حديث “التفاهمات” سمعناه قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وبعده؛ لكن معطيات ما بعد هذا التاريخ المفصلي، تبدو أكثر جدية وإن كان مسار هذه التفاهمات يُشكّل امتداداً للمباحثات التي أسفرت عن صفقة أمريكية إيرانية عبر منصة عمان البلد الذي احتضن مباحثات مهمة منذ العام 2012 والتي أسفرت في محطة منها عن ابصار “الاتفاق النووي” النور عام 2015 وفي محطة أخری عن صفقة تبادل معتقلين في العام 2023.. وما بينهما من صفقات لاطلاق سراح بحارة بريطانيين وآخرين أمريكيين؛ ولا أعتقد بأن مثل هذه الصفقات ستقف عند حدٍ معين نظراً لحاجة جميع الأطراف إلى مثل هذه التفاهمات في ضوء ما تزخر به منطقتنا من توترات وأزمات.
وقد جاءت زيارة مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل غروسي إلى طهران في الأسبوع الماضي والمباحثات التي أجراها مع وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان ومساعده علي باقري الذي يمسك بملف المفاوضات مع الجانب الأمريكي إضافة إلی رئيس منظمة الطاقة الذرية الإيرانية محمد اسلامي لتُحرك المياه الراكدة؛ لكن اللافت للإنتباه أن غروسي أعرب عن أمله في إعادة احياء “الإتفاق النووي”، وهو موقف تقاطع مع جاء على لسان محمد اسلامي بتأكيده تمسك طهران بهذا الاتفاق، مُحملاً الجانب الأمريكي الذي انسحب من الاتفاق عام 2018 مسؤولية تداعيات انهيار ذلك الإتفاق.
وعلى جاري عادته، منذ سنوات، يعكس غروسي في طهران مناخات إيجابية أو حذرة أحياناً، كما حصل في زيارته الأخيرة، لكنه ما أن يصل إلى فيينا حتى تتبدل لهجته كلياً، حيث بلغ به الأمر حد المجاهرة بأن المفاوضات مع طهران بلغت “الطريق المسدود”، ورأى أن الوضع الراهن “غير مُرضٍ على الإطلاق”، وتوقع بدء الحصول على نتائج ملموسة قريباً، في إشارة واضحة إلى طهران بوجوب التوصل إلى اتفاق بينها وبين الوكالة قبل إجتماع مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة في فيينا في شهر حزيران/يونيو المقبل.
وعلی الرغم من أن مدير منظمة الطاقة الذرية الإيرانية أعرب عن استعداد بلاده للتعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والإجابة عما تبقی من أسئلتها، خصوصاً ما يتعلق بالتلوث الاشعاعي في موقعين خارجين عن نطاق الإشراف الدولي؛ إلا أن طهران تعتقد أن الوكالة سرعان ما تستجيب للضغوط التي تُمارسها جهات أجنبية وتحديداً الولايات المتحدة والكيان الإسرائيلي وتتخذ ما تطرحه هذه الجهات من “شبهات” بشأن البرنامج النووي الإيراني، ذريعة لمطالبة الجانب الإيراني بتقديم أجوبة عليها؛ في الوقت الذي تقول فيه إيران إن مثل هذه “الشبهات” يجب أن تُطرح من قبل فرق التفتيش التابعة للوكالة الدولية المتواجدة بشكل دائم داخل إيران والتي لم تتحدث يوماً في تقاريرها الدورية عن سلوك مغاير للطبيعة السلمية للبرنامج النووي الإيراني.
وهناك نقطة منهجية تطلبها إيران دائماً لتعزيز التعاون الثنائي مع الوكالة، تتمثل في ابقاء المعلومات السرية بشأن البرنامج النووي الإيراني بعهدة الوكالة الدولية، لا أن يتم تسريبها إلى الكيان الإسرائيلي؛ كتلك المتعلقة بتفاصيل المباحثات التي يُجريها مدير الوكالة الدولية مع الجانب الإيراني أو المتعلقة بعمل المفتشين أو تلك المراسلات التي تتم بين الوكالة الدولية والجانب الإيراني؛ وهي نقطة لم تستطع طهران اقناع الوكالة بعدم تسريبها لجهة متورطة في استهداف البرنامج الإيراني وتعمل من أجل تفكيكه لأسباب سياسية – أمنية وليس لأسباب فنية تقنية تقع في صلب مهام الوكالة الدولية.
وفي جديد هذا الملف أيضاً؛ التطورات التي تشهدها المنطقة وما رافقها من مواجهة عسكرية مباشرة بين إيران والكيان الإسرائيلي بعنوان “الوعد الصادق” منتصف الشهر الماضي. لذا ليس مستبعداً أن يتأثر هذا الملف بموقف تل أبيب، فمشكلة البرنامج النووي الإيراني ليست بماهيته وأهدافه إنما بمعارضة الكيان الإسرائيلي المطلقة له، الأمر الذي استوجب ممارسة ضغط إسرائيلي علی الرئيس دونالد ترامب فرض عليه الانسحاب من “الإتفاق النووي” في العام 2018 كرمى عيون نتنياهو واللوبي اليهودي الذي أراد لهذا الإتفاق أن يُولد ميتاً.
ويبقى السؤال: هل هناك أي أفق لإعادة احياء “الإتفاق النووي” وهل ثمة تفاهمات جديدة بين طهران وواشنطن ستكون مطروحة علی الطاولة بعد انتهاء حرب غزة؟
يُجيب مصدر إيراني بـ”نعم”، ويعتقد أن هذه الإجابة رُبما تنطبق أيضاً علی غير هذه الأسئلة المتعلقة بالعلاقة بين طهران وواشنطن لكنه يجزم أن الكرة ليست في الملعب الإيراني بل في الملعب الأمريكي.
وفي حقيقة الأمر، فإن مفعول “الإتفاق النووي” انتهی عندما تخلت الدول الغربية عن التزاماتها المنصوص عليها في الإتفاق المذكور، وتحديداً ألمانيا وفرنسا وبريطانيا بعد انسحاب الولايات المتحدة عام 2018؛ وما يدفع للتفاؤل هو حاجة إدارة الرئيس جو بايدن لتفاهمات مع إيران تخدمه قبيل الانتخابات الرئاسية المقررة في الخريف المقبل، مقابل حاجة إيران لإزالة العقوبات الإقتصادية المفروضة علیها، وتحديداً ما يتعلق بنظام التحويلات المالية (السويفت)، وهذا ما تعمل عليه المحطة العُمانية حتى يومنا هذا.
وفي هذا الإطار، لا بُدّ من التنبيه إلى عامل مهم وهو ما أنتجه “الإتفاق النووي” في العام 2015 من تهدئة نسبية في منطقة الشرق الأوسط للعديد من التوترات، لكن الجنون الإسرائيلي وتحديداً ما يدور في عقل نتنياهو هو الذي سبّب كل هذه التطورات حيث كان يَعتقد أن انهيار هذا الإتفاق سيحمي الأمن القومي الإسرائيلي، لكنه أخطأ، كما في المرات السابقة، عندما تجاهل حقيقة أن البرنامج النووي الإيراني والاتفاق مع الدول الكبری هو أكبر ضمانة للأمن الإقليمي والعالمي، بدليل ما تشهده المنطقة في أكثر من ساحة منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر حتى الآن.