بحسب العقد الموقع بين الجانبين، يحقّ لوزير المال، وِفقاً لاستنسابه الخاص، مشاركة التقرير، بشرط عدم استخدامه إلّا لغرض الاطّلاع فقط. وفي حال كان الهدف من طلب التقرير إجراءات عدليّة ضدّ أي فرد أو طرف متورط وِفقاً لنتائج التقرير، يجب طلب موافقة شركة “Alvarez & Marsal”. ويعود للشركة، وِفقاً لاستنسابها الخاص مشاركة التقرير من عدمه.
***
في 7 آب/أغسطس 2023، نُشر التقرير الجنائي الأوّلي النهائي الذي يتضمّن التوضيحات والاستفسارات المطلوبة لفهم أسباب الأزمة المالية المصرفية والاقتصادية، والذي كانت قد أعدّته شركة “Alvarez & Marsal” لحسابات وأنشطة مصرف لبنان المركزي. جاء النشر بعدما ألزم قاضي العجلة الإداري كارل عيراني في 24 تموز/يوليو 2023 وزارة المال بتسليم التقرير عملاً بقانون الحق في الوصول إلى المعلومات. فالتقرير “ملك للشعب اللبناني الذي له الحق موازاةً مع أي سلطة إدارية أو قضائية، معرفة الأسباب الواقعية والقانونية وغير المعلنة التي أدّت إلى انهيار النظام المالي برمّته”.
***
تسعة أشهر مرّت على نشر التقرير. وعدا عن وزير العدل القاضي هنري خوري الذي أحال التقرير إلى النيابة العامة التمييزية لإجراء المقتضى مع كل من ورد اسمه فيه، لم يتخذ أي إجراء حتى الآن، علماً أنّ مصادر “180post” تشير إلى أنّ التحقيقات القضائية المستندة إلى داتا تقرير التدقيق الجنائي الأوّلي بدأت منذ فترة لكن من غير المتوقع أن تفضي إلى أي استدعاءات، حسب المصادر المعنية بالملف.
منذ أيام، نشر الاقتصادي د. توفيق كاسبار دراسته بعنوان: “BANQUE DU LIBAN: A FORENSIC ANALYSIS”، وفيها يُحلّل تقرير التدقيق الجنائي ويناقش تفاصيله مع نائب حاكم مصرف لبنان سابقاً د. غسان العياش.
تخلُص الدراسة المذكورة إلى أن رياض سلامة كناية عن “One-Man Show”. وهي تشرح وتعلّل كيفية اعتماد رياض سلامة أساليب محاسبية غير تقليدية استنسابية وتعسفية؛ وأيضاً كيفية قيامه بإخفاء خسائره المتزايدة من خلال تأجيل المصروفات. وكيف أنّ انهيار القطاع المصرفي هو نتيجة لسياسة “الهندسة المالية” التي انتهجها مصرف لبنان، بالتواطؤ مع المصارف اللبنانية. هذه البنوك أدارت بشتّى الطرق السيئة سيولتها بالدولار واتبعت سياسة ائتمانية محفوفة بالمخاطر، وخرقت معايير وقوانين الامتثال المصرفية العالمية لمكافحة الجرائم المالية. أما انهيار الليرة اللبنانية، فحدثٌ منفصل نتج عن الإهمال المالي للحكومات المتعاقبة وممارساتها الفاسدة بالتواطؤ مع المصرفيين.
***
يغطي تقرير شركة “Alvarez & Marsal” المجالات التالية للفترة الممتدة ما بين 2015 و2020:
-التحقّق ممّا إذا كانت العمليات المالية التي أجراها مصرف لبنان المركزي تمّت من أمواله أو من حسابات مودعة لديه.
-التحقّق ممّا إذا كانت مبالغ أو قيم أي عمليات مالية مضخّمة من دون تبرير مستند إلى دلائل.
-التحقّق ممّا إذا سُدّدت مدفوعات لشركات وهمية، واستُخدمت لأغراض غير قانونية.
-التدقيق بإعداد التقارير المالية والتحقّق من وجود سوء ائتمان واختلاس وسوء استخدام للأموال العامة.
-التدقيق بالنفقات والالتزامات لتبيان وجود أي استخدام من خارج القوانين المرعيّة الإجراء.
