نعوم تشومسكي: الدولة ما بين الحرية، الاستبداد والكفاءة (3/3)

يجب على واحدنا أن يكون حراً لكي يتعلم كيف يستخدم قوته بشكل حر ومفيد. بالطبع، ستكون المحاولات الأولى عنيفة، وستقود إلى وضع أشد إيلاماً وخطورة من الوضع السابق في ظل الهيمنة، ولكن أيضاً تحت حماية سلطة خارجية. ومع ذلك، يمكن للفرد أن يحقق المنطق فقط عبر تجاربه الخاصة، ويجب على واحدنا أن يكون حراً لكي يتمكن من القيام بها.

قبول مبدأ أن الحرية لا قيمة لها لأولئك الذين يقبعون تحت سيطرة فرد، وأن هذا الفرد له حق حرمانهم منها للأبد، هو تعدٍ على حق الإله ذاته، الذي خلق الإنسان ليكون حراً. هذه الملاحظة تحديداً ملفتة للانتباه أيضاً بسبب سياقها. ففي هذه المناسبة، كان (إيمانويل) كانط يدافع عن الثورة الفرنسية أثناء الإرهاب، وضد أولئك الذين زعموا أنها أظهرت أن الجموع ليست جاهزة للتمتع بامتياز الحرية، وقد كان لملاحظاته صلة واضحة بالأحداث المعاصرة لها.

لن يوافق أي شخص عاقل على العنف والإرهاب، تحديداً إرهاب الدولة التي تلي الثورة، التي سقطت في أيدي حكم استبدادي قاتم، والتي وصلت أكثر من مرة إلى مستويات لا توصف من الوحشية. في الوقت ذاته، لن يسارع أي شخص ذو فهم وإنسانية إلى إدانة العنف الذي غالباً ما يقع عندما تثور الجماهير التي لطالما أخضعت ضد قامعيها، أو حين تتخذ خطواتها الأولى نحو التحرر وإعادة البناء الاجتماعي.

قبل بضع سنوات من (إيمانويل) كانط، عبّر (ألكسندر فون) هومبولت عن رؤية شديدة التشابه مع تلك. فقد قال أيضاً بأن الحرية والتنوع هي شروط مسبقة لتحقيق الذات البشرية. فلا شيء يُعزّز هذه الجاهزية (النضج) للحرية بقدر الحرية ذاتها. ربما لا يعترف بهذه الحقيقة من قِبل أولئك الذين كثيراً ما استغلوا قلة الجاهزية كذريعة لمواصلة القمع، لكنها تبدو لي أنها تنبع دون شك من طبيعة الإنسان ذاتها.

العجز عن الحرية يمكنه أن ينشأ فقط من الافتقار إلى القوة الأخلاقية والفكرية، وتعزيز هذه القوة هو السبيل الوحيد لتعويض هذا الافتقار. لكن تحقيق ذلك يفترض سابق توفر الحرية التي توقظ الفعل العفوي، وأولئك الذين لا يستوعبون هذه الحقيقة، كما يقول (هومبولت)، يصح الشك في فهمهم للطبيعة البشرية ورغبتهم في تحويل الأفراد إلى آلات.

كتبت روزا لوكسمبورج في نقدها الأخوي المتعاطف للإيديولوجية والممارسات البلشفية عبارات ذات معانٍ مماثلة. فالمشاركة النشطة للجماهير في حكم الذات وإعادة البناء الاجتماعي، هي وحدها القادرة على تحقيق ما وصفته (روزا) بالتحول الروحي الكامل للجماهير التي تم الحط منها عبر قرون من حكم طبقة البرجوازية. كما أن تجربة الجماهير الإبداعية وفعلها العفوي هما القادران على حل آلاف المشكلات في سبيل صناعة المجتمع الليبرتاري الاشتراكي.

“هل السيطرة الديموقراطية على النظام الصناعي، وصولاً إلى أصغر وحداته الوظيفية، يتعارض مع الكفاءة؟ كثيراً ما يتم مناقشة هذا الأمر على عدة محاور، فالبعض يقول على سبيل المثال بأن الإدارة المركزية هي ضرورة تكنولوجية”

مضت (روزا) في القول بأن الأخطاء التي ارتكبت تاريخياً من جانب حركة ثورية حقة، كانت أكثر إثماراً بشكل لا نهائي من عصمة أذكى لجنة مركزية. وأنا (تشومسكي) أظن أن هذه الملاحظات يمكن ترجمتها فورياً إلى الأيديولوجية الموازية إلى حد ما إلى فكرة “الشركة العطوفة”، التي تحظى بشعبية فيما بين الأكاديميين الأمريكيين إلى حد كبير. على سبيل المثال، كارل كايسين كتب (عن الشركة العطوفة) قائلاً: “لم تعد وكيلة الملكية الساعية لتعظيم الأرباح على الاستثمار. فالإدارة ترى نفسها في صورة المسؤولة عن حملة الأسهم، الموظفين، العملاء، الجمهور، وربما الأهم من ذلك، عن الشركة نفسها كمؤسسة. فلا تعبير عن الطمع أو الجشع، لا وجود لمحاولة دفع ولو جزء من التكلفة الاجتماعية للمشروع باتجاه العمال أو المجتمع. الشركة الحديثة هي شركة عطوفة”.

