أسفار التوراة.. لبنان العبراني والأرز الملعون (3/3)

يخلص الجزء الثالث والأخير من هذه الثلاثية، إلى تقديم صورة عن نظرة التوراة إلى حدود إسرائيل التي تتعدى لبنان وتتجاوزه أحياناً إلى مدينة حماة السورية ومرات إلى نهر الفرات، كما يستعرض هذا الجزء نصوصاً من التوراة توازي بين الطغاة وأرز لبنان "المستكبر والمتعالي" فتدعو لإنكساره واقتلاعه.

ثمة صورتان للبنان في أسفار التوراة؛ أولى، متمثلة بجماله المطلق بمائه وأثماره وأشجاره وجباله؛ وثانية، جشعة وطامعة بأرضه وداعية بأقذع اللعنات على أرزه.

في مدار الصورة الجمالية يرد في “المزمور 72” المنسوب إلى النبي داوود “علِّم الملك أحكامك يا ألله، وابن الملك عدالتك، فتحمل الجبال سلاما والروابي عدلا لشعبك (…) يباركك نهارا وليلا فتكثر السنابل في الأرض وتتمايل على رؤوس الجبال وتثمر كما في لبنان”.

وينص “سفر إشعيا” في ترنيمة رقمها 35 “ستفرح البرية والبادية ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس، يزهر أزهارا ويبتهج ويرنم طربا، مجد لبنان أعطي له”. وفي “سفر هوشع” دعوة إلى التوبة المصحوبة بعد تحققها بنمط حياة هانئة وذات رفعة جمالية كلبنان وأرزه، وفي السفر المذكور “توبوا يا بني اسرائيل (…) ارجعوا إلى الرب (…) أكون لبني إسرائيل كالندى، فيزهرون كالسوسن ويمدون جذورهم كلبنان، فروعهم تنتشر، يكون بهاؤهم كالزيتون ورائحتهم كلبنان”. وفي “نشيد الإنشاد” المنسوب للنبي سليمان “سليمان صنع لنفسه سريرا من شجر لبنان”، وفي قطعة أخرى من النشيد “تحت لسانك عسل ولبن مثل عبير لبنان”.

هذا الوجه الجمالي للبنان كما تظهره نصوص التوراة، لا ينحصر في دلالته اللفظية، مكتوبة أو منطوقة، وإنما سيشكل حافزاً ومطمعاً لجعل جغرافية إسرائيل متجاوزة لبنان كله من ساحله إلى جبل حرمون ووادي البقاع وجباله، فضلاً عن إقران الأرز وجماله وارتفاعه وصلابته بـ”التشامخ” الطاغوتي والفرعوني بالتحديد، وفي تفاصيل الأسفار ورد الآتي:

أولاً؛ “لبنان العبراني”:

من أوائل الملامح التوراتية تجاه لبنان، ما ينص عليه “سفر التثنية” من رغبة النبي موسى برؤية لبنان وينسب هذا السفر لموسى قوله “قلتُ للرب مستعطفا: أيها الرب الإله دعني أعبر فأرى الأرض الطيبة عبر الأردن غربا وذلك الجبل الجميل ولبنان، ولكن الرب كان غاضبا عليّ بسببكم ـ بسبب بني إسرائيل وقال: كفى.. لأنك لا تعبر الأردن، إذهب إلى يشوع وشدّد عزيمته لأنه هو الذي يعبر أمام هؤلاء الشعب ويملكهم الأراضي التي تراها”.

ما يُفهم من النص السابق أن الله نهى النبي موسى عن العبور إلى أرض كنعان ومن ضمنها لبنان، ولكن في “سفر التثنية” نفسه نجد نقيض هذا النهي، فيعزو “التثنية” للنبي موسى أنه قال:

“الرب إلهنا كلمنا في جبل حوريب ـ جبل سيناء ـ وقال: أقمتم ما فيه الكفاية في هذا الجبل، فتحولوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يجاوره من صحراء عربة ـ بين البحر الأحمر والبحر الميت ـ وما يليها من الجبال والسهول، إلى الجنوب وساحل البحر، إلى أرض الكنعانيين ولبنان حتى النهر الكبير، نهر الفرات، فأنا الرب جعلتُ هذه الأرض بين أيديكم، فإدخلوها واملكوها لأنها هي الأرض التي أقسمتُ لآبائكم إبراهيم وإسحق ويعقوب أن أعطيها لهم ولنسلهم من بعدهم”.

