مهما كان توصيفك أو تفسيرك أو تأويلك – أو تبريرك – لتواجد الألم والشّرّ معنا في هذا العالم: كيف يمكنك التّوفيق بين هذه المقاربات جميعها، وبين وجود إلهٍ ذي خيرٍ مُطلق وذي عدلٍ مطلق (وذي طيبةٍ مُطلقة حسب تعبير البعض، أو ذي محبّةٍ مطلقة حسب تعبير آخرين نتّفق معهم طبعاً)؟ خصوصاً: ماذا عن الألم والشّرّ اللَّذَين يصيبان أنفساً بريئةً لا ذنب لها، كالأطفال الرّضّع مثلاً؟ أين “العدل الإلهي” هنا؟
فلْنتنبّه إلى عدم حمل سؤال الثّيوديسا[1] هذا بغير محمل الجدّ، والجدّ الشّديد أيضاً: فهو عامودٌ من أعمدة الإلحاد والتّشكّك الفلسَفيَّين، وحتّى الثّقافيَّين والشّعبيَّين لدى أوساط أوروبيّة وغربيّة (وشرقيّة) واسعة – وإلى يومنا هذا. فلا زال الكثيرون يصرخون، على غرار شيخ الأنسيكلوبيديا L’Encyclopédie الأشهر، وأحد أعمدة الفكر النّهضوي الفرنسي الأظهر، أي الفيلسوف دينيس ديديرو (ت. ١٧٨٤ م). لا زال هؤلاء يصرخون مع Diderot: أيّ إلهٍ هذا الذي “يُعذّب” الأبرياء، ويتركهم عرضةً للألم والشّرّ المؤدّيين إلى المعاناة[2] طبعاً؟
إذن، حسب ديديرو وكثيرٍ من الملحدين والمتشكّكين، وإلى يومنا هذا، فطالما أنّ تواجد الألم والشّرّ “واقعٌ”: إذن، (١) إمّا أنّ إلهكم ليس “طيّباً وعادلاً” بالمطلق كما تدّعون، وإلّا لما ترك الأبرياءَ يُصيبهم عذابٌ أليمٌ بما لم يكونوا يعملون؛ (٢) وإمّا – ببساطة – أنّه “ليس هنالك من إله في الواقع”.
من قال “ثيوديسا”.. يقول “لايبنيتز”
نحن إذن أمام سؤال جدّي وجدّي جدّاً. وليس بالجديد أبداً، وقد ظهرَ على الأرجح منذ أوّل بدايات الحضارة الإنسانيّة (ظهوراً فرديّاً-شخصيّاً وظهوراً جماعيّاً أيضاً وبأشكال مختلفة). لكن، في العصور الحديثة نسبيّاً، وخصوصاً في الغرب، فإنّ أشهرَ من تصدّى لهذا السّؤال هو بلا شكّ أحد شيوخ العقلانيّين الغربيّين أجمعين، وأحد أعلام الدّيكارتيّين والنّهضويّين، أقصد الفيلسوف الألماني غوتفريد فيلهلم لايبنتس – أو لايبنيتز (ت. ١٧١٦ م).
فمن أراد شرح سؤال الثيوديسا اليومَ: احتاج في الأغلب إلى لايبنيتز. ومن أراد أن يناقش أجوبة المؤمنين رجع عادةً إليه. ومن أراد أن ينقدهم رجع، أيضاً في الأرجح، وصوّب عليه.
