حصار سياسي واقتصادي وحياة بقيود قاسية ومصير مفتوح على أفق مجهول. كل السنين الماضية كانت على هذا المنوال ويراد لها أن تستمر على نحو أشدّ في سبيل تثبيت مشاريع الهيمنة والسرقة. في العدوان على غزة الذي يقترب من نهاية شهره الخامس، ثمة من يُواجه التوحش والبربرية برسالة مفادها: “لا يوجد إنسان ضعيف، بل يوجد إنسان يجهل موطن قوته”، وها هي المقاومة في غزة والضفة ولبنان تكشف عن مواطن قوتها باقتدار وبسالة وتفرض على العدو المعادلات، الذي على الرغم من إمكاناته المادية الهائلة لا يستطيع أن ينتصر في حرب الإرادات وإن كان قادراً على ارتكاب الفظائع وما أكثرها عندما نصل إلى رقم الثلاثين ألف شهيد وضعفهم من الجرحى، ناهيك بآلاف المفقودين.
الحرب تجربة قاسية من الناحية الإنسانية. وعندما تخوضها الأمم يكون في بالها أنّها لا تشبه حادثاً عارضاً. صحيح أنّ مشاهد النار والدمار والدماء والأشلاء والناس التي تركض في كل الاتجاهات ولا تجد مسلكاً للخروج من جحيم الأدخنة السوداء، تعكس الفارق الحاد بين “التصور” الذي يتحرك في فضاء الأفكار، و”الصورة” التي تكشف هول الواقع. ولكنّ الأمم التي تؤمن بأنّ “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، الأمم التي تواجه الظلم والعدوان، تمشي بقدميها ووعيها إلى منطقة المخاطر، ويكون شاغلها أن تبحث لنفسها عن الحرية والكرامة والسلام بين رائحة البارود وصراخ الأطفال والنساء.
تجذب الحرب أسئلة المعاناة والخسائر. الأسئلة هذه ليست نافلة بالقدر الذي تبدو به عند البعض، كما لا يستطيع أحد أن يتورع عن ذكر نتائجها، إلا أنّ التأمل في صورها لا يجب أن يتغلب على إرادة المقاومة والصمود عند الشعوب التي تتعرض للعدوان من قوى غاشمة.
صحيح، أنّ الحرب مهمة هائلة ورهان خطير، والطريق إليها مرسوم بصرامة شديدة، خصوصاً إذا كان العدو يمتلك آلة إجرام كبيرة ولديه عقيدة سحق الطرف المقابل سحقاً تاماً فلا يستثني من بطشه حجراً ولا بشراً، كما هو العدو الصهيوني، ولكن هذا لا يبيح أن ينحاز المرء إلى الأجساد والنفوس المهانة.
كل الشعوب التي حصلت على حريتها واستقلالها لم تستطع أن تتجنب الأخطار والأهوال ولكنها استطاعت التفريق جيداً بين حد الجبن وحد التهور بالشجاعة. الشجاعة التي افتقرت إليها الأنظمة العربية، حتى جاءت حركات المقاومة فصارت المواجهة عملية منهجية مستندة إلى العلم والحكمة ومراكمة الموارد والطاقات بأحسن استخدام وصولاً إلى نقطة الإنتصار
في الجزء الأول من كتابه “العروش والجيوش”، يذكر الكاتب العربي محمد حسنين هيكل فحوى لقاء حصل بين ملك الأردن عبدالله (جد الملك الحالي) ورئيس الحكومة اللبنانية رياض الصلح في أواخر عام ١٩٤٨. يقول عبدالله للصلح: “لا تغامروا بجيوشكم في فلسطين لأنّ اليهودي أقوى”. ثم يستطرد الملك قائلاً: “لو أنني خرجت إلى قطيع من الماعز وسألت أول كبش فيه “هل يحارب أو لا يحارب في فلسطين” فإنّ أول سؤال سوف يسأله لي هو: “كم حجم قواتك؟ وكم حجم قوات الخصم.. لكن بعض الساسة العرب لا يظهرون حكمة كبش الماعز، وإنما يتسابق الكل وفيهم المتعلمون وفيهم الأساتذة والدكاترة منادين ومندفعين إلى الحرب. وحين أقول لهم حاذروا فإنهم يردون عليّ بمحاضرات عن الوطنية وعن الواجب المقدس”!
