أمريكا مُثقّلة بـ”الديون الزيلنسكية”.. على حساب من؟

"الشعرة التي قصمت ظهر البعير" هو مثلٌ قديمٌ لا يُؤخذ بحرفيّته، بل برمزّيته. يبدو أنّ أمريكا تقترب أكثر فأكثر من تلك اللحظة ـ القشة مع كل زيادة في حجم الدين العام الذي سيكون له أثره الكارثي عليها.

مع إقرار الولايات المتّحدة سلة جديدة من المساعدات الماليّة والعسكريّة إلى أوكرانيا (61 مليار دولار) وإسرائيل (26 مليار دولار)، علينا أن نسأل هل أن أمريكا الغارقة حالياً في الدَين، قادرةٌ على منح هكذا مبالغ من دون أن يكون لذلك أثره السلبي على اقتصادها؟ وهل أنّ هذه السياسة التي يتبعها الرئيس جو بايدن (على خطى رؤساء كثيرين من قبله) ستجلب الويلات، حتماً، لأمريكا، في الداخل والخارج؟

ما أنفقته أمريكا في حروبها الماضية (وهي لا تُحصى ولا تُعدّ) والحاليّة (تحديداً وليس حصراً ضدّ روسيا وشعب فلسطين)، وما ستنفقه في حروبها المستقبليّة (ضدّ الصين، ولا ندري من يُصبح خطراً استراتيجياً على “أمنها القومي” فجأة) هي مبالغ شبه خيالية، بمعنى أنّه من الصعب تصديق أنّها حقيقية، خصوصاً إذا أضفنا الكلفة الكاملة والفعليّة لهذه الحروب. مثلاً، كلفة حرب أفغانستان (2001-2021) بلغت 2 تريليون دولار، معظمها لمّ يُصرّح عنه مباشرةً لأنّه كان جزءاً من ميزانيّة وزارة الدفاع الأمريكيّة. ولم تنته كلفة حرب أفغانستان ولا حرب العراق إلى يومنا هذا لأنّ الجيش الأمريكي ما زال يتكبّد تكاليف معالجة عشرات آلاف الجنود الذين يعانون من إصابات وإعاقات جسديّة أو نفسيّة نتيجة تلك الحروب.

والأمر نفسه يحصل الآن مع تمويل حرب أوكرانيا ضد روسيا وحرب إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني، ذلك أن المبالغ المُصرّح عنها جزءٌ بسيطٌ جدّاً من التكلفة الحقيقيّة، كون الجيش الأمريكي وأجهزة أخرى في الدولة الأمريكيّة تموّل ذلك من ميزانيّتها، ومن دون علم الشعب الأمريكي.

ويقترب حجم الدين في أمريكا من حدود الـ35 ترليون دولار، وهو رقم من المستحيل هضمه لأنّه غير قابل للترجمة في عالم الواقع المحسوس. زدْ على ذلك أنّ هذا الدين هو دليلٌ على حجم الفساد في النظام المصرفي العالمي المرتَهَن لأمريكا، والذي يُساعدها في الهروب والتهرّب من تبعات سياستها النقديّة والمالية المتهوّرة.

ليس صحيحاً أنّ التاريخ يُعيد نفسه. لكن كثيراً ما تتشابه سياقات الأحداث، كما نهاياتها. ففي الماضي، اعتقدت فرنسا أنّ هزيمة بريطانيا في أمريكا تتقدم على معالجة مشاكلها الداخلية الضخمة. فكانت النتيجة أنّ هزيمة بريطانيا جعلت الأخيرة مندفعة سعياً إلى تحصين وتقوية نفوذها في باقي أرجاء المعمورة. وفي المقابل، هوت الملكيّة في فرنسا ونُهبت قصور الإقطاعيّين

برغم ذلك، نحن نقترب من لحظة اللا-عودة، وذلك لأسباب عديدة:

أولاً؛ على أمريكا أن تصرف مبالغ طائلة تحصيناً لإقتصادها ضدّ الصين وأوروبا ولضمان استمرار هيمنتها على العالم. كامل ميادين الصناعة الأمريكية هي في مأزق عميق لأنّه ليس بمقدورها أن تستمرّ من دون العطاءات والقروض التي تؤمّنها الدولة، خصوصاً المشاريع المتعلّقة بالتكنولوجيا الحديثة (تحديداً الشرائح الـ microchip المتطوّرة). وهذه المشاريع لن تُغني خزانة الدولة، بل سيذهب معظمها إمّا هدراً أم ينتهي في جيوب أصحاب الثروات الطائلة الذين باتوا أكثر قلقاً من أي وقت مضى على مستقبل ثرواتهم في ظلّ الدين المتعاظم لأمريكا وخطورته على عملتها وإقتصادها.

