أيها الفلاسفة والحكماء: هل نحن حقاً من هذا العالم؟ (2)

رأينا في الجزء السّابق من هذا المقال أنّ صرحَ لايبنيتز الفلسفي-الذّهني-النّظري جدّيٌّ ومتينٌ وقويٌّ جدّاً برأينا. بل إنّه، وبسبب انطلاقه من صفات الكمال المُطلَق، يكاد يبدو وكأنّه.. "كامل"، لكن ذلك قد يصحّ فقط من وجهة النّظر المفاهيميّة (Conceptuelle) كما رأينا أيضاً، أي من زاوية عالمَي الأفكار والمفاهيم (وبشكل غالب).

لقد سألنا في ما سبق السّؤال التّالي: ماذا عمّن – أو ماذا عن الذي – يمسّه الشّرّ (والألمُ والمعاناة)؟ ماذا عن تجربته الفرديّة: الشّخصيّة والذّاتيّة؟ هل يكفي، في سبيل مقاربة قضيّة تواجد الشّرّ (والألم طبعاً) أن “نختبئ” وراء صرحٍ مفاهيميّ-نظريّ عظيم متين (كما قد يعترضُ البعض، وقد اعترضوا طبعاً بذلك على الفيلسوف الألماني وأتباعه)؟

في النّهاية، من يعاني من الشّرّ والألم يُعاني منهما، وتجربته فريدة وشخصيّة، وقد تكون أكثر.. “حقيقيّةً” من هذا الصّرح المفاهيمي المجرَّد (Abstrait) المُبين. ماذا لو أنّ زاويتَي التّجربة والتّجربة الشّخصيّة تُبيّنان لنا ما لا يبيّنه الاعتماد الغالبُ على العقل الذّهني-التّفكّري وعلى عالمَي الأفكار والمفاهيم؟ فيما يلي، نحاول مناقشة الطّرح اللّايبنيتزي العظيم، من بعض تلك الأبواب وما يُشبهها من مداخل، مع تأكيدنا المتجدّد على موافقتنا وتأييدنا لذلك الطّرح (بشكل عام، وعلى المستوى الذّهني-النّظري-التّحليلي خصوصاً[1]):

أوّلاً: عودةٌ إلى عالم الضدّ في مقابل الضدّ

لنَعُدْ إلى حديثنا – في المقال السّابق حول الألم – عن مسألة الإثنينيّة والضّدّيّة وكيف تقوم العوالم الظّاهرة (أو العالم الظّاهر إن شئت) عليهما فيما يبدو لنا (حتّى الآن[2]). تخيّل أنّ أحدَهم يقوم بعملٍ “شرّيرٍ” من خلال طعن ذَنَبِ قطّة لا ذَنْبَ لها: بالسّكّين. الشّيء الوحيد الذي سوف تشعر به القطّة على الأرجح (وفي المبدأ[3]): هو الألم وقد يكون شديداً.

لكن تخيّل – افتراضاً محضاً – أنّنا نضع داخل دماغ القطّة نفسها وعياً شبيهاً بوعي الإنسان. عندها، أوّل ما سيذهب إليه وعيُ (Conscience) هذه القطّة على الأرجح: هو أنّها.. تُعاني. كما رأينا: الألم شيء، والوعيُ بأنّ-ني أتألّم (أي بأنّ “أنا” أتألّم) شيء مختلف. كذلك، عندما تُدركُ القطّة أنّ هنالك رجلاً يجعلها تُعاني عن قصدٍ وبغير ذنبٍ ولا خطيئةٍ اقترفتهما يداها: سوف تُصبح، على الأرجح، واعيةً كأغلب بني البشر بتواجد.. الشّرّ.

ماذا لو أنّ الحقيقة هي في مكانٍ متعالٍ عن الإثنيَن: الخير والشّرّ، الألم واللّذّة، الوجود والعدم وما إلى ذلك. أيّها الفلاسفة العقلانّيون: ماذا لو أنّ سرّ الألم والشّرّ والمعاناة.. هو مرتبطٌ بسرّ هبوط الوجود والحقيقة نفسهما من مرتبة أو بُعد الواحد (أو الأحد) إلى مرتبة أو بُعد: الكثير؟ ألا ترَون أنّ الزّوجَين والضّدّين هما وراء هذه الظّواهر و/أو المعارف (مثل الألم والشّرّ)؟

طالما أنّنا ناقشنا المعاناة المتأتّية من الألم فيما سبق، فلنركّز فيما يلي على الشّر. كيف تُدرك القطّة تواجدَ الشّرّ في حياتها؟ لا تُدركه برأيي إلّا من خلال مقابلة واعية – أو لا-واعية في أحيان كثيرة – مع ضدّه: أي لنقل إنّ إدراكَها يقارن بشكل شبه تلقائي ما بين وضعيّة “تواجد الشّر” ووضعيّة “عدم تواجد الشّر” أو “ضدّ الشّر = الخير”. مجدّداً: نعود إلى لعبة الأضداد وما بين الضدّ المتطرّف وضدّه من وضعيّات وحالات وحقائق لا تُعدّ ولا تُحصى.

