استدعاء مثال مانديلا إلى فلسطين.. والعالم

لم يتمكن الفلسطينيون والعرب، على الرغم من الكفاح الطويل والمعقد، والبطولي والأخلاقي، مع إسرائيل، من إيصال صوتهم وصورتهم إلى العالم. ولم تتحول قضية فلسطين، وهي قضية مقاومة ضد الاحتلال والاقتلاع والتهجير والإبادة، إلى قوة ضغط عالمية، قيمياً وأخلاقياً، على إسرائيل، بما يدفع نحو "حل" أو "تسوية"، أو على الأقل "ضبط" السياسات الإسرائيلية.

يُركزُ الحديث هنا على افتقار قضية فلسطين للتأييد العالمي، مقارنة بقضية جنوب أفريقيا أيام نظام الأبارتايد، ولماذا لم يمكن لاستراتيجيات المواجهة تبني خطاب ثقافي وإعلامي وإتصالي في أفق إنساني وأخلاقي يتلقاه الناس حول العالم، بقدر أكبر من التأييد والتفاعل، أو قدر أقل من التحفظ، على أقرب تقدير؟

وقد أمكن لفواعل الصراع في جنوب أفريقيا، وخاصة المؤتمر الوطني الأفريقي وزعيمه نيلسون مانديلا، حشد تأييد عالمي لقضيته، والضغط على فواعل السياسة في الولايات المتحدة وأوروبا وغيرها، بكيفية “ضيّقت” على نظام الأبارتايد، ثم “احتوت” قدرته على الاستمرار، وصولاً إلى “تفكيكه”.

كان إدوارد سعيد من المثقفين الذين قاربوا المسألة الفلسطينية بالمقارنة مع المسألة الجنوب – أفريقية وتجربة نيلسون مانديلا. قائلاً: “إن جنوب أفريقيا مكان ملهم للزيارة والتأمل، بالنسبة للعرب جزئياً، وعلينا أن نتعلم منه النضال والأصالة والمثابرة (ذلك أن) النضال التحرري الذي أنهى الأبارتايد.. يبقى أحد أهم الانجازات البشرية في التاريخ المدون”. (كتاب خيانة المثقفين، ص39).

لا شك أننا أمام قضيتين مختلفتين، وما يصح هناك قد لا يصح هنا. وليس المطلوب سحب ديناميات “الحل” أو “التسوية” في جنوب أفريقيا على قضية الصراع مع إسرائيل. لكن ثمة أمور يمكن التدقيق فيها، من باب التعزيز والتأكيد على ضرورة توسيع الأفق ودائرة الخيارات وأنماط الفعل، ليس بـ”القطع” أو “الإبدال” وإنما بـ”الإضافة”، إن أمكن التعبير. أي ليس “القطع” مع المقاربة السياسية والعسكرية و”إبدالها” بالمقاربة الثقافية والأخلاقية، وإنما بـ”توسيع” أو “إضافة” الخيارات أو الأبعاد الإنسانية والأخلاقية، في أفق التجربة الجنوب أفريقية مثلاً، أو في جانب منها.

يستعيد إدوارد سعيد عبارتين من خطاب لـ نلسون مانديلا، تهمنا منهما العبارة الأولى التي تقول: إن “نضالنا لم ينته”، حتى لو أن الحملة ضد الأبارتايد “كانت واحدة من الصراعات الأخلاقية العظيمة (التي) أسرت تفكير العالم واهتمامه”. ومن شبه المؤكد أن الفلسطينيين يتعرضون لعنف مهول وعمليات فصل عنصري وتهجير وإبادة تفوق ما تعرض له الجنوب أفريقيون، لكن مع ذلك، لم يصبح ذلك “واحدة من الصراعات الأخلاقية العظيمة (التي) أسرت تفكير العالم واهتمامه”!