-التدقيق بكيفية زيادة كتلة الأصول والالتزامات في الميزانية العمومية لمصرف لبنان وتحرّكها مع مرور الوقت.
-التدقيق في تكوين التزامات واحتياطات مصرف لبنان من العملات الأجنبية ومن ضمنها اليوروبوندز.
-التحقّق من شروط إصدار السندات الحكومية وسندات الخزينة بالإضافة إلى توظيفات مصرف لبنان.
-التدقيق في الهندسات المالية وتبيان هويّة المستفيدين منها.
-إجراء تحليل تفصيليّ لتبيان حركة الودائع في المصارف التجارية تحديداً خلال فترة الهندسات.
-بيانات المصارف التجارية التي سلّفت الحكومة وموثوقيّة أرصدتها المودعة لدى البنك المركزي؛ وتحليل التقارير حول الودائع والمخاطر الائتمانية من قِبل المؤسسات المالية إلى مصرف لبنان والحكومات المتعاقبة المحيطة به.
-مراجعة إجراءات الامتثال والضوابط الداخلية المعمول بها في البنك المركزي.
-تقييم ما إذا كانت هذه الإجراءات كافية لمنع حدوث المخالفات المالية؛ وتقييم ما إذا كانت هذه الضوابط تحترم المعايير الدولية التي تنتهجها البنوك المركزية في العالم.
***
لو عدنا إلى الوراء أربع سنوات، يتبين أن مصرف لبنان لم يتعاون مع شركة”Alvarez & Marsal”. فقد رفض دخول “A&M” إلى مقرّ مصرف لبنان في محلة الصنائع. أمّا المعلومات، فكانت تُسلم إلى الشركة من خلال “خادم” مستقلّ أُنشئ لهذه الغاية في وزارة المال. وتعذّر على الشركة استخراج أية بيانات من “سيرفيرات” المصرف المركزي. أيضاً، رفض رياض سلامة إجراء مقابلات مع الموظفين والإداريين، واستُعيض عن ذلك بإرسال الأسئلة خطياً. وبدلاً من استجواب 47 موظفاً، أرسلت أجوبة 14 فقط. هذا واستمرّ سلامة بالتّحجّج بالسّرية بالرغم من تعليق قانون السرّية المصرفية من قِبل مجلس النواب مع الإشارة إلى أن القانون المذكور يغطّي عادة المعلومات المتعلّقة بالودائع في البنوك وليس بيانات أخرى تتعلّق بالنفقات أو الائتمان.
وبرغم أن التقرير جاء ناقصاً، إلا أنه يحوي “بعض” الأدلّة والبراهين اللازمة والتي يمكن البناء عليها ليطيح القضاء، لو كان مستقلاً فعلاً، برؤوس كلّ من كان سبّباً في الانهيار المالي والنقدي وتبديد ودائع اللبنانيين. هذا التقرير يُبيّن كيف تدهور وضع مصرف لبنان المركزي. هذا التدهور لم يظهر في ميزانيات المصرف المعروضة في بياناته المالية السنوية التي أُعدّت باستخدام سياسات محاسبيّة غير تقليديّة. وهذه البدع المحاسبيّة تحديداً أتاحت لرياض سلامة المبالغة لا بل المغالاة في تقدير الأصول والأموال الخاصة والأرباح، مع التقليل من الالتزامات، وإغلاق كل سنة مالية بمبالغ يحدّدها “الحاكم” من دون أية توضيحات.
***
ماذا عن عمليّات رياض سلامة لتنفيع المصارف اللبنانية؟
يرى تقرير شركة “Alvarez & Marsal” الجنائي الأوّلي أنّ سلطة حاكم مصرف لبنان كانت استثنائية وترتكز إلى تقديراته الشخصية وغير خاضعة للرقابة، وذلك لتحقيق هدفين شاملين:
1- توفير الشروط اللازمة للسماح للمصارف المحلية في لبنان بجذب الودائع بالدولار الأميركي.
2- تشجيع المزيد من المصارف على إيداع هذه الدولارات لدى مصرف لبنان.
إلا أن الأساس المنطقي وراء عمليات الهندسات المالية التي تمّت على مراحل ثلاث غير واضحة. ذلك برغم كل البروباغندا القائلة بضرورة استقطاب احتياطات أجنبية لدعم سياسة سعر الصرف الثابت.