يمكن اختصار جواب (أو إجابة، أو مقترح حلّ، أو “مخرج”) لايبنيتز على هذا السّؤال العظيم، مع التّبسيط، كما يلي: إنّ من يركّز على وجود الشّرّ (بشكل خاص) في هذه الحياة، مَثَلُهُ كمَثَلِ من ينظرُ إلى لوحة فنّيّة كاملة ومتكاملة، فلا يُركّز فيها إلّا على نقطة صغيرة سوداء أو قاتمة اللّون. ولكن: هل هذه النّقطة السّوداء هي كلّ اللّوحة وكلّ معناها وكلّ المقصد منها؟ وهل يُمكن الحُكم على اللّوحة كلّها من خلال هذه النّقطة السّوداء فقط؟ الأصحّ هو أن نقول: إنّ هذه النّقطة السّوداء أو القاتمة هي بلا شكّ جزء من هذه اللّوحة، مع عدم محاولة إنكار ذلك أو التّهرّب من واقعه. ولكنّ المقصد من إيجادها – أي إيجاد النّقطة السّوداء تلك – ليس السّواد بما هو سواد وليست الظّلمة بما هي ظلمة: وإنّما المقصد هو إكمال الصّورة الكلّيّة التي تريد هذه اللّوحة أن تُظهرَها، وبالتّالي، إكمال المعنى والمقصد من ورائها.
كما رأينا في مقالنا حول الألم، وأيضاً في سياق تفكير لايبنيتز عينه: ما بالُك لو أنّ قصد الرّسّام، من خلال إضافة هذه النّقطة السّوداء، هو إظهار النّقاط البيضاء والمضيئة، أو التّشديد عليها كما يفعل الكثير من الرّسّامين؟ ماذا لو أنّ الهدف من إيجادها هو تعريفك على معنىً خلف هذا الإيجاد، هو بالتّأكيد معنىً يُعين على جعل اللّوحة مكتملة وكاملة شكلاً ومضموناً؟
حسب لايبنيتز وأتباعه إذن: ليس هناك من تناقض ولا تضادّ ولا تصادم – في الباطن والمضمون – بين “وجود الإله ذي الخير المُطلق – والعدل المطلق” من جهة، وبين وجود “الألم والشّرّ” من جهة أخرى (ولو مُسَّ بِهما البريء الطّاهر والطّفل الرّضيع)
عبقريّة طرح [3]Leibniz.. “العقلاني” أكثر من اللّازم؟
المشكلة حسب لايبنيتز وأتباعه هي:
(١) في أنّ الإنسان لا يمكنه أن يُدرك صورة الوجود الكلّيّة ليكونَ قادراً على الحكم على الجزء؛
(٢) في أنّه، أيضاً وبالتّالي، لا يمكنه دائماً أن يرى المقصد النّهائي والمعنى الأخير والجوهري للموجودات والأشياء. ولذلك يقع في فخّ سؤال الشّرّ (والألم) هذا: أمّا في الحقيقة، وفي مضمون الأمور، فكلّ شيء يسير بقَدَر، وقد قدّره الرّحمنُ – ذو الجلال والإكرام (والخير والعدل والجمال) – تقديرا. لوحة الوجود مُكتملة وكاملة، وليس في الإمكان أكملُ وأبدعُ وأجملُ وأطيبُ وأعدلُ ممّا كان: فالمقصد هو خيرٌ مطلقٌ وطيبةٌ مُطلقة، ولكنّ أكثر النّاس لا يُمكنهم – أو لا يُريدون – فهم هذه الحقيقة.
حسب لايبنيتز، ومع التّبسيط: لكي نفهم وجود الشّرّ (والألم) مع وجود الإله، علينا أن نقوم بعمليّة Zoom Out ذهنيّة، لكي نرى مُجمل الصّورة، ونُدرك – بالتّالي – المعنى الأخير الكامن وراء كلّ شيء. حسب لايبنيتز وأتباعه إذن: ليس هناك من تناقض ولا تضادّ ولا تصادم – في الباطن والمضمون – بين “وجود الإله ذي الخير المُطلق – والعدل المطلق” من جهة، وبين وجود “الألم والشّرّ” من جهة أخرى (ولو مُسَّ بِهما البريء الطّاهر والطّفل الرّضيع). أيّها الإنسان: قُم بالـZoom Out فوراً، وأوقف وسوسةَ نفسِك ووَسوَسةَ ذي الوسواس – أي ذاك الخنّاس، الذي ما فتئَ يوسوسُ في صدور النّاس (من خلال الـZoom In الهَوَسي بشكل خاص).