وتقول الثانية، ولا شك أنها خلافية وإشكالية، الآتي: إن النضال ضد نظام الأبارتايد، ليس ببساطة، حركة لإنهاء التمييز العرقي، بل وسيلة “لنا كلنا لنؤكد إنسانيتنا المشتركة”. يقصد مانديلا بـ”كلنا”، كل أعراق جنوب أفريقيا، بما فيهم البيض مؤيدي الأبارتايد. وينظر للجميع بوصفهم “مشاركين في صراع هدفه النهائي التعايش والتسامح وتحقيق القيم الإنسانية”. (ص 40).

قد لا تجد الكلمات في العبارة الثانية مثل: “التعايش” و”التسامح” و”تحقيق القيم الإنسانية”، ارتياحاً من قبل الفلسطينيين والعرب، باعتبار أن وقائع الصراع تزداد صعوبة، كما تزداد المواقف الإسرائيلية تشدداً وعنفاً.

وأما العبارة الأولى فتمثل خط المعنى الرئيس في هذه المقالة، ذلك أن مخاطبة العالم تقتضي توسل مفردات وأفكار وقيم قابلة للتلقي، وخلق تضامن عالمي عابر للأقوام والجماعات والدول، يمكن أن يتحول إلى قوة ضغط سياسية فاعلة ومؤثرة، وإلا فإن لغة الحق وحده، لن تكون كافية، وقد لا تحقق المطلوب، في معركة السرديات والقيم بين العرب وإسرائيل.

لا يكفي القول إن الفلسطينيين والعرب أصحاب الأرض، وهذا أمر محق. وبالطبع فإن الجنوب أفريقيين الأفارقة هم أصحاب الأرض أيضاً، لكن التسوية وضعت الجنوب أفريقيين السود والبيض على قدم المساواة، في أفق مجتمع ودولة. هل هذا ممكن أو مقبول من أطراف الصراع في فلسطين؟ الإجابة الأقرب، باعتبار الظروف اليوم هي: لا.

لا تستطيع أن تتوجه إلى العالم بخطاب جزئي أو انتقائي، وخصمك يُركّز على “ما تسكت عنه” أنت، بل وكثيراً ما يُقوِّلك ما لم تقله، ويستعيد (ويعيد إنتاج، وغالباً بشكل مشوه ومبالغ فيه) أكثر كلماتك توتراً وتشدداً، بوصفها خطابك الاعتيادي الذي يُعبّر عن نظم القيم ومحددات الفعل السياسي لديك.

لا بد من النظر والتدقيق في: كيف يرى العالم قضية فلسطين، وثمة مجتمعات ودول حول العالم قامت بكيفية مشابهة لقيام “إسرائيل”؟ بمعنى أنها قامت نتيجة ديناميات النظام العالمي وليست منتجاً تلقائياً أو طبيعياً لحركات اجتماعية وسياسية إلخ بل غالباً على حساب شعوب أو أمم أصلية، كما هو الحال في أمريكا وكندا واستراليا وجنوب أفريقيا ونيوزيلاندا وغيرها، فكيف لمجتمعات ودول أن تكون – حيال إسرائيل – ضد ديناميات شكَّلَتها هي نفسها؟

يُريد العالم أن يرى ما لدى الفلسطينيين والعرب بشأن مشاريع “حل” أو “تسوية”، لا تتضمن مثلاً “إبادة معكوسة” أو “إبعاد معكوس” للخصم، حتى لو أن نظم التفكير لدى الفلسطينيين والعرب لن تتقبل بسهولة أي “حلول هجينة” أو “توليفية” أو “تكييفية” للصراع. وهذا ينسحب على الإسرائيليين أيضاً، وربما أولاً.

