باعتقادي ليس الحوار شيئاً من قبيل الترف الفكري والذهني في حياة البشر، بل هو قدرهم ومن جبلتهم، وهو طريقة تفكير وفن قيادة الحقائق والرقي بها، ففي ثقافتنا العادية نظن بجهلنا أن الحوار عيب فينا وأنه علامة ضعف وانكسار أمام الآخر فيما هو علاج لنا جميعاً ومواجهة لأنانياتنا، وتليين لعنجهيتنا واستكبارنا ووسيلة فاعلة ونشطة لخلق إنسان متحضر لائق بعالم الوجود، فقبل الحوار مع الآخر هناك حوار داخلي مع أنفسنا لا بد من اتباعه كأسلوب مراجعة وتصويب لصحة ما نحمل من شعارات ونعتقده من قضايا على تنوعها.
نعود للقول إن القضية المركزية ربما تتمثل في نتائج أي حوار بين حقول المعرفة لجهة مدى استيعابها للمطالب الإيمانية والعقلية وما تُخلّفه من أثر في مسيرة المعرفة وسيرورتها في مدى مواجهة اللحظات الزمانية على مستوياتها كافة وإلا سيكون الركود سيد الموقف.
لطالما كان العقل والدين هما المحركان الأساسيان لطبيعة الاجتماع الإنساني وأشكاله ومقدار تفاعله مع دوره وواجباته في التغيير والتقدم والتصالح مع الذات في إطار من التناغم والتوازن.
لا مناص من إعادة النظر في بنية العقول التي نستند إليها في تدبر أنماط تفكيرنا وعلاقاتنا وأوضاعنا على قاعدة التلاقي والتعاون، وأن نعيد التصالح الحي مع ذواتنا، وإلا سنبقى نشهد على دوس الكرامة الإنسانية كل يوم وعلى تمزيق روح الأخوة الكونية الشاملة
لذا التعطش قائم إلى اجتهادات ومقاربات حوارية معاصرة وجدية من أجل استثمار الطاقات الإصلاحية والروحية والأخلاقية للأديان وحتى في السياسة فكم من أحزاب وحركات دينية وغيرها متقوقعة على خطابها وإيديولوجياتها من دون مراجعة وتجديد حال وتغيير في عقلياتها ورموزها التي لا تزال منذ عشرات السنين حتى تحولت إلى أيقونات، وبتنا نشهد على ضمور فكري وقيادي وغياب للمراجعة والنقد الذاتي داخل البيت السياسي الواحد تأثراً بالفضاء العالمي العام الذي يعاني ممن هم غير مؤهلين لحكمه وقيادته على المستويات كافة؟!
ولنا أن نتساءل عن مدى نجاح بعض التجارب الإسلامية وغيرها في أغلب المجتمعات المعاصرة – ما خلا بعض التجارب المشرفة في الشق الجهادي – في القدرة على ضبط الانتظام السياسي وتوجيه الحياة السياسية إلى المقاصد الأساسية وصون روح التعاون والتكافل والتضامن التي تعود بالنفع العام على الجميع، بينما نرى العكس كيف أن الذاتيات والحسابات الفئوية والجهوية والحزبية وحتى العائلية النافذة، قد أكلت كل شيء وشاركت المحرومين فُتاتهم، فعندما تغيب العدالة عليك أن تشك في جدوى إيمانك وفي جدوى سياستك.
ما نأسف له اليوم هو أن الناس ما برحوا يستصعبون التمييز بين ما هو أصيل، وبين ما هو عبثي ودخيل في واقعهم، جراء الصخب الإعلامي وبهارج الشعارات وسيطرة المظاهر والشكليات على كل شيء التي سرعان ما تضمحل آثارها اللحظوية وتترك النفس تتخبط في قلق لا قرار له.
من هنا لا بد وأن نلتفت إلى أن العقلنة المتوازنة والحوار الذاتي لا يبطلان الاختبار الإيماني والسياسي على الإطلاق، بل يجتهدان حتى تدخله في معترك الحياة والفعالية أكثر لتصبح التجربة الإيمانية والسياسية متجاوزة للأشخاص والعناوين ومنتجة أكثر.
فعلى العقل مدار الفلاح في الدارين وعليه مهمة إحداث هذه التوافقية والإفادة منها، وضبط إيقاعها منعاً لأي زلل وخطوات رعناء تصيب واقع الناس فليس الأمر في حسن العبادة والإيمان، ولكن الأساس في عقل الناس الفردي والجمعي، كيف يستفيد لجهة تمكين ذاته وترسيخ وعيه وفقاً لإيقاعات الحياة المستجدة والمتغيرة بما يحفظ الأصالة ويبعده عن التقوقع والجمود، ويدفع المخاطر الوجودية حتى من نفوذ المنظومة الدينية والسياسية المصرة على استقطاب التأثير وتزويد الحياة بكل ما يشوهها.
جاء في الحديث: “وأثنى قومٌ بحضرته على رجل حتى ذكروا جميع خصال الخير، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:كيف عقل الرجل؟ فقالوا يا رسول الله نخبرك عنه باجتهاده في العبادة وأصناف الخير تسألنا عن عقله؟ فقال عليه السلام: “إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم”.
فأي نوع من العقول هذا؟ إنه هذا العقل المسائل المتابع والملاحظ الذي يلاحق كل تفصيل يتصل بكرامة الإنسان ويحفظها من السقوط فكم من العقول اليوم تتصف بذلك؟
الناس ما برحوا يستصعبون التمييز بين ما هو أصيل، وبين ما هو عبثي ودخيل في واقعهم، جراء الصخب الإعلامي وبهارج الشعارات وسيطرة المظاهر والشكليات على كل شيء التي سرعان ما تضمحل آثارها اللحظوية وتترك النفس تتخبط في قلق لا قرار له
إن نجاح العقل في استنطاق التراث الديني والإيماني مرهون بديناميته الحكيمة والفطنة التي تجيد تقديم هذا التراث وترجمة لغته إلى لغة ينتفع منها الناس جميعا بطريقة بسيطة سهلة بعيداً عن التعقيد الرمزي والطلاسم كي تكون التصورات تالياً نتيجة هذه اللغة الشيقة ذوقية شفافة تدخل طوعاً في الوجدان العام من غير إفراغ لجوهر مقاصدها.
كأننا اليوم في بدائية متوحشة على الرغم من زحمة الدساتير الوضعية والتراث الثقافي والديني التي يزخر بها شرقنا فلا الدساتير تطبق بروحها ونصها، والتي ربما عاف عليه الزمن، ولا بعض حراس الدين يفرجون عنه حيث يسلبونه روحه ويعتقلونه في سجون مصالحهم وذاتياتهم وحساباتهم وفهمهم المؤطر، حتى أصبحت الوحدة الاجتماعية والإنسانية مهددة بالانحلال والسقوط.
لا مناص من إعادة النظر في بنية العقول التي نستند إليها في تدبر أنماط تفكيرنا وعلاقاتنا وأوضاعنا على قاعدة التلاقي والتعاون، وأن نعيد التصالح الحي مع ذواتنا، وإلا سنبقى نشهد على دوس الكرامة الإنسانية كل يوم وعلى تمزيق روح الأخوة الكونية الشاملة.