من “الوعد” إلى “الطوفان”.. التكوين المُلتبس للقضية (1)

إن مصطلح "الحرب العادلة" يحمل في "الشكل" تناقضاً مبنياً على التنافر بين مبدأ الحروب، وما يعنيه من دمار وقتل ومآسٍ، ومبدأ العدالة وما يرمز إليه من قيم ومبادئ واحترام.

إن ما يجري اليوم في منطقة الشرق الأوسط هو اشتباك متعدد الأوجه، عنوانه القضية الفلسطينية، بما تُمّثله من أهداف سياسية ارتبطت بسلوك دأبت الإمبرياليات العالمية، الآفلة منها والحالية، على ممارسته والتي أعطت ما ليس لها إلى من لا يستحق، من ضمن مشروع استعماري “مُحدّث” وأكثر وضوحاً في أهدافه؛ خاض الحروب بثمن.. وتقاسم العالم بثمن.

سياقٌ ضاعت، في خضمّه، القيم واختلت، وسط تناقض المصالح بين الشركاء وضياع الوعود في أتون حروب متنقلة بين البلدان الخارجة من “سلطنات” القرون الوسطى إلى عالم “الحداثة الضائعة” بين موجبات الحق والعدالة والتطور والعلم.. وكيفية الترجمة العملية لها.

هذا الواقع كان نتيجة مخاض الانتقال من هيمنة باسم الدين والخلافة إلى أخرى باسم العلم والأنوار؛ لقد سقطت قيم الحرية والديموقراطية وتقرير المصير وغرقت في فخ الفهم الخاطئ لمفهوم الحضارة، المقموعة من “محاكم التفتيش” لتُرمى في محارق الحروب الاستعمارية الصاخبة منها أو المخفية أو المنسية.

أما فلسطين، الواقعة في قلب تلك التحولات والتي أصبحت عنواناً لها، فإنّها تشكّل في يومنا هذا قضية محورية في الصراع؛ فهي ما تزال تخوض المعركة الأساس، والتي من حولها دارت معارك جانبية وعلى امتداد قرن من الزمان. فبين “الوعد” و”الطوفان” مسافة تخطّت أجيالاً كثيرة واستهلكت دماءً ونضالات ومسارات. قامت أنظمة وسقطت أخرى وبالنتيجة أصبحت القضية تترجح بين الحلول الجزئية والتمنيات والترجي ونفض الأيادي والتبرؤ والانكار.. لقد ضاقت مساحات نضالها لتستقر على هياكل سلطة ـ طبعاً بموافقة الاحتلال ـ لا قوة لها ولا قرار، تتقن الكلام المتناقل من إرث الأنظمة العربية وتتماثل معها، وامتدت عدواها لتطاول أيضاً “مقاومة” اعتقدت نفسها، في لحظة معينة، سلطة بديلة، فضاعت الهوية والتبست المفاهيم.

مطلوبٌ منّا اليوم أن نطرح السؤال المُكرّر منذ أكثر من نصف قرن: كيف سنواجه كل تلك الرياح العاتية في منطقتنا؟ وكيف يمكننا الاستفادة من مواجهات مفروضة بحكم ذلك الواقع المعيوش كي نعاود تكوين المنطقة بصورة مناقضة للسائد ولمصلحة شعوبها؟

التكوين الملتبس

إن تأسيس الكيانات العربية بكل أشكالها، لم يكن على مستوى الشروط المحددة لقيام الدول، من مؤسسات وآليات وشعب ووظائف. لقد جعلت “سايكس بيكو” بلاداً شاسعة، تقع في قلب العالم وتتوسط قارات ثلاث، فيها شبكة مواصلات بحرية، وتنام على خيرات طبيعية من موارد طاقوية بكل أنواعها في مهب اعتبارات، تحمل بذور تفجرها وتفتقد لديناميات تجعل مناعتها الوطنية أقوى على المواجهة وأجدر في التصدي للمشاكل وتأمين المتطلبات. المنطلق كان الطائفة أو المذهب أو العائلة، وعليه جاءت التقسيمات لدول غير قابلة للحياة بمفردها، بل قاصرة وبحاجة إلى حاضنة، تمثلت في تلك الفترة بإمبرياليتين أوروبيتين استُبدلتا لاحقاً بإمبريالية أميركية قائمة على السلب والنهب والحروب.

لقد سقطت الدولة الوطنية في مأزق الوظيفة التي لم تتعد مسألة تأمين الشروط الضرورية لحكّام أو مشيخات. لقد تم حظر مبادئ دولة “الأنوار” وشروط قيامها لمصلحة الولاء المطلق للعائلة أو الطائفة أو المذهب، لتعود تلك الدول وتغرق في أساطير التاريخ المتوارث، وتنبش أحقاداً ودماءً.

