أو لا ندري، إلغاء الآخر هو إلغاء “الأنا”. في كل ذلك إلغاء الحرية الفردية وإحالة الفرد الى كائن بلا ضمير أو ضمير مملى عليه دون أخلاق.
لقد استلبوا من معظم اللبنانيين كل شيء تقريباً ولم يبق إلا الضمير الفردي، والآن يريدون السطو عليه بحجة دينية أو حجة تحرر وطني. يجيدون استعمال أسلوب التعمية. فلا لزوم لأن يكون سعر الليرة متعدداً إلا لكي لا يدرك اللبنانيون ما لهم وما عليهم. وتفريغ الدولة من المناصب العليا، خاصة رئاسة الجمهورية، والحبل على الجرار، طريق للعشوائية. وضرب ما تبقى من انتظام في المجتمع طريق للعشوائية التي تلزمها ازدواجية السلطة والتلاعب بالقضاء.
هو انقلاب على مراحل من أجل السيطرة وتغيير نمط العيش، والقمع الكامل للحريات الفردية. هو انقلاب يطرح على اللبنانيين سؤالاً: هل يمكن العيش سوية، إلا بالقمع؟