قال ماكرون: “الأمور بسيطة بالنسبة إليّ، يتكوّن العالم من صنفين من المخلوقات، العاشبة (أكلة الأعشاب) واللاحمة (أكلة اللحوم). وإذا قرّرنا (أي أوروبا) أن نَبقى فقط بين أكلة الأعشاب، فسوف يفوز بنا أكلة اللحوم وسنكون فقط سوقاً لهم. أعتقد أنّه من الأفضل أنّ نكون مخلوقات من فئة أكلة اللحوم والأعشاب سويّةً. لا أريد أن أكون عدوانياً.. لكني لا أريد أن أترك أوروبا مسرحاً ضخماً يسكنه فقط آكلي الأعشاب بحيث سيقوم أكلة اللحوم بافتراسهم حسب أجنداتهم”!
قال ذلك بعد أن عرض ثلاثة تحديات تواجه أوروبا:
-الولايات المتحدة ستدير الجغرافيا السياسية العالمية؛
-الولايات المتحدة رافعة الابتكارات التقنيّة؛
-الصين، “زبونة أوروبا”، كما وصفها، هي التي تُدير نموذج التنمية العالمي؛
بعد ذلك، يذهب ماكرون لزيارة الأرجنتين ورئيسها خافيير ميلاي، اليمينيّ الفاشيّ الأكثر تطرّفاً في تاريخ البلاد والمناصر الصريح لترامب وللإبادة الجماعيّة الإسرائيليّة للفلسطينيين في غزّة، أي باعتباره صورةٍ نمطيّة لذئبٍ من أكلة اللحوم. وأعلن من الأرجنتين قبل حضوره قمّة العشرين أنّه لن يوقّع اتفاقية التجارة الحرّة بين أوروبا ودول أمريكا اللاتينيّة (Mercosur).
ما كان لتشبيه كهذا أن يصدُر عن رئيسٍ فرنسيّ كالجنرال ديغول أو فرانسوا ميتران، اللذين كانا يضعان فرنسا، برغم اختلاف نهجيهما، كقوّةٍ وازنة وسطيّة بين الأقطاب الكبرى المتناحرة، علماً أنّ كلاهما عملا بنشاطٍ كي تكون فرنسا، وأوروبا كذلك، قوّةً فاعلة على صعيد الجغرافيا السياسية والاقتصاد العالمي وكذلك التكنولوجيا. حيث لا يجب نسيان أنّه لم يكُن للنجاح الحالي لشركة “إيرباص” لصناعة الطائرات أن يتحقّق من دون الأساس الذي وضعه ديغول عبر دعم شركة “إيروسباسيال” القديمة (صانعة طائرات “الكارافيل” و”الكونكورد”) وعبر سعي ميتران من أجل توحيد جهود صناعة الطيران الأوروبيّة.
لكن من الواضح أنّ هذا التشبيه يعني خشيةً فرنسيّة وأوروبيّة من أنّ المرحلة القادمة التي يُنبئ بها نجاح ترامب الساحق في الانتخابات الأمريكية، وتعييناته التي بدأت تظهر ملامحها، بمن فيهم الصناعي والمبتكِر أيلون ماسك، تُنذِر بمرحلة “نهش الذئاب المفترسة للحملان، ولبعضها البعض”!. مرحلةٌ تزول معها المناداة بحريّة التجارة العالميّة وبنقل التكنولوجيا إلى دول العالم الثالث لمساعدتها على التنمية وبمجلس الأمن للأمم المتحدة كأساس لضبط الصراعات العالميّة.. وفي الوقت نفسه، تهميش مبادئ “حقوق الإنسان” و”العدالة الدوليّة”، لتحلّ مكانها في الخلفيّة أيديولوجيات من عصورٍ غابرة، دينيّة وغيرها، وكأنّ العالم البشري يستبِق نهاياته “الألفيّة”.
هذه الخشية لا تخصّ فرنسا وحدها، بل أيضاً ألمانيا التي سقط تحالف حكومتها، وتعيش اليوم أفق انتخابات جديدة قد ينجح بنتيجتها رئيس الحزب الديموقراطي المسيحي، فريدريش ميرتز، الذي يريد أن تنخرِط بلاده مباشرةً في الحرب الأوكرانيّة – الروسية.
يبدو أنّ أوّل من قرأ ذلك التوجّه الكبير نحو “عصر الذئاب المتوحّشة” هو فلاديمير بوتين، الذي حاول استباق التداعيات.. لكنّ قطيع الذئاب المنافسة بات أكثر شراسةً. فها هي الولايات المتحدة تستبِق استلام ترامب للحكم لتسمح لأوكرانيا بتصعيد وسائل الصراع إلى حد استخدام الصواريخ البعيدة المدى.
