أميركا والعراق.. و”طوفان” المقاومة

أوقع الهجوم الناجح الذي استهدف فجر الأحد (28-1-2024) قاعدة عسكرية أميركية قرب الحدود السورية- الأردنية أكبر حصيلة خسائر معلن عنها بين الجنود الأميركيين في سوريا والعراق منذ فترة طويلة، وألقى عبئاً إضافياً ثقيلاً على الإدارة الأميركية التي درجت مؤخراً على مواصلة تأكيد حرصها على تقليص الخسائر السياسية والبشرية الناجمة عن تدخلاتها وسياساتها في المنطقة.

بحسب المصادر الأميركية، وقع الهجوم على قاعدة تقع داخل منطقة أردنية ملاصقة للحدود مع سوريا حيث يوجد معسكر التنف الأميركي الكبير، لكن الأردن الذي يتحسّس من تظهير الوجود العسكري الأميركي على أراضيه أكد أن الحدث تم خارج حدوده.

تأتي هذه الضربة، التي أعلنت “المقاومة الإسلامية في العراق” (تجمّع من فصائل عراقية عدة) مسؤوليتها عنها، في سياق العمليات التي تقوم بها تضامناً مع قطاع غزة في مواجهة العدوان الإسرائيلي، رافضةً دعوات لإيقاف هذه العمليات قبل وقف الحرب على غزة. كما رفضت إعطاء مهلة إضافية مفتوحة للمفاوضات المتعثرة التي طالت بين العراق والولايات المتحدة حول الوجود العسكري الأميركي في العراق. وصدرت على الأثر تهديدات أميركية بالرد على الهجوم، وطالت التلميحات الأميركية بالخصوص “كتائب حزب الله- العراق” التي تُعتبر فصيلاً ناشطاً.

ما بعد الضربة

من المتوقع أن تكون لهذا الحدث تبعاتٌ في الأيام المقبلة ضمن مسلسل الضربات المتبادلة بين القوات الأميركية المنتشرة في العراق وسوريا من جهة والمقاومة العراقية من جهة ثانية، في وقت تتكثف المواجهة بين البحرية الاميركية وأنصار الله على جبهة البحر الأحمر، على خلفية العدوان على غزة أيضاً.

وبرغم المخاوف التي سادت مؤخراً في واشنطن بأن الولايات المتحدة تعود الى الغرق تدريجياً في “صراعات الشرق الأوسط”، فإن مناخ الإنتخابات الرئاسية الأميركية المقررة في الخريف المقبل أنتج سريعاً حمّى من التصريحات الداعية للإنتقام. وفي التقديرات، سيتأثر موقف الإدارة الأميركية باعتبارات عدة، من بينها:

– انطلاق المفاوضات العسكرية بين الجانبين الأميركي والعراقي بشأن الوجود العسكري الأميركي في العراق. وفي هذا الصدد، سيكون على الجانب الأميركي التوفيق بين عدم اللجوء إلى استفزاز الشارع العراقي بضربات توقع خسائر كبيرة في أي رد على الهجوم الأخير، وبين استعادة قوة الردع التي تراجعت أخيراً. لكن المزايدات في الداخل الأميركي قد تدفع لتجاوز المحاذير، وصولاً الى محاولة تأكيد أن الإدارة الاميركية ستفاوض العراقيين من موقع قوة وليس من موقع ضعف لتحقيق أهداف وجودها العسكري في المنطقة.

– قد يكون في بال بعض القادة الأميركيين توجيه رسالة إلى “محور المقاومة”، وإلى إسرائيل وحلفاء الولايات المتحدة الآخرين كذلك، بأن واشنطن لن تهرب من المنطقة، وخاصة تحت النار؛ ولو أن تقارير صحفية أميركية (“فورين بوليسي“) أشارت يوم الأربعاء نقلاً عن مصادر في البيت الأبيض ووزارتي الدفاع والخارجية أن واشنطن ترى أن وجودها في سوريا “لم يعد ضرورياً”، مشيرة الى مناقشات مكثفة تدور حالياً لبحث توقيت وكيفية سحب القوات الأميركية من شمال سوريا.