بالمثل، فإن الحزب الطليعي هو حزب عطوف، وفي كلتا الحالتين فإن من يستحثون الأفراد على الخضوع لحكم هذه الديكتاتوريات الحميدة، أعتقد أنه يمكن عدلاً اتهامهم بتمني تحويل الناس إلى آلات. الآن اعتقد أن صحة الرؤية التي يطرحها (جان جاك) روسو و(إيمانويل) كانط و(ألكسندر فون) هومبولت و(روزا) لوكسمبورج وآخرون لا يمكن حصر عددهم، لا أعتقد أن صحة ذلك في هذه اللحظة قابلة للإثبات العلمي، يمكن لواحدنا أن يُقيّمها فقط من خلال الخبرة والحدس. لكن يمكن لواحدنا أيضاً أن يشير إلى العواقب الاجتماعية لتبني رؤية أن الأفراد ولدوا ليكونوا أحراراً، أو أنهم ولدوا لكي يحكمهم مستبدون خيّرون.

وفيما يخص التساؤل الثاني، مسألة الكفاءة؟ هل السيطرة الديموقراطية على النظام الصناعي، وصولاً إلى أصغر وحداته الوظيفية، يتعارض مع الكفاءة؟ كثيراً ما يتم مناقشة هذا الأمر على عدة محاور، فالبعض يقول على سبيل المثال بأن الإدارة المركزية هي ضرورة تكنولوجية.

لكنني أعتقد أن هذه الحجة ضعيفة للغاية حين يُدقّق المرء فيها. فذات التكنولوجيا التي تقدم المعلومات ذات الصلة لمجلس الإدارة، يمكنها أن تقدمها في ذات الوقت الذي تظهر الحاجة لها، إلى جميع الأفراد في القوى العاملة. التكنولوجيا التي أصبحت الآن قادرة على محو العمالة المذهلة التي تُحوّل الرجال إلى أدوات إنتاج تخصصية، تتيح هذه التكنولوجيا من حيث المبدأ، الرفاه والفرص التعليمية التي تمكنهم (العمال) من استخدام هذه المعلومات بطريقة رشيدة. علاوة على ذلك، فإن النخبة الاقتصادية التي تقطر عطفاً هذه، إذا ما استخدمنا عبارة رالف ميليباند، هي مقيدة بالنظام الذي تعمل بداخله لتنظيم الإنتاج سعياً نحو أهداف معينة: السلطة، النمو، الربح، ولكن ليس بطبيعة الحال الاحتياجات الإنسانية. الاحتياجات التي ولدرجة حرجة، لا يمكن التعبير عنها سوى من الناحية الجماعية.

إقرأ على موقع 180  "شيءٌ ما" أصاب مجتمعاتنا الإسلامية؟

بالتأكيد يمكن تصور، وربما من المرجح أن القرارات التي تتخذ من قِبل المجموعة، ستعكس هذه الاحتياجات والمصالح، مثلما ستكون القرارات التي تتخذها النخب العطوفة المختلفة. على أي حال، من الصعب أن نأخذ على محمل الجد، أية نقاشات حول الكفاءة تدور في مجتمع يُكرّس كل هذه الموارد الهائلة للهدر والتدمير. فكما يعلم الجميع، فإن مفهوم الكفاءة في حد ذاته يقطر إيديولوجيةً. فتعظيم السلع ليس هو المقياس الوحيد للعيش الكريم، وهذه النقطة معروفة، وليس هناك من موجب لسرد المزيد من التفاصيل.


راجع الجزء الأول: نعوم تشومسكي: بناء مجتمع ليبرتاري اشتراكي! (1)

راجع الجزء الثاني: نعوم تشومسكي: الماركسية والفوضوية في آن معاً (2)

اقرأ النص الأصلي الكامل بالإنجليزية لخطبة نعوم تشومسكي بعنوان “الحكومة في المستقبل” عبر الرابط التالي:

https://chomsky.info/government-in-the-future

استمع إلى الجزء المترجم للعربية هنا من الخطبة بعنوان “صناعة مجتمع ليبرتاري اشتراكي” باللغة الإنجليزية:


ملاحظات:

– هذه المحاضرة جزء من خطبة مطولة ألقاها نعوم تشومسكي بتاريخ 16 شباط/فبراير 1970، بعنوان “الحكومة في المستقبل

– تمت الترجمة بتصرف محدود لخدمة المعنى والإيضاح

– تم إكمال أسماء الشخصيات المذكورة من جانب تشومسكي بهدف تسهيل البحث لمن أراد الاستزادة

– ليس المقصود من ترجمة نص الخطبة إلى اللغة العربية تبني أو رفض الموقع لأي من النظريات المطروحة. هذه محاولة للإسهام في توسيع مدى الرؤية فيما يخص أزمة الحكم والنظريات المختلفة لإدارة الإنتاج والمجتمعات، في طرح يفارق الطيف الضيق لليمين واليسار بصورتيهما المعاصرة والملتبسة.

Print Friendly, PDF & Email
تامر منصور

مصمم وكاتب مصري

Download WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  مأزق العروبة والنهوض.. لا بديل عن الديموقراطية