هل أخطأ لبنان بالتراجع عن قرار القبول باختصاص “الجنائية الدولية”؟

تراجعت الحكومة اللبنانية عن قرارها السماح للمحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق في جرائم حرب بعد استشهاد المصور الصحافي عصام عبد الله وعدد آخر من المدنيين جراء القصف الاسرائيلي. فلبنان ليس عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، ويتعين عليه تقديم إقرار رسمي يمنح المحكمة السلطة القضائية لبدء تحقيقات في فترة زمنية معينة.

لكن النظرة إلى المحاكم الدولية تنطلق من خلال النظرة إلى القانون الدولي بصورة عامة. فهذا الأخير هو نتاج علاقات قوة وتعبير عنها، ويفتقر إلى آلية تنفيذ مركزية، الأمر الذي يُبقي تنفيذه في يد الدول التي تتعامل مع الموضوع بحسب مصالحها.

وترتبط الإحالة إلى المحاكم الدولية وتنفيذ أحكامها بمعظمها بالدول وبمجلس الأمن. وهذا المجلس طاله الكثير من النقد في إطار نقد النظام الدولي برمته بسبب الانحيازات المكشوفة لهذا النظام لمصالح الدول الغربية. وقد بُني هذا النظام إثر الحرب العالمية الثانية، وجرى تنظيمه في اجتماعات يالطا وموسكو وغيرها من اللقاءات التي جعلت الدول المنتصرة في الحرب هي التي تصوغه بما يناسب مصالحها ويؤمّن سيطرتها على دول العالم وعلى شعوبها ومقدراتها. ولئن استبعدت الدول التي انهزمت في تلك الحرب في البداية، إلا أنها التحقت فيما بعد بركب النظام العالمي وباتت جزءاً منه، كما هو حال ألمانيا واليابان.

المحكمة الجنائية الدولية (International Criminal Court) هي المحكمة الدولية الدائمة الأولى والوحيدة التي لها ولاية قضائية لمحاكمة الأفراد على جرائم الإبادة الجماعية الدولية، الجرائم ضد الإنسانية، جرائم الحرب، وجريمة العدوان. وتختلف المحكمة الجنائية الدولية عن محكمة العدل الدولية، حيث أن الأخيرة هي أحد أجهزة الأمم المتحدة التي تنظر في النزاعات بين الدول.

أنشئت المحكمة الجنائية الدولية عام 2002 بموجب نظام روما الأساسي المتعدد الأطراف. ويجوز للمدعي العام أن يفتح تحقيقاً في ثلاث حالات:

  • عندما تتم إحالة حالة ما من قبل دولة طرف؛
  • عندما تتم إحالة حالة ما من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، للعمل على معالجة تهديد للسلام والأمن الدوليين؛
  • عندما تأذن الدائرة التمهيدية للمدعي العام بفتح تحقيق على أساس المعلومات الواردة من مصادر أخرى، مثل الأفراد أو المنظمات غير الحكومية.

وللمحكمة اختصاص تلقائي فقط في الجرائم المرتكبة على أراضي دولة صادقت على المعاهدة، أو من قبل مواطن من هذه الدولة أو عندما يحيل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قضية إليها. وهو اختصاص مكمل للولايات القضائية الجنائية الوطنية، وهذا يعني أن الدول الأطراف، وهي دول ذات سيادة، ينعقد لها الاختصاص أولاً بنظر الجرائم الجنائية الدولية، فلا تحلّ المحكمة الجنائية الدولية محل القضاء الوطني في هذا الخصوص.

وهناك عدة شروط لكي تستطيع المحكمة ممارسة اختصاصها:

  • أن تكون الدولة طرفاً في النظام الأساسي للمحكمة.
  • أن تقبل الدولة التي وقعت في إقليمها الجريمة المفترضة، أو الدولة المسجلة فيها السفينة أو الطائرة إذا كانت الجريمة قد ارتكبت على متن سفينة أو طائرة.
  • أن تقبل الدولة التي يكون الشخص المتهم بالجريمة أحد رعاياها.

أما الدول غير الطرف في النظام الأساسي للمحكمة فيجوز لها أن تقبل ممارسة المحكمة اختصاصها فيما يتعلق بالجريمة قيد البحث، بموجب إعلان يودع لدى مسجّل المحكمة، وتقوم بالتعاون مع المحكمة دون أي تأخير أو استثناء وفقاً للباب التاسع من النظام. إن تعاون الدول غير الأطراف مع المحكمة الجنائية الدولية ينص عليه نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية على أنه ذو طبيعة طوعية (المادة 87/5/أ).