في مرحلة أولى؛ أقرض رياض سلامة في العام 2015 المصارف اللبنانية بغرض شراء سندات الخزينة بالليرة اللبنانية والتي خصمها مصرف لبنان لقاء عمولة. وتمّ تسجيل العمولات المحصّلة في حساب خاص لدى مصرف لبنان لتعويض كلفة التصحيح المالي. وأجاز المجلس المركزي ذلك في قراره بتاريخ 7/1/2015 حيث جاء أنّ البرنامج سيستمر حتى تصل العمولة إلى مليار ليرة. بذلك، يكون هذا القيد المالي الوحيد الذي فرضه المجلس المركزي على الحاكم في تنفيذ عمليات الهندسات المالية.
في مرحلة ثانية، وتحديداً في العام 2016، نفّذ مصرف لبنان برنامجاً جديداً لهندساته لجذب الدولارات إلى لبنان. واستبدلت سندات الخزينة بالليرة اللبنانية من محفظة مصرف لبنان باليوروبوندز الصادرة حديثاً. أجاز المصرف المركزي ذلك في قراره المتّخذ في 6/4/2016. وأشار القرار إلى أنّ اليوروبوندز بقيمة مليارَي دولار، ذاكراً أنّ الفائدة ومدّة الاستحقاق على اليوروبوندز المكتتب بها سيتم تحديدها لاحقاً من قِبل الحاكم.
في مرحلة ثالثة، وتحديداً في العام 2017، سمح مصرف لبنان للمصارف بخصم شهادات الإيداع الأميركية الصادرة عنه بشرط اشتراكها بالمبلغ نفسه في اليوروبوندز الحكومية اللبنانية، وذلك من دون أن يُشير إلى سقف مالي للعمليات المصرّح بها.
بالمقابل، لم تُقدّم البيانات المالية التي كان رياض سلامة ينشرها صورة دقيقة لوضع مصرف لبنان المالي. هذا واعتُمدت سياسات محاسبية غير تقليدية: كان “المركزي” يعرض خسائره من خلال مقاصّة الالتزامات والأصول وتسجيلها في حسابات غير مفسّرة بتسميات همايونية مثل “الأصول الأخرى” و”حسابات المقاصّة والتسوية”.
***
يستند تقرير “Alvarez & Marsal”إلى بيانات مالية مدقّقة لمصرف لبنان للفترة من عام 2015 إلى 2018، من قِبل شركتَي “Deloitte” و”Ernst&Young” وعلى البيانات المالية لعام 2019 من قِبل شركة “KPMG”، بالإضافة إلى البيانات المالية لمصرف لبنان لعام 2020. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ البيانات المالية المدقّقة لمصرف لبنان لم تُنشر قطّ. أي أن مصرف لبنان المركزي لم يُظهر أي خسائر مالية في قائمة أرصدته، في حين بدأت الخسائر بالظهور منذ العام 2002، عندما توقف للمرة الأولى عن نشر بيان الأرباح والخسائر السنوي، والتي بلغت حوالى 50 مليار دولار بحلول نهاية العام 2019.
كان مصرف لبنان ملزَماً قانوناً بالإعلان عن ملخّص ميزانيته السنوية في الجريدة الرسمية. ادّعى منذ العام 2002 لغاية الـ2021 أنّ نتائج “الأرباح السنوية” كانت “صفرية”. وفي الإعلام، كان مصرف لبنان يحتفل بالأرباح المضخمة التي كان يجنيها. من خلال هذه الأرباح، سلّمت للحاكم مئات الجوائز كأفضل الحكام للبنوك المركزية حول العالم. أمّا حقيقة وضع مصرف لبنان المركزي مالياً، فكانت عبارة عن خسائر متراكمة ومؤجّلة وغير معلنة لا يمكن أن تؤدي في نهاية المطاف إلّا الى الإفلاس.
بمعنى آخر، قدّم مصرف لبنان تصريحات خاطئة ومضلّلة وخادعة وهو على دراية بخطة “سرقة القرن” التي كان يتمّ التحضير لها.
