ما يحصل في محافظة السويداء يقضّ مضاجع السلطات الأمنية والسياسية في العاصمة السورية، وخاصة في ظل مؤشرات تدل على وجود جهات تعمل على تشبيك الحراك مع بعض الملفات السورية العالقة والتي قد يكون في مقدمها ملف الجنوب السوري وما يُثار مؤخراً بشأن رصد تحضيرات أميركية في سوريا والعراق لتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا من خلال العمل على ضبط الحدود العراقية ـ السورية.
ولم يكن من قبيل المصادفة أن يقرر السناتور الأميركي فرينش هيل الاتصال بشيخ عقل طائفة الموحدين الدروز حكمت الهجري الذي نادى قبل أقل من أسبوع بالجهاد ضد إيران وحزب الله، واصفاً إياهما بالقوات المحتلة، بالتزامن مع اتصال آخر أجراه هيل بالعقيد فريد القاسم قائد “جيش سورية الحرة” الذي يعمل كحامية عسكرية لقاعدة التنف في مثلث الحدود السورية العراقية الأردنية.
يبدو أن احتجاجات السويداء التي لم تظهر بعد على دمشق أعراض التأثّر بها سياسياً أو أمنياً، من الممكن أن تتطور في اتجاهات كثيرة ولا سيما بعد انتهاك معظم “الخطوط الحمر” التي كانت تؤطرها ضمن حراك شعبي يرفع مطالب معيشية واقتصادية
وما يُعزّز الشكوك حول تزامن هذين الاتصالين أنهما جاءا بالتنسيق مع “المنظمة السورية للطوارئ”، وهي “منظمة سورية أميركية غير ربحية، أُنشئت لدعم السوريين المطالبين بالحرية والكرامة والديموقراطية من خلال تزويدهم بالمهارات والخبرات في العديد من المجالات بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية”. ومن أبرز أهداف هذه المنظمة “العمل على تعزيز القدرات المحلية والحوكمة المدنية وتمثيل المرأة في المناطق التي انسحب منها النظام وتخضع لسيطرة المعارضة”!
ومما تجدر ملاحظته أن اقتحام السناتور الأميركي لخط الاحتجاجات في السويداء جاء بالتزامن كذلك مع صدور البيان الأول لـ”الهيئة السياسية للعمل الوطني في محافظة السويداء” الذي أكد ما أشيع سابقاً حول نية القائمين على الاحتجاجات تشكيل جسم سياسي يتولى قيادة الحراك وربما تكون من مهامه في مراحل لاحقة تولّي إدارة شؤون المحافظة بعد استكمال إغلاق المؤسسات الحكومية والحزبية من قبل المحتجين.
وفي الشهر الأول من عمر الاحتجاجات في السويداء، سقطت العديد من “الخطوط الحمر” التي حرص مشايخ العقل الثلاثة حكمت الهجري وحمود الحناوي ويوسف جربوع على التشبّث بها ودعوة المتظاهرين إلى عدم تجاوزها. فقد سقط “الخط الأحمر” الأول الذي تمثل في إبقاء الاحتجاجات ضمن إطار المطالبات المعيشية إذ سرعان ما أصبح الهتاف الرئيسي الذي يتردد في “ساحة الكرامة” التي يتوافد إليها المحتجون كل يوم جمعة هو إسقاط النظام وتنفيذ القرار الأممي 2254.
وسقط “الخط الأحمر” الثاني مع دعوة الشيخ الهجري للجهاد ضد إيران وحزب الله متنصلاً بذلك من مواقف سابقة اشاد فيها بالقوات المدعومة إيرانياً ودورها في “تحقيق الانتصار ومحاربة الكيان الصهيو-أميركي”، وذلك اثناء استقباله وفداً من “حركة النجباء” العراقية عام 2017.