– الحاجة الى إعادة الإعتبار لإدارة بايدن التي تواجه تحديات داخلية كبيرة على صعد عدة. فإضافة الى محاولتها استعادة ما خسرته من قاعدة الناخبين الساخطين على الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل في حربها على الفلسطينيين، فقد مرّت بقطوع في الأيام الأخيرة في العلاقة مع الولايات التي يحكمها الجمهوريون على خلفية أزمة الهجرة غير القانونية على حدود ولاية تكساس مع المكسيك. وقد تحدّى حاكم الولاية الجمهوري قراراً إستصدرته السلطات الفيدرالية من المحكمة العليا بإزالة الأسلاك الشائكة التي نصبتها سلطات الولاية لمنع الهجرة عبر الحدود. وحشد حكام جمهوريون من ولايات أخرى دعماً سياسياً وعسكرياً لسلطات تكساس، الأمر الذي دفع بايدن للتراجع، وهو ما ترك علامة أخرى على الوهن الذي أصاب سلطته في حين أنه يسعى الى ولاية رئاسية جديدة في تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. هذا في وقت يخيم ظل الرئيس السابق دونالد ترامب بحملة انتخابية قوية تجسّد المواجهة مع عهد بايدن وتستسقي مبادرات قوية في مواجهة إيران والصين والهجرة غير القانونية وتجدد الإلتزام تجاه إسرائيل.

تغيُّر الحسابات

إتسمت البيانات الصادرة عن الجانبين الأميركي والعراقي حول موضوع تشكيل لجنة عسكرية مشتركة لبدء الحوار بشأن مستقبل الوجود العسكري الأميركي على الأراضي العراقية، بتباين كبير.

وبينما قالت وزارة الخارجية العراقية إن الهدف من إطلاق اللجنة هو صياغة جدول زمني محدد وواضح يحدّد مدة وجود مستشاري التحالف الدولي في العراق ومباشرة الخفض التدريجي المدروس لمستشاريه على ارض العراق وإنهاء المهمة العسكرية للتحالف الدولي في العراق، وصولاً الى “علاقات ثنائية شاملة مع دول التحالف، سياسية واقتصادية وثقافية وأمنية وعسكرية تتسق مع رؤية الحكومة العراقية حيال اتفاقية الإطار الاستراتيجي التي تنظم العلاقات الشاملة بين العراق والولايات المتحدة الأميركية”، إعتبرت وزارة الدفاع الأميركية أن الغاية من اجتماعات اللجنة العسكرية العليا هي “بحث مستقبل العلاقات الأمنية” بين الجانبين وتحويلها إلى “علاقات أمنية ثنائية صامدة بين العراق والولايات المتحدة”، ونفت تعلّق الأمر بمفاوضات حول الإنسحاب من العراق، وهو مطلب بغداد الذي عبّر عنه بوضوح رئيس الوزراء محمد شياع السوداني عندما أكد أن الحاجة الى قوات التحالف الدولي قد انتفت في ظل جاهزية القوات العراقية.

نظرياً، مثّل الإعلان عن تشكيل اللجنة خروجاً من دائرة المراوحة بالنظر الى الجمود الطويل الذي حكم ملف الوجود العسكري الأميركي في العراق. وسبق أن أعلن البلدان في 26 تمّوز/يوليو 2021 أن “العلاقة الأمنية ستنتقل بالكامل إلى دور التدريب والإرشاد والمساعدة وتبادل المعلومات الاستخباراتية”، وأنه “لن تكون هناك قوات أميركية ذات دور قتالي في العراق بحلول 31 كانون الأوّل/ديسمبر 2021”. لكن هذا الأمر لم يتم، حيث استمر الوجود القتالي الأميركي على أرض العراق وفي سمائه، إذ توجد قوات عسكرية أميركية في عدد من القواعد العراقية أكبرها في قاعدة عين الأسد في محافظة الأنبار غرب البلاد، إضافة إلى قواعد في إقليم كردستان أبرزها قاعدة حرير في أربيل. ويوجد تواصل لوجستي بين القوات الأميركية في العراق وقوات أميركية أخرى تنتشر في شرقي سوريا لا سيما في محافظتي دير الزور والحسكة حيث تسيطر هذه القوات بمعيّة “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) على مرافق حيوية ولا سيما منشآت نفط وغاز تابعة للدولة السورية، كما أقامت مطارات عسكرية وبنية تحتية واسعة. وما يؤكد استمرار الصفة القتالية لهذه القوات قيامها بغارات على مواقع للقوات السورية والحليفة في البوكمال بمحافظة دير الزور، وكذلك مواقع للحشد الشعبي العراقي في الأراضي العراقية، في موازاة عمليات تنفذها المقاومة العراقية ومجموعات حليفة على جانبي الحدود.

والواضح أن عمليات المقاومة تمكنت من وضع مطلب انسحاب القوات الأميركية من العراق على طاولة البحث (أكثر من 160 عملية في سوريا والعراق منذ انطلاق “طوفان الأقصى” إستُخدمت فيها الطائرات المُسيّرة والصواريخ الثقيلة وأوقعت 70 إصابة بين الجنود الأميركيين بحسب الأرقام الصادرة من واشنطن)، بالرغم من نفي متحدث باسم الخارجية الاميركية صلة تشكيل اللجنة بهذه الهجمات.