إن تعريض قادة المقاومة في لبنان وأعضاءها وحلفاءها لإمكانية التجريم أمام محكمة مشكوك في حياديتها، ومضغوط على قضاتها في أحسن تقدير، هو خيار يفتح الباب أمام تهديدات مستمرة بتجريمهم عند أي منعطف سياسي. تماماً كما يحصل بالنسبة لوصمة الإرهاب والعقوبات الاقتصادية التي تبقى سيفاً مصلتاً ليس لتجريم قادة الفساد والنهب، بل لإجبارهم على قرارات سياسية لا علاقة لها البتة بمصلحة لبنان وشعبه

حتى الآن، فتح المدعي العام تحقيقات في أربع عشرة حالة: أفغانستان؛ بوروندي؛ اثنان في جمهورية أفريقيا الوسطى؛ ساحل العاج، دارفور، السودان؛ جمهورية الكونغو الديمقراطية؛ جورجيا؛ كينيا؛ ليبيا؛ مالي؛ أوغندا؛ بنغلاديش/ميانمار، فلسطين وفنزويلا. بالإضافة إلى ذلك، يُجري مكتب المدعي العام تحقيقات أولية في ست حالات: كولومبيا؛ غينيا؛ نيجيريا؛ الفلبينيين؛ أوكرانيا وبوليفيا.

من بين الذين وجهت إليهم اتهامات، زعيم المتمردين الأوغندي جوزيف كوني، الرئيس السوداني السابق عمر البشير، الرئيس الكيني أوهورو كينياتا، رئيس الدولة الليبية معمر القذافي، رئيس ساحل العاج لوران غباغبو، نائب الرئيس السابق جان – بيير بيمبا (جمهورية الكونغو الديمقراطية). وهنا يبدأ التساؤل حول مصادفة ألا تُوجّه الاتهامات إلا لأفراد وقادة إفريقيين بالإضافة طبعاً، لما حصل حديثاً، في 17 مارس/آذار 2023، حين أصدر قضاة المحكمة الجنائية الدولية أوامر اعتقال بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومسؤولين روس آخرين.

هذا الأمر دفع بعض الدول لاتهام المحكمة بالتحيّز وإعلان الانسحاب من نظام روما الأساسي، مثل بوروندي وجنوب أفريقيا وغامبيا. لكن فيما بعد، ألغت غامبيا وجنوب إفريقيا إخطار الانسحاب. وقد انتقدت وزيرة خارجية جنوب أفريقيا، ناليدي باندور، المحكمة الجنائية الدولية لعدم اتباعها ما أسمته “التعامل المتوازن” مع جميع القادة المسؤولين عن انتهاكات القانون الدولي. جنوب أفريقيا، التي لم تلتزم باعتقال الرئيس السوداني الزائر عمر البشير في يونيو/حزيران 2015، دعت فلاديمير بوتين لحضور قمة البريكس الـ15 في ديربان، لكنه لم يحضر.

إقرأ على موقع 180  الحروب الدينية: بين الولي والحاخام.. معارك تشتعل وكنائسُ تَضيع وجنة مفقودة

بالمقابل، في الولايات المتحدة الأميركية، وقّع الرئيس جورج دبليو بوش على قانون حماية أفراد الخدمة الأمريكية American Service-Members’ Protection Act رفضاً لأي اختصاص مستقبلي محتمل للمحكمة أو هيئاتها القضائية. يمنح القانون الرئيس سلطة استخدام “جميع الوسائل الضرورية والمناسبة للإفراج عن أي فرد من أفراد الولايات المتحدة أو الحلفاء المحتجزين أو المسجونين من قبل المحكمة الجنائية الدولية أو نيابة عنها أو بناءً على طلبها”. وقد كانت إدارة دونالد ترامب اللاحقة أكثر عداءً للمحكمة. ففي 11 يونيو/حزيران 2020، فرضت عقوبات على المسؤولين والموظفين، وكذلك عائلاتهم، المشاركين في التحقيق في الجرائم المزعومة ضد الإنسانية التي ارتكبتها القوات المسلحة الأميركية في أفغانستان. وبخاصة، على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية فاتو بنسودا Fatou Bensouda، ورئيس قسم الاختصاص والتكامل والتعاون في المحكمة الجنائية الدولية، فاكيسو موتشوتشوك Phakiso Mochochok، للتحقيق في جرائم حرب مزعومة ارتكبتها القوات الأميركية ووكالة المخابرات المركزية (CIA) في أفغانستان منذ عام 2003.

