‫عن رفاهية أهل “الطابق العلوي”… لماذا تشعر إسرائيل بالخطر؟

في مقالة سابقة ذكرنا أنّه لا يوجد على مستوى العالم إلا اليمين الليبرالي واليسار الليبرالي، أي أن جميع البلدان باتت تتبع طريق الليبرالية الاقتصادية، وبالتالي اندمجت تحت سماء العولمة الليبرالية كل مفاهيم وتجارب اليمين واليسار.

في المقالة إياها (أعلاه)، قُلنا إن العالم تحوّل إلى بناء من طابقين: علوي وسفلي. تعالوا نُسلّط الضوء أولاً على الطابق الأعلى. هو طابق يفقتد للإنسجام بين ساكنيه مثل مجموعة الدول السبع (1)، مجموعة العشرين (2)، ومجموعة البريكس (3)، مع العلم أن مجموعة السبع بوصولها إلى العشرين عضواً كانت نوعاً من الترضية السياسية لهذه الدول بحجة اقتصادية في محاولة لتحقيق كسب جيوسياسي. أما البريكس، فكانت منذ بدايتها حلفاً جيوسياسياً للتصدي لمجموعة السبع، بما هي رأس حربة اقتصادية لحلف شمال الأطلسي (الناتو).

إذا نظرنا إلى هذه المجتمعات (مع ضم الإتحاد الأوروبي المقفل بواسطة سمسم شينغن) وكيفية تعاملها مع أحداث العالم وردات فعلها، نرى أنّها تعيش على كوكب آخر!

ولكن لا يظنن أحدٌ منا أن المليار نسمة هم بشر قساة القلوب وعديمي الإنسانية. على عكس هذا الظن، هي كتلة مُرهفة الإحساس ونبيلة العواطف ورقيقة القلب وإنسانية الروح. نعم، هي تنعم بوجود مريح وآمن وبرفاهية عير محدودة. كل ما في الأمر أنّ عقلها “مُدجّن” (تكفي قراءة إدوارد سعيد، كتاب “الاستشراق”) كما أنّ للإعلام دوراً لا يُستهان به في “تشحيل” الأخبار وتعقيمها.

كيف؟

لا كذب ولا تدجيل. الأمر يحتاج إلى الغوص في علم التواصل والألسنيات مع بعض الرذاذ من علم النفس الذي يتكىء على “باتوس” (pathos) هذه الشعوب وما زرعته عقود من الاستعمار وتوليفة الاستشراق؛ أي أن النظرة الفوقية محفورة في اللاوعي العميق كما في نفوس هذه الجماهير من دون علمها.

في الإعلام حدّث ولا حَرَج. لنأخذ غزة ومشاهد غزة وأكثر من 40 ألف شهيد، على سبيل المثال لا الحصر: لدى مشاهدة النشرات الإخبارية في قناة غربية عموماً، توجد قواعد غير مكتوبة يلتزم بها أي صحفي من مُقدمي الأخبار. مثلاً؛ الفلسطينيون هم دائماً من يهاجمون إسرائيل بينما هذه الأخيرة تدافع دائماً عن نفسها تحت بند “الانتقام المشروع” و”الدفاع عن النفس”. الفلسطينيون يقتلون مدنيين وهذا هو الإرهاب، أما قتل إسرائيل للمدنيين، فهو أيضاً حق مشروع يندرج في خانة “محاربة الإرهاب”. وعند قتل عدد كبير من الفلسطينيين، فإن البيانات الغربية تكتفي بالمطالبة بـ«ضبط النفس».

للغرب حساب مع إيران؟ إذاً عندما يذكر الصحفي بتعبير «مقاومة» (إذا حصل هذا) عليك أن تُضيف «المدعومة من إيران».

“الأراضي المحتلة”؟ تعبير فضفاض جداً وبعيد عن قرارات الأمم المتحدة وعن القانون الدولي واتفاقيات جنيف الدولية. أما اتفاقيات أوسلو ووايت بلانتيشن وطابا إلخ، فهي بالطبع في عالم مجهول. المدعوون إلى نشرات الأخبار هم بالطبع بأغلبيتهم من المراسلين الإسرائيليين الذين يتحدثون باللغات الأجنبية، بينما ترجمة ما يقوله المُهَجَّر المقتلع من أرضه وبيته والذي فقد عائلته تتم عبر.. مراسلة سابقة في إسرائيل. كل انتقاد لهذا الانحياز هو «عين اللاسامية» التي باتت تُعاقب عليها قوانين معظم هذه الدول!