نعم، لم تقم الدولة الوطنية المتعددة الوظائف والمهام، ولم تُبنَ الأنظمة السياسية على برامج تتداولها سلطات تحكم بأكثرية شعبية. لقد كان قدر تلك الدول أن لا تقوم وتنهض إلّا بالحاضنة الخارجية ومساعدتها، وهذا ما تكفلت به الدول الغربية بكل أنواعها. وعلى ذلك الحدّ، مطلوبٌ منّا اليوم أن نطرح السؤال المُكرّر منذ أكثر من نصف قرن: كيف سنواجه كل تلك الرياح العاتية في منطقتنا؟ وكيف يمكننا الاستفادة من مواجهات مفروضة بحكم ذلك الواقع المعيوش كي نعاود تكوين المنطقة بصورة مناقضة للسائد ولمصلحة شعوبها؟

لقد وقعت الأنظمة العربية في فخ مشاريعها، فسقطت في وحول الداخل على حساب المشروع الأساس، الذي كان قد أعطى لكل الأنظمة شرعيتها وساهم في نشوئها. “سايكس بيكو” هو المشروع الإمبريالي الغربي، الأساسي والتأسيسي، الذي أعطى الدول العربية حدودها وطبيعة أنظمتها، وأوجد عوامل عدم استقرارها على مستويين: طبيعة الأنظمة وقيام الكيان الصهيوني، ما وضع العطب البنيوي في صلب التكوين، وجعل تلك الأنظمة بطبيعتها ووظيفتها غير قادرة على تغيير أنفسها، وهذا الاستعصاء ناتج من شكلها التأسيسي والأهداف الكبيرة – غير المعلنة للمشروع. أي مشروع مطلوب للمنطقة فأي أنظمة وأي مسار في ظل التحولات البنيوية للكيانات وبروز القضية الفلسطينية كمحرك جدّي للواقع وميزاناً له؟

وقعت المقاومة الفلسطينية في فخ النظام الرسمي العربي الذي أغرقها في مستنقعاته ومشاكله، ليتحوّل بعضها إلى بنادق للإيجار في أكثر من مناسبة، أو كبديل لسلطة في مواضع أخرى

لقد شكّل هذا السؤال معضلة جدّية للثورة الفلسطينية منذ أن أطلقت الكفاح المسلح كشكل أساسي لبناء النضال الوطني الفلسطيني، وكخيار لاسترجاع فلسطين وإقامة الدولة الوطنية، على كامل التراب الوطني الفلسطيني وعاصمتها القدس. لقد وقع مسارها في فخاخ عديدة، منها الذاتي، الذي استسهل فكرة النضال من خارج فلسطين فغرق في وحول دول الجوار ومشاكل أنظمتها، لتصبح معها مقارعة الأنظمة مدخلاً لتحرير الأرض؛ ومنها الموضوعي المرتبط بعدم وضع استراتيجية قائمة على مرتكزات صلبة ومتنوعة، بين الكفاح المسلح والنضال الشعبي والتضامن وبناء القدرات وتوحيد الروافد وغيرها، والذي أوهن عضد المقاومة لتصبح بطبيعتها ووظيفتها، في العديد من المواضع، هي الإشكال. ومن جهة أخرى، فقد وقعت المقاومة الفلسطينية في فخ النظام الرسمي العربي الذي أغرقها في مستنقعاته ومشاكله، ليتحوّل بعضها إلى بنادق للإيجار في أكثر من مناسبة، أو كبديل لسلطة في مواضع أخرى.

إقرأ على موقع 180  حدث 7 أكتوبر.. تضييق فرنسي على الحريات يبلغ أبعاداً غير مسبوقة

من هنا لا بد من التشديد على أن الطبيعة التكوينية لأي مكّون هي من تُحدّد خياراته واستكمالاً تموضعاته؛ إذ لا يمكن انتاج مشروع وطني صلب من دون برنامج واضح وأهداف محددة وسياسة تحالفات تخدم المشروع وليس أجندات داعميه. هي ليست دعوة للانعزال بل دعوة للتبصّر والتفكير بالمطلوب، إذ لا يمكن لأي قوى بمنطلقات طائفية أن تنتج مشروعاً وطنياً متكاملاً مهما غلت التضحيات. وهذا ليس ذماً بأحد، أو تقليلاً من نضالاته، بل هي قراءة موضوعية وعلمية لكيفية صوغ المنطلقات وبناء البرامج الجامعة والقائمة على عدة ركائز: البنية والوظيفة والدافع والهدف وتنفيذه بالإضافة إلى الخيار المطلوب انتهاجه والقوى الحاملة له والداعمة وأهدافها.. وهي بذلك مسألة تأسيسية لها صفة الاستدامة.

(*) في الجزء الثاني غداً: فلسطين معركة عادلة.. معركة العدالة الإنسانية

Print Friendly, PDF & Email
حسن خليل

كاتب، أكاديمي، مسؤول العلاقات السياسية في الحزب الشيوعي اللبناني

Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الإنسحاب الأميركي من أفغانستان.. "تعزيز قيمة" إسرائيل إقليمياً