لا شكّ في أنّ جواب لايبنيتز قويٌّ ومُقنعٌ إلى حدّ بعيد جدّاً. ولكنّ جواب الشّيخ الألماني الكبير، ككثيرٍ من أبنية العقلانيّين والدّيكارتيّين، قائمٌ على تفكيرٍ ذهنيٍّ غالب ومسيطر. وقد يبدو أنّ له طابعاً: عامّاً ونظريّاً ومُجرّداً – وغالباً من جميع هذه الجوانب.
مثلاً: لطالما يشعرُ واحدُنا – أمام أعمال ديكارت وسبينوزا ولايبنيتز وأتباعهم بشكل خاص – أنّه أمام مقاربةٍ لمفهومٍ عن الإله بشكل أساسي، لا لتجربة شخصيّة مع الإله إن جاز التّعبير. كأنّ هدفَ هؤلاء هو مقاربة أسماء وصفات وأفعال الإله من خلال العقل الموضوعي (أو العقل الذّهني-المفكّر-المفاهيمي كما نسمّيه). يُمكنك أن تسأل لايبنيتز أحياناً: نعم مولانا، صرحكم المفاهيمي والنّظري يكاد يكون كاملاً.. لكن ماذا عن النّفس التي تُعاني وتُعذَّب؟ ماذا عن التّجربة الشّخصيّة-الذّاتيّة للألم والشّرّ؟ ماذا يقول الإنسان كفرد وكذات فيما يخصّ تجربته الحيّة مع تواجد الألم والشّرّ والمعاناة في حياته؟
وكأنّما نتصوّر الإله – مع Leibniz – من خلال مفهوم أو نموذج-مثالي معيّن، ثمّ نبني تفكيرنا ومنظومتنا على هذا الأساس. إذ: لأنّ نموذجنا-المثالي يفترض – مُسبقاً فيما يظهر – أنّ “الإله” (١) موجودٌ (٢) وكاملٌ (٣) وعادلٌ (٤) وذو خيرٍ معاً: بنينا هذا الصّرح اللّايبنيتزي المبين وبطريقة تقوم على قواعد علم المنطق الأرسطي، والاستنتاج (Déduction) الفلسفي الذّهني “الموضوعي” إن جاز لنا التّعبيرُ أيضاً.
يمكننا القول، إذن ومن الآن، إنّنا أمام إشكاليَّتَين ابتدائيّتَين ومبدئيَّتَين معاً:
١/ إشكاليّة المَيل إلى مقاربة “الإله” (بأسمائه وبصفاته وبأفعاله.. بل وبجوهره!) من خلال العقل الموضوعي (أو الذّهني-الدّيكارتي الطّابع)؛
٢/ إشكاليّة المَيل إلى الانطلاق “من مفهوم الإله نحو => الإله” إن جاز التّعبير، أو “من مفهوم الوجود => نحو الوجود”.
ولهذا تبعاتٌ مهمّة، طبعاً، في عمليّة نقد بعض جوانب الطّرح اللّايبنيتزي العظيم. فلنقاربْ بعضَها في ما سيأتي من جزءٍ ثانٍ من هذا المقال (السبت المقبل).
[1] هو مصطلح بناه لايبنيتز نفسه في المشهور: نُحيلُ إلى ما سيلي من حديث ومن مراجع.
[2] طبعاً، المشكلة الأساسيّة هي في أنّ تواجد الألم والشّرّ يؤدّي إلى المعاناة (عاجلاً أم آجلاً). راجع مقالنا السّابق حول: الألم.
[3] للاطلاع على فلسفة لايبنيتز وعمله حول الثّيوديسا، وبشكل مختصر ودقيق معاً، راجع باب Leibniz في:
Butler-Bowdon, Tom, 2017, 50 Philosophy Classics: Your shortcut to the most important ideas on being, truth, and meaning, London-Boston: Nicholas Brealey.