هذا الإستحقاق هو الذي أسماه الإتفاق النووي “يوم الإنتقال” الذي تُرفع فيه العقوبات علی التسليح الإيراني؛ في الوقت الذي تحدث وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان عن “وثيقة سبتمبر” التي أشار فيها إلى المسودة التي توصل إليها الجانبان الإيراني والأمريكي في أيلول/سبتمبر من العام الماضي، من دون أن يعطي المزيد من التفاصيل؛ لكن مباحثات عُمان غير المباشرة بين طهران وواشنطن والتي أفضت إلى صفقة تبادل المعتقلين والأرصدة تشي بوجود تفاهمات غير معلنة رُحّلت إلی المرحلة المقبلة بغية “اختبار النوايا” تمهيداً للدخول في مفاوضات جديدة هدفها ـ كما يخطّط لها الإيرانيون ـ هو إزالة العقوبات الغربية مقابل تحييد البرنامج النووي الإيراني كما يريده الأمريكيون؛ إضافة إلی قضايا إقليمية تفاوتت التقديرات حولها بسبب تكتم المصادر الرسمية الأمريكية والإيرانية.
واللافت للإنتباه في هذه الأجواء زيادة المطالبات بإجراء طهران مفاوضات مباشرة مع واشنطن للتوصل إلى إتفاق يزيل العقوبات لكن مثل هذه المطالب تصطدم بموقف المرشد الأعلی الإمام علي خامنئي الرافض لإجراء أي مفاوضات مباشرة إلا في حال عودة الولايات المتحدة الكاملة إلى الإتفاق النووي؛ حيث يعتقد أن الجلوس بشكل مباشر أمام الأمريكي لن يكون لمصلحة إيران بعد انسحاب واشنطن من الإتفاق النووي في العام 2018 وفرضها عقوبات غير مُبرّرة كلّفت إيران خسائر إقتصادية فادحة.
ومن المنتظر أن يعقد وزراء خارجية إيران ومجموعة 4+1 وهي ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وروسيا والصين إجتماعاً تشاورياً علی هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الشهر الجاري؛ وفي موازاتها، ربما تُستأنف المفاوضات غير المباشرة بين طهران وواشنطن. إلا أن بعض السياسيين الإيرانيين يطالبون بعقد مفاوضات مباشرة مع الجانب الأمريكي حيث اعتبر حسين موسويان (كبير المفاوضين مع الجانب الغربي في عهد الرئيس الإيراني الاسبق محمد خاتمي)، أن إنعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة “يُشكل فرصة جيدة لبدء مفاوضات مباشرة مع الجانب الأمريكي”.
لا الجمهوريون في الولايات المتحدة ولا المتشددون الذين يسيطرون علی مقاعد البرلمان الإيراني هم مستعدون لخوض هكذا تجربة في ظل إنعدام الثقة بين الجانبين، لكن في نهاية المطاف، مِثلُ هذه الأفكار ليست بعيدة عن تفكير العديد من الأوساط الإيرانية والأمريكية خصوصاً إذا أنجزت صفقة تبادل المعتقلين وتجاوز الجانبان الأمريكي والإيراني مرحلة “اختبار النوايا”
ويضع موسويان خارطة طريق لوضع حد للتخاصم الذي استمر أربعة عقود بين طهران وواشنطن، ويرى أن الرئيس الأمريكي جو بايدن استعاض عن الإتفاق النووي بسياسة المرحلة الإنتقالية القصيرة لـ”إدارة الأزمة” وذلك تحت سقف “لا إتفاق.. لا أزمة”.
وفي الحقيقة، فإن إدارة بايدن تعتقد أن انسحاب الرئيس دونالد ترامب من الإتفاق النووي وعودة العقوبات علی إيران أدى إلى معادلة “خاسر/خاسر” لأن الولايات المتحدة فشلت في تحقيق أهدافها مع إيران التي نجحت برفع نسبة تخصيب اليورانيوم من 3.67 بالمئة الی 60 بالمئة؛ زدْ على ذلك أنه برغم كل العقوبات والعمليات التخريبية واغتيال العلماء النوويين، لم ينجح الغرب وإسرائيل في منع تقدم البرنامج النووي الإيراني؛ إضافة إلی أن إيران سرّعت من وتيرة إستدارتها نحو الشرق بانضمامها إلى “منظمة شنغهاي” ومجموعة “بريكس” وتعزيز تعاونها مع روسيا خصوصاً في المجال العسكري ووقعت إتفاقاً تاريخياً مع السعودية برعاية الصين.
