العدد الذي أنجز في زمن قياسي، كما يذكر الكاتب عبد الرحيم الشيخ في مقالته “غزة: القلب المفتوح”، تضمّن مقالات ودراسات لـ60 كاتباً وكاتبة من فلسطين والعالم العربي والعالم (376 صفحة) تمحورت حول أربعة محاور: “الأسرى والحرية”، “الإعلام والسردية”، “الإعمار والعمارة”، و”الاجتماع والثقافة”، فجاء العدد حصيلة جهد جماعي “كُتب بقلوب المؤلفين لا بأيديهم كرمى لعيون غزة. فطوبى لتاريخ سيشهد على وجود غزة وبقاء أرضها وبحرها وسمائها ونارها”.
في الإفتتاحية، يسأل رئيس تحرير المجلة الروائي العربي الياس خوري: “أين تقع غزة”؟ ويقول “غزة تكتب اليوم جغرافيا العرب الحديثة.. وتشكّل غزة اليوم مقياساً لمآل القيم الأخلاقية في العالم”.. ويضيف أن غزة اليوم “هي سرّة العالم مثلما هي القدس سُرّة العالم”.
سؤال الياس خوري عن غزة يرد جوابه في خطاب “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 كوثيقة خاصة تنشرها المجلة على لسان القائد العام لكتائب الشهيد عزالدين القسّام محمد الضيف (نقلاً عن الرابط الالكتروني للمركز الفلسطيني للإعلام). وفي هذا الربط بين السؤال وحقيقة الجواب تدرّجت المقالات المتميزة في المحاور الأربعة المذكورة، انطلاقاً من ترددات 7 أكتوبر، ليجد القارىء أمامه مادة دسمة وغنية تستدرجه إلى إقتناء العدد ووضعه في مكتبته ليكون مرجعاً من مراجع كثيرة تضج بروح غزة والأمل بتحرير فلسطين من عدو إستيطاني مُحتضن من الاستعمار الغربي بكليّته.
يرى حيدر عيد أستاذ الأدب في جامعة الأقصى في غزة “أن الحياة بلا معنى هي أسوأ أنواع الموت”، ويُمرحل الدكتور سيف دعنا بحثه عن “العالم قبل عبور تشرين وبعده” بدءاً من وعد الرئيس الأميركي ويلسون العام 1917 والحضور الأميركي الفاعل حينها، وتستقرئ سامرة إسمير أستاذة في جامعة كاليفورنيا في مقالتها “إرشادات غزة: نهاية الحكم الاستعماري” عن الخطر الذي يلوح فوق فلسطين وهدفه إزالة الوجود الفلسطيني وإبادة الشعب والأرض والحكاية، وتقول، و”لكن كلما ازداد قطع الصلة بالأرض ازداد التشبث بها، وكلما ازدادت الإزالة ازداد انبثاق الحياة من بين الأنقاض، لأن الأرض في المخيلة الفلسطينية ليست مورداً اقتصادياً قابلاً للقياس”، ويطالب ياسر الزبيدي أستاذ العلوم السياسية في جامعة بير زيت “بتعويضات من دولة الاحتلال شبيهة بتلك التي تتلقاها هي نفسها من ألمانيا” (منذ المحرقة)، وتتلخّص مقالة عبد الجواد عمر “العبور كتجربة تدميرية” بوصفها تجربة تدمير الذات الصهيونية، وفي ما يزرعه من تحولات داخل النفس الصهيونية أكانت هذه التحولات تُعزّز من الفاشية الصريحة، أم تدفع نحو إعادة تقييم الحل العسكري كحل شامل لكل معضلة في المخيلة الصهيونية.
