بالتركيز على القانون وقوة القانون، أصدرت محكمة العدل الدولية في لاهاي، الأسبوع الماضي، حكماً أولياً لصالح الادعاء الذي تقدمت به دولة جنوب أفريقيا بأن العملية العسكرية التي تشنها إسرائيل على غزة منذ نحو أربعة أشهر يمكن وصفها بأنها إبادة جماعية. وفي تصويت شبه بالإجماع، أمرت اللجنة الدولية للمحكمة، المؤلفة من 17 قاضياً، إسرائيل بالعمل على منع أعمال الإبادة الجماعية، وتضييق الخناق على كل من يُحرّض على إرتكاب جرائم إبادة جماعية، بالإضافة إلى ضمان وصول المساعدات الإنسانية الفورية والفعَّالة للفلسطينيين في غزة.
قد يقرأ البعض أمر المحكمة باعتباره تدخلاً قانونياً محدوداً يرفض الطلب الرئيسي الذي تقدمت به جنوب أفريقيا، وهو إصدار حكم يوقف الحرب الإسرائيلية المدمرة فوراً. حتى أن القضاة قدموا غصن زيتون للحكومة الإسرائيلية بتأكيدهم الواضح على أن جميع أطراف النزاع في غزة “ملزمون بتطبيق القانون الإنساني الدولي”، وبمطالبتهم بـ”الإفراج الفوري وغير المشروط” عن أكثر من 100 رهينة إسرائيلية لا يزالون محتجزين لدى حركة حماس ومجموعات أخرى من الفصائل الفلسطينية منذ عملية “طوفان الأقصى”.
في الوقت نفسه، يُمثل حكم المحكمة تحدياً حقيقياً لجميع دول العالم؛ الولايات المتحدة على وجه الخصوص؛ حول تطبيق القانون الدولي في وقت نشهد فيه تزايداً للعنف والصراعات وتضاؤلاً لاحترام سلطة المؤسسات القانونية الدولية.
وفي الوقت الذي تبدو فيه جهود إدارة الرئيس جو بايدن للحد من ضرر الحرب الإسرائيلية على المدنيين الفلسطينيين متعثرة، ألقت المحكمة ما يمكن اعتباره بمثابة “شريان الحياة”، وطريقاً إلى سياسة جديدة متجذرة في الأعراف الدولية للتعامل مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. ويتعين على البيت الأبيض أن يتبنى قرار المحكمة، وأن يستخدمه أداة دبلوماسية جديدة لوقف الحرب الإسرائيلية وجعل “حماس” تطلق سراح الرهائن الذين تحتجزهم.
حلول متوسطة هامة
يُمثل الحكم الصادر في 26 كانون الثاني/يناير مجرد بداية. ومن المرجح أن تنطوي دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل على سنوات من التقاضي حول الولاية القضائية والأسس الموضوعية النهائية لادعاء الإبادة الجماعية- وهو التقاضي الذي أذنت المحكمة الآن بالمضي قدماً فيه.
في غضون ذلك، فإن كيفية استجابة الولايات المتحدة وأوروبا لحكم المحكمة أكثر أهمية من القرار نفسه. فإذا أصرت واشنطن والقوى الغربية الأخرى على الدوران في الفلك الإسرائيلي وحشد الدعم اللامحدود واللامشروط لإسرائيل، فهي بذلك تخاطر بإلحاق المزيد من الضرر بالقانون الدولي وبالنظام الدولي القائم على قواعد تبنتها تلك الدول في قضايا سابقة لمحكمة العدل الدولية (…). كما أنها تخاطر بتنفير عدد كبير من الحكومات حول العالم، بما في ذلك قسم كبير من دول الجنوب، التي دعمت المحكمة في الماضي وتدعم قضية جنوب أفريقيا على نطاق واسع. أما الهجوم الخطابي على حكم المحكمة فسيكون له عواقب سياسية داخل الولايات المتحدة، وعلى جو بايدن بشكل خاص الذي بدأ حملة انتخابية صعبة جداً، نظراً لخيبة الأمل الواسعة النطاق لدى المجتمع العربي الأميركي الناتجة عن احتضان إدارة بايدن لإسرائيل بشكل علني وغير مسبوق.
قرار المحكمة الدولية يضع واشنطن أمام تحد حقيقي ويلقي لها بـ”طوق” نجاة” لإنقاذ مصداقيتها ودورها كـ”زعيم” للنظام العالمي القائم
تميز قرار المحكمة بضبط النفس النسبي (…). بمعنى، لو وافقت المحكمة، مثلاً، على طلب جنوب أفريقيا بأن تصدر أمراً مباشراً بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة فوراً، فمن المؤكد أن إسرائيل وأميركا كانتا سترفضان الحكم والتدابير التي تبنتها المحكمة. فعلى الرغم من أن قراءة رئيسة محكمة العدل الدولية، جوان دونوغو، المتأنية للحكم عكست خطورة الوضع في غزة، إلا أنها فعلت ذلك بلغة معتدلة (…). فقد كان بوسع المحكمة أن ترفض ادعاء جنوب أفريقيا وتتبنى غضب إسرائيل التي دافعت عن نفسها بأنها لم تكن لديها النية بارتكاب إبادة جماعية وأنها وجدت نفسها مضطرة للرد على ما ارتكبته “حماس” يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر الماضي (…).