هذا المنطق، وبسبب الخسائر الكبيرة المتوقعة والمعاناة الأليمة التي يقع بها شعب ما، يدفع إلى القبول بواقع الاحتلال ورفض أي شكل من أشكال المقاومة العسكرية. لذا، يجعل تفوّق العدو بمجموع قدراته المادية والعقائدية أصحاب هذا المنطق لرفض أي عملية دفاع تمضي من دون فوائد إيجابية بل ستُعتبر تبجحاً ومبرراً للعدو لزيادة منسوب الانتقام والقتل والتدمير.
لقد لفت إنتباهي ما كتبه رجل الأعمال الأردني حسن إسميك على صفحته عبر منصة (X) وفيه يسأل كيف يمكن للبعض أن يُسمّي ما يجري في غزة، مع كل الضحايا وكل الدمار، انتصاراً؟ ما مفهوم هؤلاء للنصر؟
على أساس هذا الفهم أيضاً، فإنّ أي عمل عنفي يجب أن يُقاس بحساب المعاناة، مع ملاحظة أنّ بعض الناس في الحرب، ميّالون إلى المبالغة في تضخيمها هرباً من التعب وما اعتادوا عليه من دعة وراحة وترف وتسلية. بالنسبة إلى هؤلاء الحياة مرتبطة بالتنفس لا بالكرامة. حياة الجسم مُقدَّمة على حياة الروح. المعادلة التي تناسبهم وتناسب العدو كالتالي: “الضعيف ينسى الكرامة والقوي يتناسى شن الحرب. الضعيف يُبدي رغبة بالرضوخ، والقوي يُظهر تساهلاً في استخدام العنف”.
غير أن اختزال الحياة بمتطلبات الجسد هو تخدير لإنسانية الإنسان. إطفاء الكرامة والحرية يعني نهاية الهوية الإنسانية. ومثلما يحتاج الإنسان إلى ماء يحتاج إلى كرامة وحرية. والتهديد مهما بلغ مداه لا يمكن أن يكون أقوى من فطرة منغرسة في أصل الوجود الإنساني. التهديد والقتل والتدمير له نهاية، ولكن الإحساس بالحرية والكرامة شعور لا يمكن أن يتبدد أبداً.
التضحيات لا تحمي الأرض والثروات والأعراض فحسب بل تحمي الإنسان من موته. وقد لخّص الإمام علي (ع) هذه المعادلة بقوله: “.. فالموت في حياتكم مقهورين والحياة في موتكم قاهرين”. التضحيات مهما كانت جسيمة ولكنها ترفع من مستويات الحياة المادية والمعنوية وهي التي تجعل إمكانية البناء تسير بشكل أفضل. وإذا كان العدو الذي لا شرعية لوجوده وأعماله يقول على لسان قادته: “العالم لا يحترم المذبوحين بل يحترم المحاربين”. فهذا يعني أن مَن يقبل الرضوخ فرداً كان أم شعباً لا يستحق الاحترام.
إنّ بعض العرب من أصحاب “مدرسة الواقعية” أو “مدرسة التسوية” يتصوّرون أن الاستسلام هو الحل، والحقيقة إنّ الاستسلام ليس حلاً إلا وفق المنطق الإسرائيلي. القّلة والضآلة لا تبرر التراجع والتخلي عن المبادئ. يستطيع المدافع، كحالة المقاومة الفلسطينية واللبنانية، أن يُحقق التوازن والردع من دون أن تكون القوى متساوية والقدرات المادية متماثلة. المُدافع دائماً يملك وسائل دفاع تُعوّض النقص في الموارد والإمكانات. ولطالما كانت المقاومتان اللبنانية والفلسطينية تستفيدان من الميزات التي تمتلكانها (التدريب الجيد، الشجاعة، الكفاءة القتالية، القيادة الماهرة، الشعب الذي لا يخشى العدو ولا يهاب تهديداته.. إلخ) لحسم بعض الجولات القتالية لصالحهما.
إذاً، ليس صحيحاً أنّ القوى المدافعة كالعبد المملوك “لا يقدر على شيء”، بل تقدر على كثير من الأشياء التي تُفشل مخططات العدو بل تعقّد عليه وجوده وأمنه واقتصاده (تُقدّر بعض الدراسات الإسرائيلية أنّ خسائر القطاع الاقتصادي الإسرائيلي جرّاء العدوان على غزة فاق الستين مليار دولار أمريكي).