تضمّن العدد أيضاً حواراً مع المفكر الفلسطيني خالد عودة الله (من ص61 إلى ص 84) ذكر فيها “أن التحرير ممكن والحرية ممكنة، لكن دونهما تحرير المعرفة عن الذات وعن العدو”. وتفتتح محور “الأسرة والحرية” الأسيرة المحررة المناضلة خالدة جرار بمقالتها عن “تحطيم العبودية وتبييض السجون” الإسرائيلية. كما تُقدّم أماني سراحنة مسؤولة الإعلام في نادي الأسير الفلسطيني تقريراً عن أحوال الأسرى الفلسطينيين خلال الحرب. ويعالج الشاعر والباحث علي مواسي “مشكلات الكُمُون: فلسطينيو 48 والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة”، معدداً خمسة عوامل تأسيسية تساهم في تشكيل حالة الكمون وهي: العسكرة، الضعف المؤسساتي والتنظيمي، الثمن الباهظ لمواجهة النظام الإسرائيلي، سياسة الإسكات بالعصا والجزرة، مستبعداً أن تبقى حالة الكمون هذه على حالها، بل تتخللها محاولات لتحدي النظام ومواجهته.. أما في محور الإعلام والسردية، فتركز رولا سرحان مؤسسة ورئيسة تحرير “الحدث الفلسطيني” على تغييب إعلام السلطة الرسمية الفلسطينية لتغطية حرب الإبادة في غزة وترى في الأمر “تغييباً لفلسطين ناساً وأرضاً وحكاية”. ويؤكد رئيس تحرير “عرب 48″، ومقره حيفا، رامي منصور في مقالته كيفية تكريس الإعلام الإسرائيلي في خدمة الخطة العسكرية للحرب، وتجييره عملية غسل دماغ المجتمع الإسرائيلي في إطار الحرب النفسية الداخلية للجيش على شعبه.
وفي هذا المحور تستقصي الدكتورة نهاوند القادري عيسى “محددات بناء سردية مناهضة للدعاية الصهيونية المخادعة”، فتركز في مقالتها على ضرورة توفر مجموعة من المقومات والشروط العامة لبناء السردية ومنها: معرفة الذات ومعرفة العدو، ومعرفة منطق اشتغال المنصات الرقمية، ووعي أهدافها وغاياتها، من أجل التموضع في هذه البيئة، وأيضاً في الإقلاع عن التسميات الطائفية والمذهبية، والبحث عن مساحات مشتركة بين الفلسطينيين على مختلف انتماءاتهم وتوجهاتهم وما بين الفلسطينيين والعرب المؤيدين للقضية، وما بين العرب وأحرار العالم. كما ركّزت نهاوند القادري على ضرورة تدشين مشروع فكري واضح المعالم من شأنه بلورة أجندة إعلامية، وكذلك تفعيل العمل النقابي من أجل رعاية أخلاقيات المهنة، ودعم الإعلاميين والمؤثرين والناشطين الذين يتعرضون للضغوطات والملاحقات. ويتضمن هذا المحور قراءات في تغطية وسائل الإعلام الفرنسية والألمانية لحدث “طوفان الأقصى”.
ويتناول “محور الإعمار والعمارة” تحليلات لمباني الهيمنة الحربية الصهيوينة خلال الحرب، كما يسلط الضوء على الأمل في ظل الدمار الشامل من خلال عمليات الترميم والتصميم والتخطيط المعماري، كما ينتقد سياسات الدعم والتمويل لغزة، وشهادات على أمكنة غزة التي قضمتها آلة الحرب الصهيونية.
ويتميز هذا العدد الخاص عن غزة بثراء موضوعاته وتنوعها، ولا سيما في محور الثقافة والشعر، فنقرأ قصائد ونصوصاً لكل من معين بسيسو ورفعت العرعير وهبة أبو ندى ومريم حجازي وسليم النفّار وهيا عبد الرحمن أبو نصر وخالد جمعة وبيسان عبد الرحيم وعثمان حسين ونعمة حسن ووليد الهليس ونسرين سليمان وعاهد حلس ودنيا الأمل إسماعيل وحيدر الغزالي وجواد العقّاد ويحيى عاشور ومصعب أبو توهة ووضّاح أبو جامع وحسين البرغوثي.
(*) رابط العدد 137 من مجلة الدراسات الفلسطينية