ولم تكن واشنطن ترغب في التفاوض على انسحاب محتمل تحت الضغط، بحسب وكالة “رويترز” التي نقلت عن مصدرَيْن إن الحسابات تغيرت وسط إدراك بأن الهجمات لن تتوقف على الأرجح وأن الوضع الراهن يؤدي إلى تصعيد مضطرد.

إقرأ على موقع 180  جريمة فرنسا إرتكبها وعي إسلامي

وفضلاً عن الخلاف حول أهداف اللجنة العسكرية المشكَّلة والتأخر في إنجاز تغيير مهمة القوات الاميركية من القتال الى تقديم “الإستشارة”، يوجد خلاف بين القوى العراقية حول الإسراع في البتّ بهذا الملف؛ إذ ترغب القيادة الكردية على سبيل المثال في الإبقاء على هذه القوات كضمانة لها في تحقيق “توازن” داخلي في ظل خلافات لم تُحلّ بين الحكومة المركزية وإقليم كردستان الذي يتصرف باستقلالية عن بغداد في قضايا السياسة الخارجية والدفاع والنفط.

لماذا تتمسك واشنطن بالعراق؟

تستخدم الولايات المتحدة الأميركية وجودها العسكري في العراق لغايات إستراتيجية، من بينها:

– إستغلال موقع العراق الجغرافي الوسطيّ بين إيران وسوريا. وقد استهدفت القوات الأميركية بعض المنافذ التي تربط العراق بسوريا من أجل التضييق على الحكومة السورية وقطع الطريق على تواصل الجبهة بين أطراف محور المقاومة، بينما تتحرك القوات الأميركية بين البلدين بحريةٍ عبر منافذ أخرى.

– ضبط السياسة الخارجية العراقية وتوجيهها ناحية دول “محور الإعتدال العربي” كبديل من توثيق العلاقة مع الجمهورية الاسلامية الايرانية. وعملت الحكومة الاميركية بمختلف الطرق لوقف إمدادات الغاز الايرانية الى شبكة الكهرباء العراقية وقطع الطريق على الشركات الايرانية في العراق، في مقابل تشجيع السعودية والاردن ومصر على رفع مستوى علاقاتها السياسية والاقتصادية مع العراق، كما فرضت عقوبات على الجهات والمصارف العراقية التي تتعامل مالياً مع ايران وأخرى على شخصيات تُعتبر وثيقة الصلة بها. ولجأت واشنطن مراراً الى حجز عائدات النفط العراقية التي يتم تحويلها تلقائياً الى مصارف في نيويورك، بدعوى أنها تُستخدم جزئياً لرفد إيران بالدولار الاميركي، وكان لهذا الإجراء أثر سيء مباشر على قيمة العملة العراقية مقابل الدولار، لكن الأثر الأبعد تمثل في توجيه رسالة الى الحكومة والنخب السياسية العراقية بأن واشنطن قادرة من بعيد على هزّ الإقتصاد العراقي إذا سارت الأمور في العراق بخلاف ما تراه مناسباً.

وساهمت الأداة المالية في ضبط إيقاع السياسة الخارجية العراقية ولجم رغبة العراق في إنهاء الوجود العسكري الاميركي على أراضيه. وتمثلُ مسألة تحويل عائدات النفط العراقية الى مصارف اميركية قبل إعادة توجيهها الى بغداد نوعاً من الوصاية المالية، الأمر الذي تُبرّره واشنطن بأن هدفه حماية أموال العراق من مطالبة جهات خارجية بتعويضات عن الفترة السابقة! وتتحكم الإدارة الأميركية في كمية الأموال التي يُسمح بتحويلها إلى العراق، ما يعني أن الحكومة العراقية لا تتمتع بحرية الوصول الى أموالها الناتجة عن بيع نفطها.

– توجيه العلاقات الداخلية العراقية. وبينما تقول الإدارة الاميركية إنها تسعى لمنع عودة تنظيم “داعش” الى العراق، فإن عملياتها باتت تركز على استهداف قطعات الحشد الشعبي التي تقف في الخطوط الأمامية لصد تسلل عناصر التنظيم في القائم بصحراء الأنبار وفي جرف الصخر (“جرف النصر” وفق التسمية الجديدة) جنوب بغداد، واختفت الى حد كبير البيانات الاميركية التي تشير الى غارات تستهدف عناصر داعش التي عادت للإنتعاش على نطاق معين في قطاعات عدة من العراق وسوريا. وتحرص واشنطن على إعادة ربط القوى السياسية العراقية بتوجهاتها الإقليمية والدولية وضمان مصالح شركاتها التي تواجه منافسة قوية من الشركات الصينية، وتعمل دوماً لتعزيز دور إقليم كردستان على حساب الحكومة المركزية، وهو ما يضمن لها نوعاً من النفوذ على بغداد. وتلعب الدور نفسه في سوريا من خلال توثيق العلاقة مع قوات “قسد” لمجابهة الحكومة في دمشق.