وفي “سفر التثنية” أيضا يُخاطب موسى “بني إسرائيل” قائلاً “إن حفظتم جميع هذه الوصايا التي أنا آمركم بها وعملتم بها، فأحببتم الرب إلهكم وسلكتم في طرقه كلها، وتمسكتم به، يطرد الرب جميع هؤلاء الشعوب من أمامكم، فترثون شعوبا أكثر وأعظم منكم، كل موضع تدوسه أخامص أقدامكم يكون لكم، من البرية جنوبا ـ يرجح أنها صحراء سيناء ـ إلى لبنان شمالا ومن نهر الفرات شرقا إلى البحر غربا، لا يقف إنسان في وجوهكم لأن الرب إلهكم يُلقي الرعب والخوف منكم على كل الأرض التي تدوسونها كما وعدكم”.

بعد “سفر التثنية” يأتي “سفر يشوع” ليكمل ما سلف، إذ ينص “بعد وفاة موسى قال الرب ليشوع بن نون: مات عبدي موسى، قم الآن واعبر الأردن أنت وجميع بني إسرائيل إلى الأرض التي أعطيتُها لهم، كل مكان تدوسه أقدامكم أعطيه لكم، تمتد حدودكم عبر كل أرض الحثيين، من البرية جنوبا إلى لبنان شمالا، ومن نهر الفرات الكبير شرقا إلى البحر، لا يثبت احد أمامكم طول أيام حياتك، كما كنتُ مع موسى أكون معك”.

وفي المضمون نفسه يتحدث سفر “أخبار الأيام الأول” حين يروي سيرة النبي داوود، فقد “جمع داوود كل رجال إسرائيل من حدود مصر إلى ليبو حماه ـ مدخل مدينة حماه السورية ـ لنقل تابوت العهد من قرية يعاريم ـ غربي القدس ـ إلى أورشاليم”.

يشرح “قاموس الكتاب المقدس” الذي أسهم في إعادة تحريره المطران الراحل جورج خضر والقساوسة بطرس عبد الملك ومرقس داوود وصموئيل حبيب وأستاذ الآداب السامية مراد كامل وغيرهم، الدلالة المقصودة بـ”ليبو حماه”، فيأتي الشرح كالآتي:

“مدخل حماة كان معتبرا الحد الشمالي لإسرائيل، وربما كان لهذا التعبير عند أهل الجنوب معنى خاص ويدل على وادي البقاع الطويل بين سلسلتي جبال لبنان الغربية والشرقية والذي فيه يمتد الطريق إلى حماة، والبعض يعتبرونه كالممر بين جبال لبنان وجبال اللاذقية ممتدا من حمص إلى طرابلس، وهكذا يربطه إقليم سوريا الداخلي بساحل البحر المتوسط، وهناك رأي آخر بأن الكلمة العبرية المترجمة مدخل (…). هي اسم علم، وبناء على ذلك يعتقد أن هناك مكانا اسمه ليبو حماة (قد تكون بلدة لبوة اللبنانية الحديثة) يقع على بعد 14 ميلا إلى الشمال الشرقي من بعلبك وهكذا هو يشرف على الأرض المرتفعة بين نهري العاصي والليطاني”.