وبالرغم من انكشاف كل خبايا وخفايا الانتهاكات المالية، إلا أنّ “رواية” أصحاب البنوك لا تزال هي المعتمدة. وِفقاً لهؤلاء: الناس أودعوا أموالهم في البنوك. البنوك وضعت الأموال في مصرف لبنان. قام مصرف لبنان بإقراض هذه الأموال للحكومات، التي أنفقتها لتمويل الفساد. هذا الفساد هو الذي أدى إلى الانهيار. هكذا، يكون الدين الحكومي والفساد هما الجانيان… والمرتكبان.
والحقيقة أنّ السبب الرئيسي لانهيار القطاع المصرفي هو السياسة النقدية؛ والسبب الاساسي لانهيار الليرة اللبنانية هو السياسة المالية. الانهياران مترابطان من حيث طبيعتهما وأسبابهما ونتائجهما. سياسات مصرف لبنان النقدية خصوصاً “الهندسات” كانت أساس تدمير القطاع المصرفي. أمّا انهيار الليرة فحدثٌ مختلف.
كانت استجابة القطاع المصرفي اللبناني لعروض مصرف لبنان الكريمة طوعيّة. أودعت المصارف أكثر من 90 مليار دولار لدى مصرف لبنان، أي ما يتخطى 75٪ من الودائع الدولارية المؤتمنة عليها. هكذا، ضربت المصارف عرض الحائط بكل المخاطر الائتمانية مقابل فوائد وعمولات سخيّة ومغرية تُسجّل في حسابات إدارات البنوك وأعضاء مجالس إداراتها.
***
في تقريره السنوي عن الاقتصاد اللبناني لعام 2016، قدّر صندوق النقد الدولي أن “الهندسات المالية” بين مصرف لبنان والبنوك في النصف الثاني من العام 2016 أدت إلى تحقيق أرباح للبنوك تجاوزت 5 مليارات دولار.
أما “A&M “، فخمّنت الأرباح التي حققتها المصارف، خلال الفترة بين الاعوام 2017 إلى 2020، بـ 5.1 مليار دولار؛ أي أنّ المصارف اللبنانية جنت بين الـ 2016 والـ 2020، أرباحًا صافية تخطّت 10 مليارات دولار من عمليات “الهندسة المالية”.
بالتوازي، لم يكن واضحًا أين ذهبت مليارات الدولارات المتوفرة لدى مصرف لبنان. هنا يتحدّث توفيق كاسبار عن خسائر بـقيمة 30 مليار دولار بأقلّ تقدير في ميزانيّة وأصول البنك المركزي. ذلك من خلال تبادل أرباح البنوك والأصول السائلة الأخرى من الليرة اللبنانية الى الدولار في السوق المفتوحة لمصرف لبنان، وتحويلها لصالح مساهمي المصارف بدلاً من “المؤسسات المصرفية”. بهذه الطريقة تُرجمت أرباح مجالس إدارات المصارف، تدهوراً في احتياطات مصرف لبنان بنحو 30 مليار دولار.
بالنسبة إلى سندات اليوروبوندز، يوضح توفيق كاسبار في تحليله لتقرير التدقيق الجنائي الأولي كيف كان مصرف لبنان يقوم بوتيرة متكررة بتنفيذ عمليات تبادل مع وزارة المال. كان “المركزي” يطلب من وزارة المال إصدار سندات اليوروبوندز من دون حاجة الحكومة الى تلك الدولارات، وذلك لزيادة احتياطاته بالعملات الاجنبية. أي أنّ الحكومة اللبنانية كانت المزوّد الصافي لمصرف لبنان بالدولارات وليس العكس.
***
في الخلاصة؛ “قد” نتغابى فنتغافل كيف عُطّل القضاء اللبناني بصورة قصديّة في ملف رياض سلامة، لمنع محاكمته أمام الهيئة الاتهامية في بيروت. و”قد” نتغاضى عن دور هيئة القضايا عبر رئيستها هلانة إسكندر في الملف والذي صبّ عن جهل أو عن قصد لصالح رياض سلامة؛ لكن أن يُنشر “تقرير التدقيق الجنائي”، فيبقى قضاة النيابات العامة، وقضاة التحقيق ساكتين غير معنيّين، من دون أن يتحرّك لديهم حسّ العدالة وإحقاق الحقّ انسجاماً مع قسمهم، ومحاسبة المسؤولين ومساءلة أقلّه من وردت أسماؤهم في جريمة “سرقة القرن”.. فذلك ما لن يتناساه الشعب اللبناني الذي خسر ودائعه وكل جنى عمره.