بشكل أبسط (إن شاء الله تعالى):

(١) هل يكفي أن تتألّم القطّة لكي تشعر بتواجد الشّرّ؟ رأينا فيما سبق أنّ الإجابة الأصحّ برأينا هي: بالنّفي.

(٢) هل يكفي أن تشعرَ بالمعاناة – التي يولّدها الوعيُ بالألم – لكي تكون واعيةً بتواجد الشّرّ؟ نحن بالطّبع أمام الإجابة نفسها: أي بالنّفي. لأنّ الشّرّ قد يُولّد المعاناة، ولكنّه ليس المعاناة.. ولا المعاناة هي الشّر.

(٣) هل تستطيع القطّة: تخيُّل أو تصوُّر (أو إدراك) تواجد الشّرّ من غير مقارنته بوضعيّة مختلفة (مثلا: لا-تواجد شرّ، أو تواجد خير)؟ من الواضح بالنّسبة لي: أنّها لا تستطيع إدراك تواجد الشّرّ من غير هذه المقارنة الإثنينيّة-الضّدّيّة – الواعية و/أو اللّا-واعية – السّالفة الشّرح والتّفصيل. بل لا تستطيع، برأيي، إدراك مفهوم الشّرّ من غير مقابلته – الواعية واللّا-واعية – مع مفهوم الخير (ومن أساسه)[4].

ماذا يكون الشّرّ لولا أن يكون: ضدّ الخير؟ وماذا يكون الخيرُ لولا أن يكون: ضدَّ الشّرّ؟ هل نعي فعلاً خطورة هذه القضيّة وجوديّاً ومعرفيّاً؟

تخيّل معي المثال المتطرّف والمتخيَّل ذاك: ماذا لو أنّ تواجد الشّرّ هو العادة، ولا تواجد للخير عادةً في مقابل ذلك. فمن ذا سيُدرك أيّ وجود أو تواجد للشّرّ؟ لا أزال مقتنعاً، في مسألة الألم والشّرّ (والمعاناة) بأنّ ذهننا (Notre Mental) يخدعنا بشكل أو بآخر. إنّه يلعبُ دورَه على الأرجح، داخل الوعي الأعمّ: لكن ما السّرّ وراء هذه الخديعة وهذه اللّعبة؟

ثانياً: هل نعاني لأنّنا.. هَبَطنا إلى هذه الحياة؟

النّقطة الجوهريّة المقصودة هنا هي إذن: يبدو لنا أنّ مسألة تواجد (أو وجود) الشّرّ تدخل أيضاً ضمن مسألة لعبة الإثنَين والأضداد السّالفة الذّكر. وذلك: إن من زاوية الوجود، أو من زاوية المعرفة. وكما رأينا في مسألة الألم وتواجد الألم: قد يكون جوهر القضيّة معرفيّاً لا وجوديّاً في باطن الأمور. فكأنّ ذهنَنا المفكّر (Notre Mental) بشكل خاص: لا يُمكنه أن يُدرك الموجودات والحقائق.. إلّا من خلال مقابَلتها بأضدّادها.

فيا أيّها الشّيخُ الأعظمُ لايبنيتز: ما عرضناه فيما سبق لا يخالف حديثك عن النّظرة الشّاملة والكلّيّة، وعن المقصد النّهائي من الأشياء. لكن، ماذا لو أنّ القضيّة أعمق، ماذا لو يلزمها “تعمّق” من هذه الزّاوية تحديداً: أي، ماذا لو أنّ الوجود – المتكثّر طبعاً – لا يُمكن أن يظهر إلّا بهذه الطّريقة؟ تأمّل معنا في هذا السّؤال: ماذا لو أنّ القضيّة هي قضيّة “ماذا” لا قضيّة “لماذا”؟ ماذا لو أنّك شدّدتَ على “ال-لماذا” أكثر من اللّازم؟ ماذا لو أنّ “الإجابة” على موضوع التّيوديسا لا تكتمل إلّا من خلال إدخال أبعادٍ أكثر تعالياً؟ ماذا لو أنّ الحقيقة هي في مكان أعلى: ما فوق الخير والشّرّ معاً؟