ويرد في هذا “القاموس” أن “حزقيال تنبأ أن تكون حماة ضمن نطاق مملكة الله”، ويدفع هذا “التنبؤ” للإطلاع على ما هو منسوب لحزقيال في سفره:

“قال السيد الرب: هذه هي الحدود التي ترثون فيها الأرض (…) من جهة الشمال من البحر المتوسط على طريق حتلون إلى ليبو حماه إلى صدد ـ بلدة سورية في محافظة حمص ـ وبيروته ـ قد تكون بيروت أو بلدة بريتال البقاعية كما في “قاموس الكتاب المقدس”ـ وسبرائيم التي بين حدود دمشق وحدود حماه (…) وتكون الحدود الغربية من البحر المتوسط إلى قبالة ليبو حماه”.

إقرأ على موقع 180  لبنان: "حرب إلغاء" حقيقية.. مكانك راوح حكومياً!

وعن لبنان “يقول الرب” لزكريا في سفره:

“سأقوي بيت يهوذا وأخلِّص بيت يوسف، أعيدهم إليّ لأني رحتمهم، فأنا الرب إلههم أعينهم وكأني ما خذلتهم (…) أومئ إليهم وأجمعهم لأني افتديتهم، فيكثرون كما كثروا، أزرعهم بين الشعوب، أعيدهم من أرض مصر وأجمعهم من أشور وأجيء بهم إلى أرض جلعاد ـ الأردن ـ ولبنان، فلا يتسع لهم مكان”.

ثانياً؛ أرز لبنان الملعون:

ينص المزمور رقم 29 على التالي:

قدّموا للرب يا أبناء الرب 

قدّموا للرب مجدا وعزة 

صوت الرب على المياه 

إله المجد أرعد 

صوت الرب عظيم القوة 

صوت الرب يكسر الأرز 

يكسر الرب أرز لبنان 

يجعل لبنان يقفز كالعجل 

وحرمون كولد الثور الوحشي”.

البعض من مفسري التوراة يقولون إن في هذا المزمور المنسوب إلى النبي داوود معان رمزية مرتبطة بتحدي “إله” الكنعانيين والفينيقيين “هدد” ـ أو “حدد” ـ وهو الإسم الآخر لـ”بعل” ـ أي السيد ـ وكان “هدد” أو “حدد” في المعتقد الكنعاني “سيد الرعد”، وفي هذا المزمور على ما يقول المفسرون إن “يهوه إله اسرائيل” يتحدى “هدد”/ “حدد” الكنعاني ويؤكد انتصاره وتفوقه عليه.

وإذا ما تم تجاوز حروب العبرانيين على معتقدات الكنعانيين كما سبق القول في القسم الأول من هذه الثلاثية، فإن دارسين آخرين للتوراة لا يجدون فارقا بين “يهوه” و”هدد ـ حدد” الذي هو أحد تعبيرات أو مسميات “بعل” ومن بين القائلين بذلك عالم النفس الشهير سيغموند فرويد في “موسى والتوراة”.

ويقترب أستاذ الحضارات والأديان القديمة العراقي خزعل الماجدي من هذا المسار التفسيري، ففي كتابه “أنبياء سومريون” يرى أن “الإله التوراتي إلوهيم، وهي كلمة عبرية مأخوذة من الكنعانية إيل المأخوذة بدورها من إل السومرية، تعني الهواء، وإلوهيم جمع ومفرده إل كان يسمى في فترات متأخرة عند الآراميين حدد الأعلى ـ عليون، وهو شكل من أشكال بعل”.

في المزمور 37 يتآخى “فعل الشر” وأرز لبنان وفي نصه:

“سواعد الأشرار تنكسر والصديقون يسندهم الرب

الرب يصون حياة الأبرار وميراثهم يبقى إلى الأبد 

أما الأشرار فيبادون مثل نضرة المراعي ومثل الدخان يضمحلون

الشرير يستقرض ولا يفي أما الصديق فيتحنن ويعطي

الرب يحب الإنصاف ولا يتخلى عن أتقيائه 

الشرير يراقب الصديق ويحاول جاهداً أن يُميته 

رأيتُ الشرير متعالياً مثل أرز لبنان”.