ثانياً؛ ثمة عجز ضخم في نظامي التقاعد الصحّي (Medicare) والمالي (Social Security)، إلى درجة أنهما لم يعودا قادرين على تغطية التكاليف الإستشفائيّة والماليّة للمتقاعدين، ويتكبّدا عجزاً سنويّاً هائلاً.. والسائد حالياً أنّه بحلول سنة 2033، ستصبح الدولة الأمريكيّة عاجزة عن دفع معاشات التقاعد كاملةً، وستضّطر إلى تقليلها إلى 75% من قيمتها، وسيُشكلّ ذلك ضربة موجعة لعدد ضخم من المتقاعدين الذين يعتمدون بشكل كلّي أو أساسي على معاش التقاعد وعلى الإستشفاء التقاعدي. وما يزيد الطين بلة ما يشهده الأميركيون من إنهيار كبير في نظام العناية الصحيّة، وانتشار الفقر (1 من كلّ 8 أمريكيّين مصنّف في خانة الفقر)، والجوع (1 من كل 9 أمريكيّين مصنّف كجائع).

ثالثاً؛ إنهيار النظام التعليمي بحيث أصبح الكثير من الأهل مجبرين على إرسال أطفالهم إلى مدارس خاصّة كلفتها عالية، بدل المدارس العامّة التي لا تكلّف أي شيء.. حتّى التعليم الجامعي أصبح صعب المنال على أكثريّة الشعب الأمريكي، لأنّ التكلفة الفعليّة لتعليم تلميذ في الجامعة باتت تتخطّى الـ 100 ألف دولار سنوياً (وليس هناك من جامعة بعد تتجرّأ أن تُطالب بهذا المبلغ كقسط وتضطرّ لتغطية الفارق من ميزانيّتها، لمعرفتها أنّ ذلك سيكون له أثره السلبي على المجتمع الأمريكي عموماً والتعليم العالي خصوصاً).

رابعاً؛ الموضوع الأخطر ليس الحروب ولا الشرائح الإلكترونيّة أو نظام التقاعد أو الرعاية الصحية أو الأقساط المدرسيّة أو الجامعية، بل هو الإنهيار الكبير في البنية التحتيّة: شبكات أنابيب المياه والغاز للبيوت، شبكة الكهرباء، الطرقات والأوتوسترادات، الجسور والأنفاق، مباني المدراس والمستشفيات والمؤسسات الحكومية، الكثير من القواعد العسكريّة، حتّى شبكة الإنترنت والخليوي، إلخ.. كلّ هذه البنية التحتيّة وصيانتها تحتاج إلى تريليونات الدولارات من أجل إصلاحها وإعادة تأهيلها. وأمريكا ليست قادرة على ذلك، ليس فقط لأنّها لا تملك المال، بل أيضاً لأنّها لا تجد من هو مستعدّ لإقراضها. المرجح أن عدم قدرة أمريكا على إصلاح هذه البنى التحتية الحيويّة سيكون له أثره الكارثي على مستقبل الولايات المتّحدة، ونحن لا نتكلّم على المدى البعيد جدّاً، بل على المدى المنظور والمتوسط.

إقرأ على موقع 180  غالب بن الشيخ لـ 180: الثأر للنبي محمد ليس بالقتل والذبح

هنا ينبري السؤال البديهي: هل كان من الأصلح لأمريكا أن تستخدم هذه الأموال لإصلاح قطاعات حيويّة تؤمّن من خلالها مستقبلاً أفضل للأمريكيّين وتنأى بنفسها عن مشاكل دينها أم أن جيش فولوديمير زيلينسكي يستحق هذا وأكثر؟

التاريخ الذي لا يرحم، والذي يسخر من الذين لا يتعلّمون منه، يُعطينا بعض الأمثلة على مستقبل أمريكا في ظل دينها المتعاظم.