إقرأ على موقع 180  وكلاء متجوّلون لصالح إسرائيل في البرلمان الأوروبي

وكيف للفلسطينيين والعرب أن يفعلوا، في وقت يتبنى الإسرائيليون فيه مواقف أكثر تشدداً حيال العرب، ويُصوّتون لليمين المتطرف، بل ويُعيدون إنتاج سرديات ودعوات التهجير والفصل العنصري والجدران والمناطق العازلة، ومقولات من قبيل: “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”، وثمة من يُهدّد بضرب الفلسطينيين بالسلاح النووي؟

هل في هذا الكلام ما يُمكن أن يبطل فكرة المقال من الأساس، أي استدعاء مثال مانديلا في جنوب أفريقيا إلى فلسطين؟ ربما، ولا بد من أن عوامل الإبطال تأتي من إسرائيل وحلفائها في المقام الأول، إلا أن ثمة عوامل إبطال خاصة بالفلسطينيين والعرب أنفسهم. وقد يكون في مقدمها هو إخفاق تجربة الكفاح والمقاومة خلال عدة عقود في “تفكيك” المسألة الإسرائيلية و”حل” المسألة الفلسطينية، و”خلق” توافق عالمي داعم ومؤيد للفلسطينيين والعرب في صراع يُعدُّ آخر صراع كولونيالي استيطاني في العالم اليوم، ويُعدُّ أيضاً صراعاً تاريخياً ووجودياً، من الصعب مجرد تصور كيف يمكن الدفع به إلى مسار حل أو تسوية قابلة للاستقرار والاستمرار.

والواقع أن تجربة المقاومة لم تكتمل أركاناً، ولم يتمكن المقاومون – لأسباب عديدة – من تحقيق تقدم حاسم في مسيرة التحرير، فضلاً عن أن ثمة انحرافات واختلالات كثيرة طالت تلك المسيرة. ويبدو أن فكرة المقاومة بالسلاح ليست في أفضل حال، أو ليست محل إجماع في المجال الفلسطيني نفسه، وتتعرض لضغوط وقيود متزايدة من قبل فواعل كثيرة في الإقليم والعالم.

ويبدو الفلسطينيون اليوم أكثر انقساماً حيال القضية مما كانوا في أي وقت، كما أن مقولات المقاومة والتحرير تحولت من العروبة والوطنية واليسار إلى “الأسلمة” بكل حمولاتها ومضامينها وإحالاتها التي تستثير مواقف مناهضة لها في الإقليم، وفي المجال الفلسطيني نفسه. وهذا أمر يتطلب المزيد من التقصي والتدقيق.

والآن، هل فعل الفلسطينيون كل شيء ممكن من أجل مخاطبة العالم حول قضيتهم؟ الجواب هو: لا. لكن من غير العدل تحميلهم بالتمام تبعات الإخفاق، إذ ثمة مأزق أخلاقي وإنساني، واختلال كبير في نظم القيم واتجاهات السياسات في العالم. القليل من فواعل السياسة في العالم وقف إلى جانب الشعب الفلسطيني، والكثير من فواعل السياسة يقف إلى جانب إسرائيل.

قد يكون “درس مانديلا” مهماً في هذا الباب، بمعنى كيف أمكن أن يتحول العالم من تأييد لنظام الأبارتايد إلى الوقوف ضده. وقد لا يكون التركيز على الجانب الأخلاقي للقضية الفلسطينية ذا عائدية تلقائية أو سريعة، إنما ثمة حاجة متزايدة لذلك. هي جبهة صراع وكفاح لا تقل حساسية وضراوة عن الجبهة العسكرية.

مرة أخرى، ليس المطلوب إسقاط التجربة الجنوب أفريقية على قضية فلسطين والصراع مع إسرائيل بالتمام، إذ ثمة فروق كثيرة كما سبقت الإشارة، إنما المطلوب هو التأمل في “الدرس الجنوب أفريقي”، وتدبّر خطاب وتفكير وسلوك يعكس البعد الأخلاقي للمسألة الفلسطينية، بكيفية تجعلها أكثر تلقياً، وتجعل العالم أكثر تقبلاً وتأييداً.

وهذا باب فيه كلام كثير!

Print Friendly, PDF & Email
عقيل سعيد محفوض

كاتب وأستاذ جامعي، سوريا

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  في مخيمات لبنان.. متى ندق "جُدران الخزان"؟