وعلی الرغم من عدم جود معلومات شفافة بشأن نتائج مباحثات عُمان إلا أن موسويان يكشف عن ثلاث نقاط تم الإتفاق عليها بين طهران وواشنطن بوساطة عمانية ـ قطرية:
أولاً؛ إيران لن ترفع نسبة تخصيب اليورانيوم أكثر من 60 بالمئة؛ وسيتم تبادل المعتقلين 5 من كل جانب إضافة إلی إطلاق الودائع الإيرانية المُجمدة في كوريا الجنوبية (6 مليار دولار) تُخصص لشراء المستلزمات الطبية والغذائية.
ثانياً؛ عدم التعرض للقوات الأمريكية المتواجدة في المنطقة مقابل السماح لإيران ببيع كميات أكبر من النفط إضافة إلی إزالة الحظر عن الودائع الإيرانية في العراق، حسب علي باقري، كبير المفاوضين الإيرانيين في حكومة إبراهيم رئيسي.
ثالثاً؛ ينقل موسويان عن مسؤول أوروبي أن الدول الغربية سوف لن تتعاون عسكرياً مع إيران لكنها لا تقف أمام تنفيذ القرار الأممي 2231 ولن تستخدم “آلية الزناد” لعودة العقوبات الدولية، في إشارة لاستحقاق 18 تشرين الأول/أكتوبر 2023 الذي ينهي الحظر علی التسليح الإيراني.
ويعتقد موسويان الذي قاد المفاوضات مع الترويكا الأوروبية خلال حقبة منسق الشؤون الخارجية الأوروبية خافيير سولانا أن هذا الإتفاق المؤقت إيجابي لكنه غير مستدام لأسباب ثلاثة:
السبب الأول؛ قد يدفع اللاعبين الاقليميين والدوليين المتضررين من الإتفاق لمهاجمة القوات الأمريكية لتُسجل باسم الإيرانيين أو أصدقائهم في المنطقة.
السبب الثاني؛ أن هذا الإتفاق مرهون بنتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية في العام 2024، فماذا إذا فاز رئيس جمهوري متشدد مثل دونالد ترامب؟
السبب الثالث؛ أن التاريخ يُثبت أن إيران تزيد من وتيرة برنامجها النووي كلما تعرضت لعقوبات وضغوطات من الجانب الأمريكي؛ وأن واشنطن التي تسير وفق قاعدة “لا إتفاق.. لا أزمة” تحاول الحفاظ علی العقوبات لمواجهة الطموحات النووية الإيرانية ومحاصرة النفوذ الإيراني في المنطقة.
لكن موسويان يخلص إلى أنه لا بديل عن الإتفاق النووي وأن إحياءه عمليه ممكنة لكن الأمر بحاجة إلى عاملين أساسيين. الأول؛ مفاوضات مباشرة مع الجانب الأمريكي؛ والثاني الإتفاق مع مجموعة 5+1 علی إعادة إحياء الإتفاق النووي إستناداً إلی “وثيقة سبتمبر”.
ويدعو موسويان إدارة بايدن إلى وضع قاعدة “نعم للإتفاق.. لا للأزمة” بدلاً من قاعدة “لا إتفاق.. لا أزمة” من أجل انهاء حالة “خاسر.. خاسر” والتحول إلى مرحلة تعزيز الثقة ومناقشة القضايا العالقة بين البلدين.
ويستمر موسويان في شرح خارطته بدعوة نواب الكونغرس الأمريكي ومجلس الشوری الإيراني لفتح مباحثات من أجل التوصل إلى قواسم مشتركة يمكن أن تُحدّد مستقبل العلاقة بين البلدين.
نظرياً؛ تبدو هذه الخارطة عملية وتُحقق مصالح كلا البلدين وتُنهي الصراع الذي طال أكثر من أربعة عقود، لأسباب تتصل بالداخلين الأمريكي والإيراني. فلا الجمهوريون في الولايات المتحدة ولا المتشددون الذين يسيطرون علی مقاعد البرلمان الإيراني هم مستعدون لخوض هكذا تجربة في ظل إنعدام الثقة بين الجانبين، لكن في نهاية المطاف، مِثلُ هذه الأفكار ليست بعيدة عن تفكير العديد من الأوساط الإيرانية والأمريكية خصوصاً إذا أنجزت صفقة تبادل المعتقلين وتجاوز الجانبان الأمريكي والإيراني مرحلة “اختبار النوايا” بنجاح.