ويمضي “سفر إشعيا” في هذا السبيل من حيث إسقاطه توصيف “التعالي” على أرز لبنان، فيتنبأ مصرحاً:

“الرب وحده يتعالى في ذلك اليوم الآتي/ يوم تكون قدرة الرب/ على كل مستكبر متعال وكل مترفع فينحّط/ وعلى كل أرز لبنان أرزه العالي المرتفع”.

وإلى هذه المزواجة بين الشر وأرز لبنان مرة، وبين تعالي الأرز وترفّعه في مرة ثانية، تأتي المزاوجة الثالثة بين “الطغاة ” والأرز، فيتخذ “سفر حزقيال” من فرعون مصر (حقد التوراة على المصريين لا يقل عن حقدها على الكنعانيين والفينيقيين) مثالا لتشبيهه بإستكبار الأرز اللبناني واستعلائه، وفي هذا السفر تنسب التوراة إلى حزقيال قوله:

“بعد السبي قال لي الرب: يا ابن البشر قل لفرعون ملك مصر وجيوشه، بماذا أشبهك في عظمتك؟ أشبهك بأرزة في لبنان، جميلة الأغصان وارفة الظل، رأسها بين الغيوم، لذلك شمخت عاليا فوق جميع أشجار الغابة، فغارت منها جميع الأشجار في عدن في جنة الله، بما أنها تشامخت وجعلت رأسها بين الغيوم وتكبّر قلبها في تشامخها فسأجعلها في يد ملك جبّار، فيعاملها بما تستحق لأني نبذتها لشرّها، فالغرباء في الأمم يقطعونها ويطرحونها في الجبال، فتسقط قضبانها في جميع الأودية وتتكسر فروعها في جميع مجاري الأنهار، على جثتها تسكن طيور السماء وبين فروعها تقيم وحوش البرية”.

ولا ينتهي مصير الأرزة اللبنانية عند هذا الحد، فـ”سفر حزقيال” يلاحق الأرزة إلى ما بعد الهوان والممات مُرجِعا أقواله إلى “رب” العبرانيين “قال السيد الرب: في يوم هبوطها إلى القبر أقيم مناحة فأقطع عنها الينابيع وأمنع أنهارها، وألبُس لبنان حدادا عليها، من صوت سقوطها ترتعش الأمم حين أهبطها إلى القبر مع الهابطين، هذا هو مصير فرعون وجميع جيوشه يقول السيد الرب”.

يقول مفسرو التوراة إن تلك الأسفار يتوجب فهمها بأبعادها “الرمزية” المتصلة بالشر والتعالي والطغيان وليس بنصوصها الحروفية، ولكن دارسي التوراة والضالعين في قراءة التاريخ يروون بأن أسفار التوراة لا تخرج عن سياقين، الأول يتصل بالصراع المديد على الأرض بين الكنعانيين أصحاب أرض كنعان الأصليين والعبرانيين الغرباء عن هذه الأرض والمتذرعين بـ”الوعد الإلهي”، والثاني لا ينفصل عن الموقف العدائي لمحرري الأسفار وكتبتها تجاه الفينيقيين بمدنهم ورموزهم، مدينة صور وثراؤها، مدينة صيدا وغناها، ولا يخرج تشبيه الأرز اللبناني بالإستعلاء والتشامخ والطغيان عن هذا السياق.

ختاماً؛ عن “الطغيان” وأرز لبنان يقول “سفر زكريا”:

“إفتح يا لبنان أبوابك فتأكل النيران أرزك

ولول أيها السرو على سقوط أرز لبنان ودمار أشجاره العظيمة 

ولول يا بلوط باشان ـ بحيرة طبريا ـ على تكسر غاباته الوارفة 

ها صوت ولولة الرعاة على خراب مراعيهم 

ها صوت زئير الأشبال على دمار أعالي الأردن”.

– راجع الجزء الأول: الماضي الفينيقي والكنعاني بلغة التوراة اليوم.. حرب إبادة لا تنتهي 

– راجع الجزء الثاني: التوراة.. هذا ما نالته صيدا وصور من لعنات وخراب

Print Friendly, PDF & Email
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  يافا والجواهري.. قصائد عشق وحكايات