ماذا لو أنّ الحقيقة (أو حقيقة الحقيقة) هي في مكانٍ متعالٍ عن الإثنيَن: الخير والشّرّ، الألم واللّذّة، الوجود والعدم وما إلى ذلك. أيّها الفلاسفة العقلانّيون (والمشّاؤون-الأرسطيّون أجمعون): ماذا لو أنّ سرّ الألم والشّرّ والمعاناة.. هو مرتبطٌ بسرّ هبوط الوجود والحقيقة نفسهما من مرتبة أو بُعد الواحد (أو الأحد) إلى مرتبة أو بُعد: الكثير (أو المتكثّر)؟ ألا ترَون أنّ الزّوجَين والضّدّين (أساس الكثرة) هما وراء هذه الظّواهر و/أو المعارف (مثل الألم والشّرّ)؟

إقرأ على موقع 180  من الطائفية إلى دولة المواطنة، دفن التسويات العرجاء

مع جرأة مقصودة ومدروسة: ماذا لو أنّ كلّ فردٍ منّا يعيش في الحقيقة – من خلال وعيِه “الذّاتي”  تجربة شخصيّة لهبوط الوجود من بُعد الوحدة إلى بُعد الكثرة؟ ماذا لو أنّ القضيّة تتخطّى الذّهن والتّفكير والموضوعيّة.. نحو الذّاتيّة والحدس الرّوحي والتّجربة الشّخصيّة (بما هي تجلٍّ للتّجربة الكونيّة، لا بما هي عكسٌ أو إعدام لها)؟

ثالثاً: لسنا من هذا العالم؟

فعلاً، يا أيّها الإنسان: “لماذا” لا تظهرُ لنا الأشياء إلّا بأضدّادها؟ هل شَغَلَنا التّفكير في قضيّة الشّرّ – والألم – نفسها، عن القضيّة الأهم: ليسَ “لماذا الشّرّ”، بل “لماذا لا بُدّ – في هذا العالم – من شرّ”؟ قد نكونُ أخطأنا في موقع سؤال الـ – لماذا، إذ لا ينبغي ربّما أن نسأل “لماذا الشّرّ”، بل:

١/ ماذا الشّرّ؟

 ٢/ لماذا (١) أعلاه (أو لماذا تلك الـ- ماذا؛ أو لماذا نحن عالقون في هذه الـ – ماذا، وبالله عليكم)؟

لا أفضّل – في المعتاد والمبدئي – أن أخوض في “الـ – لماذا” كما سبق ورأينا مع الوجوديّين وغيرهم. لكن يبدو لي أنّ قيام ظهور الوجود – في هذا العالم – على الإثنَين والأضداد (وبالتّالي: التّكثّر)، مع ميل وعينا الدّائم والمُلحّ والفطري إلى التّفكير بـ الأحد-المُطلق أو محاولة مشاهدته: يبدو لي وكأنّنا عالقون بين بُعدَين أو عالَمين. (١) بُعدٌ تميل عوالمه إلى الواحديّة المُطلَقة، (٢) وبُعدٌ تميل عوالمه إلى الأضداد والكثرة (دون مسّ بجوهر الواحديّة كما رأينا، لكن هذا بحثٌ آخر).

وإن أردنا مقاربة “الـ – لماذا” بأيّ ثمن: وانطلاقاً من كلّ ما سبق، أميلُ إلى الاعتقاد بأنّ جوهر (Substance) معاناة الإنسان يكمن في هذا التّصادم اليومي – بل الآني والمستمرّ والدّائم – بين هذه الأبعاد والعوالم الكامنة ضمن وعي الإنسان. مع التّبسيط، يمكن القول إنّنا موجودات ذات وعي يميل إلى الوحدة، في حين أنّنا “عالقون” في عالمٍ قائمٍ على الضّدّ والكثرة! أو، إن شئت: إنّنا موجودات ذات وعي يميل إلى المُطلق، ونحن “عالقون” في عالمٍ – ذهنّيٍّ وجسديٍّ – قائمٍ على النّسبيّ!

أرجّح، لمعطيات وقرائن وتجارب شخصيّة عديدة، أنّنا بالفعل: قد هبطنا من عوالم الوحدة إلى عوالم الكثرة، ونحن نعيش المعاناة كلّ يوم – في الجوهر – بسبب هذا الهبوط الأليم. وإنّني – حتّى الآن – من تابعي ومؤيّدي مذهب الهبوط الوجودي. لكن، فلنضعْ سويّاً مسألة الهبوط أو عدم الهبوط: هل يلزمك “سببٌ” أو “لماذا” أعمق لتحاول فهم هذه المعاناة الإنسانيّة الدّائمة (بتواجد الألم و/أو الشّرّ وغيرهما)؟ هل من معاناة أعظم من سجن الوحدة الواعية في قفص الكثرة، هل من وجع أعظم من سجن المُطلق في قفص النّسبيّ؟

أكتبُ هذه الكلمات وأنا أشعر طبعاً ومجدّداً بالصّوت الصّارخ ذاته داخلي.. والذي يكاد لا ينقطع منذ طفولتي: النّجدة! لسنا من هذا العالم!