أثناء قراءة الحكم، أشارت دونوغو إلى تصريحات كبار المسؤولين الإسرائيليين؛ بمن فيهم وزير الدفاع يوآف غالانت والرئيس إسحاق هرتسوغ؛ – التي وصفتها جنوب أفريقيا ودول أخرى بأنها تجسد “التجرد من الإنسانية”، إن لم تكن إبادة جماعية. وردت المحكمة على ادعاء جنوب أفريقيا بضرورة الاستعجال، وهو شرط عتبة آخر في الاجتهاد القانوني، ربما ببيانها الأكثر خطورة: “في هذه الظروف، ترى المحكمة أن الوضع الإنساني الكارثي في قطاع غزة معرض لخطر أن يشهد المزيد من التدهور أكثر قبل أن تصدر المحكمة حكمها النهائي”.
إن أمر المحكمة، على الرغم من اعتداله الواضح، مؤلم ودامغ. فقد سمح للمحاكمة بالمضي قُدماً في ادعاء جنوب أفريقيا بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، ووضع “سيف ديموقليس” الفعلي ليس فقط على إسرائيل في مراقبة سلوكها المستقبلي في غزة، بل وأيضاً على أؤلئك الذين دعموا إسرائيل، مثل الولايات المتحدة. ووجدت المحكمة أن تأكيد جنوب أفريقيا على ضرورة حماية حقوق الفلسطينيين من أعمال الإبادة الجماعية أمر معقول. وحتى القاضي أهارون باراك، الذي عيّنته إسرائيل في المحكمة، انضم إلى الدعوات التي تطالب إسرائيل بمنع التحريض العلني والمباشر على الإبادة الجماعية، واتخاذ “تدابير فورية وفعَّالة” لضمان وصول المساعدات الإنسانية. وهذه نتائج خطيرة للغاية وتعكس القلق القانوني العالمي بشأن الوضع الإنساني في غزة.
تكمن قوة حكم المحكمة في الجهود الحثيثة التي يبذلها القُضاة لعزله عن لغة السياسة أو المناصرة وترسيخه كـ”سابقة قانونية”. كما أن القرار الجوهري بعدم السعي إلى ما لا تملك حقاً سلطة إنفاذه دون دعم مجلس الأمن الدولي ــ وقف الحرب الإسرائيلية ــ يعطي التدابير التي دعت إليها أهمية أكبر. الأوامر الصادرة عن المحكمة مُلزمة للطرفين، كما أشارت المحكمة، لكن ما تطالب به في الواقع هو أن تلتزم إسرائيل بالتزاماتها القائمة بموجب اتفاقية منع الإبادة الجماعية.
ما يجب أن تفعله واشنطن؟
في الأسابيع التي سبقت حكم المحكمة، انضمت الولايات المتحدة إلى إسرائيل في وصف قضية جنوب أفريقيا بأن لا أساس قانونياً لها. ويمكن للولايات المتحدة أن تقدم هذه الحجة في المحكمة، إذا قررت ذلك، كـ”متدخل” في القضية أثناء المضي قدماً، لكن إدارة بايدن تواجه الآن معضلة حادَّة لا يمكن حلها بتصريحات سطحية حول الحاجة إلى إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة (…). إن فشل الولايات المتحدة في دعم المعايير القانونية المعترف بها عالمياً من شأنه أن يقوّض بشكل خطير شرعيتها كـ”زعيم” للنظام العالمي القائم على القواعد والقوانين.
إن حكم المحكمة يمنح الولايات المتحدة وأوروبا أداة جديدة لمطالبة إسرائيل بتغيير نهجها في غزة. كما يتيح الحكم لإدارة بايدن فرصة؛ مدعومة بالقانون الدولي؛ لكي تسجل استياءها من الخطاب اللاإنساني الذي صدر عن أعضاء الحكومة اليمينية في إسرائيل (…).
وبالتالي، يتعين على الولايات المتحدة أن ترد على القرار الدولي بالاعتراف بالنقطة الأساسية المتمثلة في أن إسرائيل مُلزمة بمنع الأعمال التي يمكن وصفها بـأنها إبادة جماعية، دون الإضطرار إلى مشاركة وجهة نظر جنوب أفريقيا بأن الأعمال الإسرائيلية هي في الواقع إبادة جماعية؛ وهو رأي لم تؤيده محكمة العدل الدولية نفسها وقد لا تؤيده في نهاية المطاف. لكنها تحتاج إلى أن تتواجه مع حقيقة أن المحكمة، في حكم مدعوم بأغلبية ساحقة، أعربت عن قلق قانوني خطير إزاء الممارسات الإسرائيلية. وحتى في الوقت الذي تدعم فيه حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، تستطيع الولايات المتحدة أن تدعم أيضاً مطالب المحكمة باجبار إسرائيل على اتخاذ إجراءات ملموسة لمنع ومعاقبة كل من يرتكب العنف ضد المدنيين والتدمير الممنهج للبنية التحتية التي تجعل من غزة بيئة صالحة للعيش.
الولايات المتحدة ليست مجرد متفرج، سواء أمام الأعمال العسكرية التي تقوم بها إسرائيل أو أمام تطبيق القانون الدولي. في الواقع، استخدمت واشنطن قوة سلطة محكمة العدل الدولية في الماضي، وأطلقت استخدام المحكمة في العصر الحديث لتحقيق العدالة الدولية عندما رفعت دعوى أمام محكمة العدل الدولية ضد إيران عام 1979، مطالبة إياها بالإفراج عن الرهائن الأميركيين الذين أُحتجزوا داخل السفارة الأميركية في طهران. لقد منحت محكمة العدل واشنطن فرصة لإعادة تأكيد التزامها التاريخي، ويجب على إدارة بايدن أن تغتنم هذه الفرصة.
– ترجمة بتصرف، راجع النص الأصلي في “فورين أفيرز“.
(*) ديفيد كاي، أستاذ كلية الحقوق والقانون الدولي في جامعة كاليفورنيا في إيرفين.