ماذا عن البلدان العربيّة؟ هل بقي بينها راعٍ هادئ يمكنه أن يحمي المنطقة من الذئاب الكبيرة المنفلتة؟ أم تحوّل بعضها إلى ذئابٍ صغيرة تشارك تلك الكبيرة في الافتراس؟ أم أنّ القويّ بينها جلس يتفرّج على المشهد ويفتخِر فقط أمام العالم بألوان فروته؟ في حين يستنجد الضعيف بين هذه البلدان العربية، في خضمّ هجوم الذئاب، ودون جدوى، بضرورة تحييده عن صراع الذئاب على الحملان وبين بعضها البعض
لحقه بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي تحجّج بأحداث 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023، كي يقفِز ويبرِزُ أنّه ينتمي إلى فصيل الذئاب الكبيرة ويحوّل معظم المجتمع الإسرائيلي إلى منطق قطيع الذئاب كي يفترس من دون رحمة غزّة والفلسطينيين والضفّة الغربيّة، بل ليُلحِق بهم لبنان واللبنانيين، وسوريا والسوريين. وليُبعِد عن الآفاق كلّ “حمامات وحمائم السلام” دون رادِع. لقد حشد نتنياهو حوله معظم الذئاب الكبيرة في العالم، وبخاصّةً “الذئب الأكبر”، أي الولايات المتحدة. وبات منذ سنةٍ وأكثر ينهش وينهش، دون أن يهتمّ حقّاً بما سيفعله بكلّ من يقتِله ويشرّده ويخرّب موطنه.
كذلك من الواضح أنّ “الذئب” الإيراني متفاجئٌ من قفزة نتنياهو المبالغة في توحّشها ومتردِّدٌ في ما سيفعله. فقد خرج المشهد من أيّة ضوابط. في حين أعلنت الذئاب الكبيرة أنّه يجب التخلّص منه وممّن يدور في فلكه. “الذئب” التركي ليس محاصراً بالطريقة ذاتها ولكنّه أيضاً متخوّف ومتردِّد من انفلات التوحّش. هذا برغم أنّه ذئبٌ متأصِّل!، إذ تحكي الأسطورة أنّ الأتراك هم أبناء الذئبة “أسينا” التي أنجبت مخلوقات نصف بشر ونصف ذئاب. وما زال بعض الأتراك المتطرّفين يُحيّون بعضهم البعض كما تُحيّي الذئاب بعضها. وما زال كثرٌ في تركيا يعطون لأتاتورك لقب “الذئب”.
وماذا عن البلدان العربيّة؟ هل بقي بينها راعٍ هادئ يمكنه أن يحمي المنطقة من الذئاب الكبيرة المنفلتة؟ أم تحوّل بعضها إلى ذئابٍ صغيرة تشارك تلك الكبيرة في الافتراس؟ أم أنّ القويّ بينها جلس يتفرّج على المشهد ويفتخِر فقط أمام العالم بألوان فروته؟ في حين يستنجد الضعيف بين هذه البلدان العربية، في خضمّ هجوم الذئاب، ودون جدوى، بضرورة تحييده عن صراع الذئاب على الحملان وبين بعضها البعض.
وبعيداً عن صورة الذئاب هذه، أين تقف مختلف البلدان العربيّة حقّاً أمام تحديات الجغرافيا السياسية والاقتصاد والتكنولوجيا التي وضعها الرئيس ماكرون؟
تختلف صورة الذئب في التراث العربي عن تلك التركية. لقد مدحت أشعار العرب الذئب بجرأته وذكائه وقدرته على تحمّل الجوع وإنفته وترفّعه. لكن أيضاً وصفت غدره وخبثه وعقوقه. فها هو الشاعر طُرفة بن العبد يُنشِد الآتي:
فتىً ليس بابن العم كالذئب إن رأى بصاحبه يوماً دماً فهو آكله
وهذا الشاعر الفرزدق يُخاطب أحد منتقديه شعراً ينسب لأبي الفتح البستي، قائلاً:
وكنت كذئب السوء لما رأى دماً بصاحبه يوماً أعان على الدم
لكن الشاعر عمر أبو ريشة يضع اللوم على الراعي:
لا يُلام الذئب في عدوانه إن يكُ الراعي عدوّ الغنمِ
ماذا بقي إذاً للبشر في “عصر الذئاب المتوحِشة”؟ محكمة جنائية دولية، لم تتعطّل كما هو حال مجلس الأمن والأمم المتحدة، بل بقيت من نظامٍ أقرّه يومأً البشر. وتجرّأت على إصدار مذكرة توقيف دوليّة تجاه ذئبٍ مفترس ورفاقه.. فهل ترتدّ الذئاب وتتعقَّل؟
وإلاّ لا يبقى لنا سوى مطربتنا الرمز فيروز تنشِد وتعلو بأناشيدها فوق كلّ عواء الذئاب في الأرض. لقد سرق الذئب نعجاتها ولكنّها انتصرت عليه وأحيَت للأبد بيروتها ولبنانها وقدسها وفلسطينها وشامها.