كانت فرنسا من أكبر المتحمّسين لاندلاع ثورة في أمريكا ضدّ الحكم البريطاني، بين سنوات 1775 و1783 (والتي تُعرف أيضاً بـ”حرب الإستقلال”). إعتقدت فرنسا في ذلك الوقت أنّ هزيمة بريطانيا ستؤدّي إلى انهيارها، فقامت بإرسال المساعدات مع إعلان الثورة الأمريكيّة. وتحت ستار “أعمال تجاريّة” لشركات وهميّة، أرسلت فرنسا إلى الثوّار الأمريكيّين أموالاً (بعضها مساعدات وبعضها الآخر قروض) وسلاحاً وتجهيزات على أنواعها. ولدينا بعض الأمثلة عن ذلك. ففي أوائل سنة 1776، أرسلت فرنسا 300 ألف رطل (تقريباً 136 ألف كلغ.) من البارود، 30 ألف بندقيّة، 3 آلاف خيمة، أكثر من 200 مدفع، وبزّات كاملة لـ 30،000 جندي. وهذا يوازي تجهيز جيش بكامل عديده وعدته.

وقد بلغ حجم الإنفاق المالي لفرنسا في حرب الإستقلال الأمريكيّة أكثر من 100 مليون باوند إنكليزي (أي 2,5 تريليون دولار بسعر عملة اليوم)، معظمها تكاليف لجيشها من أجل القيام بمهام قتالية أو عسكرية إلى جانب الأمريكيّين. ويمكن أن نستحضر هنا المركيز دو لا فاييت (Marquis de La Fayette)، والذي كان دوره الفعلي ليس في جبهات القتال في أمريكا، بل في صالونات فرنسا من أجل إقناع الطبقة الحاكمة بضرورة الوقوف مع أمريكا ومدّها بكل ما تحتاجه.

خلق هذا الإنفاق الفرنسي الضخم على الثورة الأمريكيّة مشاكل ضخمة لفرنسا داخليّاً. فتضخّم الدين العام جعلها عاجزة عن معالجة الكثير من المشاكل الحيويّة والبنيويّة، وأدّى ذلك إلى ازدياد القلاقل في البلاد، وإلى تنافر كبير بين أعضاء الطبقة الحاكمة. فنشبت الثورة وسقط الحكم الملكي، ودخلت فرنسا في أتون مشاكل وويلات وديون، ما تزال تعاني من بعضها حتّى يومنا هذا.

ومن سخرية القدر أن فرنسا اضطرت في العام 1803 إلى بيع كامل أراضيها في لويزيانا إلى أمريكا بمبلغ 15 مليون دولار، وهو يعادل قيمة 372 مليون دولار اليوم؛ (وكانت لويزيانا تمتدّ من مدينة نيو أورليز جنوباً إلى حدود كندا شمالاً، على مساحة ضخمة تعادل حجم الولايات المتّحدة في ذلك الوقت).

ليس صحيحاً أنّ التاريخ يُعيد نفسه. لكن كثيراً ما تتشابه سياقات الأحداث، كما نهاياتها. ففي الماضي، اعتقدت فرنسا أنّ هزيمة بريطانيا في أمريكا تتقدم على معالجة مشاكلها الداخلية الضخمة. فكانت النتيجة أنّ هزيمة بريطانيا جعلت الأخيرة مندفعة سعياً إلى تحصين وتقوية نفوذها في باقي أرجاء المعمورة. وفي المقابل، هوت الملكيّة في فرنسا ونُهبت قصور الإقطاعيّين ونُكّلَ بهم وتبعثرت ممتلكاتهم وانتهت حقبتهم.

عندما نرى أمريكا ترصد نحو 100 مليار دولار لأوكرانيا وإسرائيل وتايوان، ينبري السؤال: أي مستقبل ينتظر امبراطورية عظمى تُنفق مبالغ ضخمة هي بأمسّ الحاجة إليها، والأخطر أن ذلك يترافق مع أعمال تنكيل بكل من يعارض سياساتها، كما نشهد في العشرات من جامعات أمريكا اليوم؟

إن نظرة إلى الوراء تُعرّفنا على الجواب الآتي.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  أجراس الأزمة الأوكرانية.. هل تُوقظ اليسار الأردني؟