كريم خان، المدعي العام الحالي لدى المحكمة الجنائية الدولية، طلب في 20 مايو/أيار الماضي من قضاة المحكمة الجنائية الدولية، إصدار مذكرات توقيف بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت، إضافة إلى رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس” إسماعيل هنية، ورئيس الحركة في قطاع غزة يحيى السنوار، وقائد “كتائب القسام” (الجناح العسكري للحركة) محمد ضيف، بتهمة ارتكاب “جرائم حرب” و”جرائم ضد الإنسانية”. أعلن إثر ذلك عن تعرضه للتهديد من قبل بعض الساسة وبينهم زعيم منتخب في دولة كبرى ممن أكدوا له أن “المحكمة بنيت من أجل إفريقيا ومن أجل السفّاحين أمثال بوتين”، متهمين إياه بتجاوز اختصاصاته. رئيس مجلس النواب الأميركي لم يتورّع عن تهديده علناً بأن يردّه إلى بلده وبأن هذه المحكمة لا اختصاص لها.

لقد علّق خان على هذه التهديدات بقوله: “هل الدول القوية صادقة في قولها إن هناك هيئة قانونية؟ أم أن هذا النظام القائم على القواعد هو عبارة عن هراء وأداة للناتو (حلف شمال الأطلسي)، وهو عالم ما بعد الحقبة الاستعمارية، من دون أي نوايا لتطبيق القانون بشكل متساوٍ”؟.

كل هذه الشواهد تدلّ على أن لا غرابة في التشكيك في حيادية المحكمة وجدواها، طالما أن النظام العالمي محكوم من أقطاب النظام العالمي، إن لم نقل القطب الأقوى، الولايات المتحدة الأميركية، الحليف الأقرب لإسرائيل. فكيف يُؤمن جانب محكمة دولية، يُهدّد قضاتها، حتى في حياتهم الشخصية، كما حصل مع بنسودا المدّعية العامة السابقة للمحكمة؟

لم يجرؤ كريم خان على طلب اعتقال قادة إسرائيليين دون طلب مقابل باعتقال عدد أكبر من قادة حركة حماس، حتى اسماعيل هنية الذي لم يكن على علم بعملية السابع من أكتوبر/تشرين الأول والذي هو مسؤول سياسي لا علاقة له مباشرة بالعمليات العسكرية.

إن اتهام قادة المقاومة في فلسطين بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، هو نفي للحق في مقاومة المحتل المكفول بموجب المادة 55 من ميثاق الأمم المتحدة والمادة الأولى من كل من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والذي يبيحه عدد كبير من قرارات الأمم المتحدة الصادرة عن الجمعية العامة، وعن مجلس الأمن. ولو افترضنا أن المقاومة الفلسطينية ارتكبت جرائم تصنف ضمن الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، لكن أين هي من فظاعة الجرائم التي ترتكب منذ ما يزيد على الثمانية أشهر من قبل الصهاينة أمام أعين العالم أجمع؟ ومع هذا جنّ جنون القادة الأميركيين وحلفائهم لمجرّد التلويح بمقاضاة قادة إسرائيل. بالمقابل، وحين وصل عدد شهداء غزة إلى ما يقارب حدود 30 ألف شهيد، لم يخجل الناطق باسم البيت الأبيض من القول إنه لم يثبت لديهم حتى ذلك الوقت أن اسرائيل تستهدف المدنيين، وغير ذلك من عشرات الشواهد على الانحياز الأعمى للعدوان الصهيوني.

إن تعريض قادة المقاومة في لبنان وأعضاءها وحلفاءها لإمكانية التجريم أمام محكمة مشكوك في حياديتها، ومضغوط على قضاتها في أحسن تقدير، هو خيار يفتح الباب أمام تهديدات مستمرة بتجريمهم عند أي منعطف سياسي. تماماً كما يحصل بالنسبة لوصمة الإرهاب والعقوبات الاقتصادية التي تبقى سيفاً مصلتاً ليس لتجريم قادة الفساد والنهب، بل لإجبارهم على قرارات سياسية لا علاقة لها البتة بمصلحة لبنان وشعبه، بل بالمصالح الدولية الاستعمارية، وبحماية إسرائيل ومصالحها.

Print Friendly, PDF & Email
هالة أبو حمدان

أستاذة القانون العام في الجامعة اللبنانية

Download Nulled WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  التاريخ في خدمة الأيديولوجيا.. ابن عساكر الدمشقي نموذجاً