ويبدو أن موافقة الشيخ الهجري على تلقّي اتصال السناتور الأميركي يُعبر عن انتهاك آخر “الخطوط الحمر” المتمثل في قبول التدخل الأجنبي في احتجاجات السويداء بذريعة دعمها وحمايتها مما وصفته بيانات بعض الدول الغربية بـ”استخدام النظام للقوة في السويداء”، وذلك في أعقاب حادثة إطلاق النار التي وقعت في المدينة يوم الأربعاء الماضي. ومما لا شك فيه أنه لم يكن ليتم الإعلان عن هذا الاتصال بين الرجلين لولا وجود رغبة متبادلة في إبراز الدعم الأميركي لمشيخة العقل.
وكان قد صدر بيان باللغة الانكليزية في الأسبوع الثاني من الاحتجاجات طالب بعقد جلسة طارئة لمجلس الأمن الدولي، لوضع القرار 2254 تحت بند الفصل السابع، واللجوء للجمعية العامة للأمم المتحدة في حال لاقى الطلب رفضاً من جانب روسيا والصين. وفي حينه، اعتبر نشطاء معارضون أن هذا البيان لا يمثل إلا فئة محدودة من المتظاهرين ولا يعبر عن رأي غالبيتهم.
والمستغرب أن سيرة مواقف الشيخ الهجري خلال الأسابيع القليلة المنصرمة شهدت تطوراً دراماتيكياً بانتقالها من مقلب التهدئة وضبط النفس وعدم الانجرار إلى الفوضى والفتنة، نحو وجهة غامضة قد تكون متطابقة مع أهداف حركة “رجال الكرامة” التي حاربها مشايخ العقل الثلاثة سابقاً ورأوا فيها منافساً اجتماعياً ودينياً لمناصبهم الروحية المتوارثة.
وبرغم مقتل الشيخ وحيد بلعوس مؤسس حركة “رجال الكرامة” في العام 2015 في انفجار غامض، حيث وجهت المعارضة أصابع الاتهام إلى الأجهزة الأمنية السورية، فإن علاقة مشيخة العقل مع “رجال الكرامة” بقيادة ليث بلعوس نجل قائدها السابق ظلت مشوبة بكثير من الشك وعدم الثقة.
بما أن هذا الحراك ظلّ محصوراً ضمن حدود محافظة واحدة ذات لون طائفي محدد، من غير المرجح مهما تصاعدت الاحتجاجات في الشارع أن ترتدي لبوس الثورة الذي سيبقى فضفاضاً عليها
غير أن تأسيس “الهيئة السياسية” التي ألقت بيانها الأول في مظاهرة يوم الجمعة التي وصفت بأنها أكبر مظاهرة تشهدها المحافظة منذ بدء الاحتجاجات، يشير إلى وجود تقارب بين الطرفين حيث كان ليث بلعوس من أوائل من قادوا محاولات تهدف إلى التنسيق بين القوى العسكرية والسياسية في السويداء لخلق “مجلس سياسي” يعطي وجهاً جديداً للمحافظة، وفق تصريحات صحافية أدلى بها مؤخراً. وأشار إلى أن المشروع مطروح مع القوى السياسية، بهدف توحيد الجهود تحت مجلس ورأي واحد.
وعليه، يبدو أن احتجاجات السويداء التي لم تظهر بعد على دمشق أعراض التأثّر بها سياسياً أو أمنياً، من الممكن أن تتطور في اتجاهات كثيرة ولا سيما بعد انتهاك معظم “الخطوط الحمر” التي كانت تؤطرها ضمن حراك شعبي يرفع مطالب معيشية واقتصادية. وبما أن هذا الحراك ظلّ محصوراً ضمن حدود محافظة واحدة ذات لون طائفي محدد، من غير المرجح مهما تصاعدت الاحتجاجات في الشارع أن ترتدي لبوس الثورة الذي سيبقى فضفاضاً عليها، ولكن هذا لا يعني أن التدخلات الخارجية لن تنجح في ركوب موجة الاحتجاجات والعمل على تضخيمها بما قد يُمكنها من تحقيق أهداف خاصة تتراوح بين الضغط على دمشق لمنعها من حصاد موسم التطبيع العربي، وبين تحقيق مكاسب ميدانية قد تزيد من أوراق القوة في يدها في مواجهة النفوذ الإيراني.