إذن، بمصطلحات هي أكثر قُرباً إلى ما يُسمّى بالخطاب العلمي في عصرنا: ندافع فيما يلي عن طرحِ أنّ مقاربة سرّ الألم والشّرّ (والمعاناة بشكل أعم) يجب أن تكون من خلال مقاربة أحد الأسرار[5] العظمى في هذا الوجود (أو لَهُ): هبوط هذا الأخير من مرتبة الأحديّة (أي مرتبة الوحدة المُطلقة التي لا تقبل الكثرة) إلى مرتبة الواحديّة (أي مرتبة الوحدة التي نحن فيها الآن ظاهراً.. والتي تقبلُ الكثرة ولو ظاهراً أيضاً). ونقوم بذلك طبعاً دون التّعصّب لفكرة الهبوط الكوني أو الوجودي التي تدافع عنها بعض الأديان والمذاهب الرّوحيّة عموماً، لكن مع تركيزٍ على فكرة “العَلْقة” هذه أو “الورطة” في عالم الضدّ والكثرة (الذي لا يقوم إذن إلّا بقيام: الشّرّ في مقابل الخير والعكس، والألم في مقابل اللّذّة والعكس.. وما إلى ذلك).

ولا داعيَ للتّذكير: (١) بعدم اعتراضنا على الطّرح النّظري العام للايبنيتز وكما ذكرنا؛ (٢) لكن مع تشديدنا على أنّ جوهر وقلب المقاربة المذكورة أعلاه لا يمكن الدّنو منهما إلّا من خلال مقاربة التّجربة الفرديّة والشّخصيّة للإنسان “الواعي” – بما هي تجلٍّ لتجربة وعيٍ يُمكن تسميته بالكوني. وللحديث تتمّة إن شاء الله تعالى.

[1] يُنسب الميول إلى الإنطلاق – عموماً ومع التّبسيط – من “عالم المفهوم” نحو “عالم الواقع” الذي يُسمّى عادةً “بالعالم الخارجي”: يُنسب هذا الميول إلى “البرهان الوجودي” Argument Ontologique  الشّهير، والمنسوب بدوره عادةً إلى القدّيس الإيطالي الأصل، أي القدّيس آنسيلم من كانتربري Anselm of Canterbury المتوفّى حوالي عام ١٠٩٩ م في المملكة المتّحدة الحاليّة. راجع حول هذا الموضوع، المقال التّالي من Stanford Encyclopedia of Philosophy:

https://plato.stanford.edu/entries/ontological-arguments/

ومن الواضح، أيضاً بشكل عام، تأثّر الفلاسفة الدّيكارتيّين وأتباعهم ومن لحقهم، كديكارت نفسه وسبينوزا ولايبنيتز (وحتّى هيغل) بهذا الصّنف من البراهين الاستنتاجيّة أو القياسيّة (بمعنى Déductionnels) ذات الطّابع الأرسطي الواضح.. وهذا بحثٌ آخر أيضاً.

[2] أي إلى هذه المرحلة من تفكّرنا وتأمّلنا حول الوجود وفيه.

[3] أو بشكل أساسي إن شئت، علّنا لا نعارض ولا نستفزّ العلماء والحكماء الذين يعتقدون بأنّ للحيوانات وعياً متطوّراً أكثر بكثير ممّا نظنّ عموماً.

[4] راجع كتاباتنا السّابقة عن المفهوم عند كانط والكانطيّين: فهل يُمكن للذّهن – أصلاً – أن يُدرك الأشياء إلّا من خلال مفهوم عنها؟ وهذا بحثٌ آخر أيضاً.

[5] راجع سلسلتنا حول الذّكاء الاصطناعي، أيضاً على موقع 180Post، في جزئها الرّابع خصوصاً: حول “السّر” عند غابرييل مارسيل (ت. ١٩٧٣ م). أقصد الأسرار بهذا المعنى بالذّات، ولنا عودة إلى هذا الجانب في ما يلي.

(*) الجزء الأول: هل يُعذب الإله الأبرياء؟ حوار مع لايبنيتز

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  هل سيعود اللاجئون واللاجئات إلى بلدهم سوريا؟