في الوقت نفسه، سادت حالة من التفاؤل بقرب انتهاء عشرية سوداء تحوَّلت خلالها العديد من البلدان إلى ساحات صراع بالوكالة، من سوريا إلى اليمن ومن ليبيا إلى العراق، عمَّقت بالضرورة الإشكاليات البنيوية التي تعاني منها المنطقة وأفرزت أخرى جديدة. دول فاشلة ومنظومات حوكمة عاجزة عن تقديم أدنى مستويات الخدمات الأساسية، وسط نمو سكاني غير منظَّم وتغيُّر مناخي تتفاقم آثاره مع مرور الزمن، وتصاعد في عدد وقدرات الفواعل المسلَّحة اللادولتية بمختلف أنواعها.
رسّخ هذا المناخ التفاؤلي احتمالات شتى: تطبيع عربي-عربي لإنهاء الخلاف السعودي والخليجي مع قطر؛ تطبيع خليجي-تركي؛ تطبيع عربي مع الدولة السورية؛ تقارب سعودي-إيراني برعاية صينية؛ “صفقة قرن” لطي صفحة الصراع العربي-الإسرائيلي. وفي موازاة هذه كلها، كانت المفاوضات الأميركية الإيرانية قد بلغت في سلطنة عُمان مرحلة من التقدم، وهذه كلها جعلت القوى الإقليمية تعوَّل على الدبلوماسية والتعاون الاقتصادي لإعادة ترتيب أوراق المنطقة، حتى جاءت لحظة 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
شكّلت هذه اللحظة صدمة استراتيجية للمنطقة وللمناخات التفاؤلية التي كانت رائجة ونقطة انعطاف إقليمية ودولية أعادت تسييد المقاربات الأمنية والعسكرية، من غزة إلى اليمن، وشكّلت تحدياً للافتراضات المُعوِّلة على الدبلوماسية والاقتصاد مدخلاً للتعايش الإقليمي المشترك. بات الكل في المنطقة محرجين وربما ظهرهم إلى الحائط. في حين عادت فلسطين قضية محورية، عربياً وعالمياً، لا سيما مع الجرح الكبير النازف على أرضها للشهر التاسع على التوالي.
وبات من الجلي أنَّ حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، مترافقة مع هذا التدمير اليومي المُمنهج، تحت ذريعة إنهاء حماس واستعادة قدرة الردع الاستراتيجية والحؤول دون التعرض لـ7 أكتوبر آخر مستقبلاً، تهدف لإعادة احتلال القطاع أو الإبقاء على تواجد أمني للاحتلال – على الأقل – في مرحلة ما بعد الحرب. يعكس ذلك بالضرورة النزعة التوسعية لإسرائيل كدولة وعقيدة، ويعني دقَّها المسمار الأخير في نعش مسار “حل الدولتين” والسيادة الفلسطينية المنتظرة، وفشل جميع المساعي العربية التي استنفذت كل خياراتها العسكرية والسياسية في التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي بدءاً من الصراع العربي-الإسرائيلي المباشر مروراً باتفاقيات السلام ومن ثمَّ مبادرة السلام العربية وانتهاءاً بصفقة القرن.
ثمة استمرار لحالة عدم الوضوح الاستراتيجي: بين استمرار التدهور البنيوي على مستوى المنطقة أو مخاض ولادة نظام إقليمي جديد، مدركين ضرورة الإبقاء على سقف التوقعات منخفضاً قدر الإمكان من ناحية، وأن لا نظام إقليمياً جديداً من دون حل بؤر التوتر في فلسطين واليمن وسوريا وسواها من ناحية أخرى
ومن الجلي أيضاً أن هذه الحرب ستُشكل فرصة لإيران لإضفاء شرعية على سياستها التوسعية في الشرق الأوسط. إذ لم تقتصر إيران على توظيف أذرعتها في العراق وسوريا ولبنان واليمن لمناكفة إسرائيل والولايات المتحدة فحسب، بل يُمكنها أن تتسلل من بوابة حرب غزة لزعزعة أمن الأردن سواء في استخدامها للمجال الجوِّي الأردني للرد على الضربة الإسرائيلية التي استهدفت القنصلية الإيرانية في دمشق أو سعيها الحثيث لتمرير أسلحة للضفة الغربية عن طريق الأردن. يعكس ذلك سياسة إيران التوسعية، كأنها تبحث عن دينامو جديد بعد لبنان والعراق واليمن وسوريا أمام خيارات عربية محدودة وغير مضمونة سواء على مستوى تحالف الناتو العربي أو العلاقات مع الصين كضامن لفتح صفحة جديدة مع إيران.
لم تكن 7 أكتوبر إلَّا نتاج جملة من الإشكالات البنيوية التي يعاني منها الشرق الأوسط، وعلى رأسها سياسة إسرائيل الاستيطانية وحصارها لغزِّة وسياسة إيران في دعم الفواعل المسلحة من غير الدول، والتي تشكل العمود الفقري للسياسة التوسعية الإيرانية أو ما يسمى استراتيجية “الدفاع الأمامي”، وبالطبع ليست حماس استثناءً. وهذا الأمر لا ينزع المسؤولية عن النظام الرسمي العربي من المحيط إلى الخليج، فعندما تغيب فلسطين عن قائمة أولويات الإقليم، لا بد أن ينبري من يُمسك برايتها ويستثمر بها على امتداد كل هذا الفراغ العربي المُبين.
إنَّ التعايش الإقليمي بالنسبة لكل من إيران وإسرائيل يعني تكيُّف دول وشعوب المنطقة مع تمدُّد الاستيطان الإسرائيلي من دون أي أفق حقيقي لحل الدولتين، وتكيُّف ذات الدول والشعوب مع وكلاء إيران المحليين على مستوى تواجدهم الخشن أو اختراقهم الناعم للمجتمعات المحلية.
إنَّها مفارقة أو “بارادوكس” الشرق الأوسط، قبل الحرب وبعدها، لجهة غياب أفق التعايش الإقليمي بقدر الحاجة إليه. أقصى ما يمكن استنتاجه من هذه المفارقة حالياً هو استمرار حالة عدم الوضوح الاستراتيجي: بين استمرار التدهور البنيوي على مستوى المنطقة أو مخاض ولادة نظام إقليمي جديد، مدركين ضرورة الإبقاء على سقف التوقعات منخفضاً قدر الإمكان من ناحية، وأن لا نظام إقليمياً جديداً من دون حل بؤر التوتر في فلسطين واليمن وسوريا وسواها من ناحية أخرى.
إذاً، ليس هنالك عودة لما قبل 7 أكتوبر، فكما يُقال، عجلة التاريخ لا تعود إلى الوراء، والواقع الراهن يفرض نفسه على الجميع. الأمن هو عنوان المرحلة حتى إشعار آخر، والتعايش الإقليمي بمسمى تحقيق الاستقرار عن طريق التطبيع في كل الاتجاهات هو صيغة بعيدة المنال حالياً، وعلى المنطقة أن تدخل مرحلة ما بعد الحرب أولاً. أما في “اليوم التالي” للحرب، فمن الصعب تخيُّل قوة مهيمنة باعتراف الجميع، إلا على أنقاض المنطقة برمتها، وتجربة صراعات العقد الماضي شاهدة على ذلك، إذ سيكون على دول المنطقة العودة لمعالجة “البارادوكس” الإقليمي، في حين يكون فلسطينيو غزة قد دفعوا الثمن الأكبر.