في كل الأحوال، ومع إعلان فصائل المقاومة العراقية أنها تساند الحكومة في العمل لإنهاء الوجود العسكري الأجنبي على أرض العراق، فإن استمرار عملياتها الضاغطة في نسق واحد مع أنصار الله في اليمن والمقاومة الاسلامية في لبنان، من شأنه أن يلقي بظلاله على المفاوضات العسكرية العراقية – الأميركية، ويُعقّد مسارات الإشتباك الأميركي المتوسع على غير جبهة في المنطقة، في ظل مساندة أميركية سياسية وعسكرية لم تنقطع للعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني. وتطالب فصائل المقاومة بتحصيل ضمانات من الجانب الأميركي لإنهاء وجوده العسكري “الإحتلالي”، معربة عن الخشية من استخدام اللجنة العسكرية المشتركة لغرض المناورة مرة أخرى.

ما وراء إطلاق اللجنة المشتركة

يمكن قراءة إعلان تشكيل اللجنة العسكرية العليا الأميركية العراقية إنطلاقاً من الملاحظات الآتية:

– شُكلت اللجنة بعد تأخير طويل، وتم تصويرها على أنها إنجاز في ذاته بعد شهور من المفاوضات بدأت في آب/أغسطس الماضي. ولم يتم تحديد سقف زمني لنتائج عمل اللجنة، ما قد يجعل النتائج مرهونة بتطورات الأوضاع في العراق والإقليم وفق الرؤى المتباينة بين الجانبين.

– سبق أن اعتمد مجلس النواب العراقي في كانون الثاني/يناير 2020 قراراً يُلزم الحكومة بالعمل على إنهاء وجود القوات الأجنبية من البلاد، في أعقاب اغتيال طائرات أميركية قائد قوة القدس في الحرس الثوري قاسم سليماني ونائب رئيس هيئة الحشد الشعبي أبي مهدي المهندس، لكن الجانب الأميركي لم يتجاوب مع هذا الطلب، متذرعاً بعدم وجود توافق عراقي حول الأمر.

– يريد الجيش الأميركي الإستفادة من فترة المفاوضات غير المحدَّدة بسقف زمني لكسب هدنة مجانية (وقف عمليات المقاومة العراقية) من دون تقديم تنازل واضح بشأن الإنسحاب من العراق. يمكن إدراك ذلك من خلال ربط نجاح عمل اللجنة بوقف عمليات المقاومة، وبدا ذلك في ثنايا بيان الخارجية العراقية التي يشرف عليها المكوّن الكردي، والذي جاء فيه أن العراق وأميركا يعبّران عن “دعم أعمال اللجنة وتسهيل مهامها والامتناع عن كل ما يعرقل أو يؤخّر عملها”، مجدداً “التزام العراق بسلامة مستشاري التحالف الدولي في أثناء مدة التفاوض في كل أرجاء البلاد، والحفاظ على الاستقرار، ومنع التصعيد..”. بينما أكدت الولايات المتحدة أنها “ستحتفظ بحقها الكامل بالدفاع عن نفسها خلال المحادثات”. 

– لا يمكن النظر الى انطلاق عمل اللجنة بمعزل عن سياق الأحداث في المنطقة، وتحديداً في قطاع غزة. فالأميركيون يعملون على تفكيك جبهات المساندة لغزة، ليتسنى لإسرائيل إكمال حربها في بيئة اقليمية مُريحة لها ومساعدتها في الخروج بانتصار من مأزقها الإستراتيجي الحالي، حيث لم تتمكن من تحقيق أهدافها المعلنة، بينما تتعالى الأصوات في دول الغرب والعالم لإقامة دولة فلسطينية يرفضها الإحتلال الاسرائيلي. وإضافة الى محاولة تهدئة الجبهة العراقية، يعمل الأميركيون بمزيج من رسائل التهديد والديبلوماسية النشطة لتهدئة الجبهة اللبنانية عبر تحركات متتالية لمستشار الرئيس الأميركي لشؤون الطاقة آموس هوكشتين ومجموعة من المسؤولين الأوروبيين. كما تتولى البحرية الأميركية مشاغلة الجبهة اليمنية من أجل ترويضها ومنعها من فرض حظر بحري على السفن المتجهة إلى “إسرائيل” في ظل الحرب على غزة.

Print Friendly, PDF & Email
علي عبادي

صحافي وكاتب لبناني

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  مصر وعهد بايدن: تموضعات إقليمية مستقلة