إنّ كلّ جهد يُبذل في الطريق إلى استعادة الحقوق له قيمة حيوية كبيرة ويزيد من توفير الشروط الحاسمة للفوز والانتصار على العدو في فترة لاحقة. مثلاً إنّ الدولة التي تضع إيمانها وكل إمكاناتها وقواها المادية وأموالها تحت تصرف الجيش الوطني ستفرض على العدو أن يفكر كثيراً قبل أي مغامرة عدوانية، والشعب الذي يتوحد ويتضامن لصد هجمات العدو سيغيّر مجرى الأحداث لصالحه، كما أنّ علينا أن نعترف أنّ الحلفاء يشكلون سنداً قوياً للمدافع.
الأمر الآخر الذي تجدر الإشارة إليه هو أنّ ما يفترضه البعض من أنّ الدفاع والمقاومة أمام عدو قوي همجي، مجرد صمود سلبي وصبر بحت، ليس صحيحاً أيضاً. الدفاع والمقاومة مرتبطان بأغراض واضحة لا تقبل الإنكار. إنجازات الشعوب السالفة ليست تصاوير خرافية، والثبات والشجاعة ليسا سباحة عكس التيار، بل تحرير مرئي وانتصار حقيقي. قتال العدو قرار منهجي واعٍ تقوم به الشعوب مراهنة على الجانب الزمني بالرغم من بلادته ووتيرته البطيئة أول الأمر. الشعوب عندما تواجه المحتل لا تكون بلا عقل وبلا روح. الدفاع هو المبدأ الذي تتوخاه الأمم لتكشف عن موارد قوتها الداخلية. وحتى لو لم تمتلك الأمم الموارد الكافية للانتصار على العدو في بداية الأمر، لكنّها بهذا النشاط ستبدأ تدريجياً العمل لإحداث ضعف في إرادة العدو وجبهته النفسية والمادية بما يتيح في وقت آخر التكافؤ معه أو التفوق عليه. على أنّ الشعوب عندما تدافع عن هوياتها الترابية والسياسية لا يكون عملها مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بلحظة معينة وإنما بالوجود والهوية.
ولو أخذنا النموذج اللبناني ربطاً بـ”طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر، لاحظنا كيف اشتعلت جبهة الجنوب اللبناني الأمر الذي زاد مخاطر اندلاع حرب إقليمية واسعة. وكانت الولايات المتحدة الأمريكية هي الأصرح في رسم صورة الخطر، وجاء موفدوها إلى بيروت للضغط على حزب الله لوقف ضرباته العسكرية بعدما شكل استنزافه للعدو إحباطاً لمخططاته في غزة.
وعلى نحو عاجل، بدأت حملة إعلامية واسعة تحت عنوان “لبنان لا يريد الحرب”، ربطاً بالأعباء والخسائر المادية والبشرية، أي العودة إلى الفكرة التي يريد ترسيخها العدو في وعي الجمهور اللبناني وهي أنّ مواجهة القوي (إسرائيل) سيُحتم تدمير الضعيف (لبنان) وشل إرادته على الوقوف مجدداً. وهذا يعني أنّ مناصرة الغزاويين ستتسبب بإرجاع لبنان إلى “العصر الحجري”. فالحملة وعناوينها التي تشتمل على عبارات مثل: “كي لا يعود الظلام” و”كي لا يعود الدمار” وحتى “لا يتكرر الماضي” هدفها خلق ترابط وثيق بين الحرب والأضرار التي ستلحق بلبنان والثمن الذي سيدفعه من جرّاء هذه التدخّليّة.
وتتغذى هذه الحملة الإعلامية والسياسية من واقع الأزمة السياسية والإقتصادية والمالية المُشرّعة منذ سنوات، وفي الوقت نفسه، تُغذي عند اللبنانيين المخاوف من مفاقمة أزماتهم التي يعيشونها وتلعب على وتر الكارثة القادمة. إنها حيلة وخدعة متقنة يستخدمها العدو لإضعاف الخصم وإلزامه على تبني سياسة “الحمل الوديع”!
في التجربة التاريخية تتعلم الشعوب أنّ التضحيات نقطة انطلاق، وأنّ هناك الكثير من الخسائر والضحايا قبل الحصول على انتصار حاسم. كل الشعوب التي حصلت على حريتها واستقلالها لم تستطع أن تتجنب الأخطار والأهوال ولكنها استطاعت التفريق جيداً بين حد الجبن وحد التهور بالشجاعة. الشجاعة التي افتقرت إليها الأنظمة العربية، حتى جاءت حركات المقاومة فصارت المواجهة عملية منهجية مستندة إلى العلم والحكمة ومراكمة الموارد والطاقات بأحسن استخدام وصولاً إلى نقطة الذروة، نقطة الانتصار التي لا شك أنها قادمة!