حتى السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان يُمكن تصنيف إسرائيل وسكانها من ضمن «دول الرفاهية». كان مستوطنوها يعيشون في ظل أمان التفوق العسكري، أما ما يحصل من أعمال مقاومة فلا يُؤثر على سياق الرفاهية، مثلها مثل الدول الغربية الراقية وما تؤمن من أمن صحي واجتماعي وثقافي.. ورفاهية

لنترك غزة في شهري الفرصة الصيفية ولنعد إلى رفاهية مجتمعات الطابق الأعلى أو العلوي.

كل ما يحدث حول العالم لا يؤثر قيد أنملة في حياة وروتين سكان مجتمعات الغرب. حجوزات الفنادق وحركة الطيران والمبيعات لا تتأثر. أهالي الشمال الأوروبي يتوجهون إلى شواطئ الجنوب الأوروبي. نشرات الأخبار تبدأ بأحوال الطقس وريبورتاجات حول مخيمات الاصطياف ومناطق جديدة تُبهر أنظار المتابعين.

حدث جليل مثل هزة أرضية ينال «45 ثانية» في نشرات الأخبار وتعود إليه القنوات المتلفزة بعد يومين في ريبورتاج يستجلب الشفقة. حتى الزلزال مدعاة لأن ترفع مجتمعات الرفاهية رأسها متباهية لأنه لا يُصيبها بعكس ما يحصل مع «الآخرين» في الطابق السفلي. حرب غزة تكتب عنها الصحافة كل يومين أو ثلاثة، في سياق تناول حدث تجري وقائعه في جغرافية بعيدة عن أرض الرفاهية.‫

ولكن الأهم هي رفاهية الحياة اليومية بمعناها الواسع؛ أي الأمن والأمان في كافة المجالات:

– الأمن الصحي: تؤمن السلطات حماية صحية مستدامة وترفع سداً منيعاً عند أي أزمة صحية، وتلتفت لشعوبها قبل الشعوب الأخرى وقد اثبتت جائحة “كوفيد 19” هذه الحقيقة الثابتة.

– التقاعد: التقاعد مؤمن وشهرية نهاية الخدمة تصل إلى هذه الشعوب أينما حلت داخل تلك الدول أو حتى خارجها.

– العلم والثقافة: تؤمن حكومات تلك الدول أفضل سبل التعليم ونشر المعرفة المتقدمة للمحافظة على السبق الحضاري والتقني الذي يديم التفوق. وأثبت ذلك نشر وانتشار العلوم الرقمية بالأمس والذكاء الاصطناعي اليوم وغداً وبعد غد بعيد.

إقرأ على موقع 180  حرب رفح.. لترفع مصر صوتها أياً كانت الكلفة

– البيئة: تبحث تلك الدول عن سبل حماية أراضيها من الاحتباس الحراري بفرض نظم تعيق تقدم «الطابق السفلي» أي الدول الفقيرة، برغم أن الاحتباس الحراري هو وليد سياسات الدول الصناعية. أضف إلى أنه حتى زمن قصير جداً كانت حاويات القمامة والنفايات الصناعية تذهب لتلوّث إفريقيا مقابل حفنة من الدولارات.

– الأمن الغذائي والمياه: تضمن سياسة حكومات تلك الدول درعاً غذائياً لشعوبها وتؤمن استمرارية تدفق المياه ودعم الزراعة وهي عوامل مترابطة. أنظر إلى اخضرار تلك الدول وطفرة المياه المتواجدة بغزارة.‫

– الأمن والأمان: مبدأ حماية مواطني دول الرفاهية هو ثابتة وركيزة مؤسسة لقواعد تلك الدول.. والامبراطورية البريطانية كانت أول من شن حملات عسكرية لانقاذ أي مواطن لها في أقصى المعمورة إستناداً إلى مبدأ المحافظة على الانسان وحريته المعروف بـ«هَبيياس كوربوس» (habeas corpus). اليوم تتحرك الأساطيل لنجدة مواطني دول الرفاهية هذه.

هذا الأمان في كافة المجالات يجعل هذه الشعوب متمسكة بأنظمتها ولا تريد بأي شكل من الأشكال التنازل عن سلم الرفاهية التي تؤمنها لها سياسات بلادها.

هذا الأمن الذي يُعكّره من حين لآخر عمل إرهابي أو هجوم من ذئب متوحد، لا يلبث المتواجدون في دائرة الاستهداف أن ينسوه سريعاً لتعود حياة الرفاهية إلى مجاريها بعد أخذ بضعة احتياطات أمنية.

نعود إلى غزة وإسرائيل:

حتى السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، كان يُمكن تصنيف إسرائيل وسكانها من ضمن «دول الرفاهية». كان مستوطنوها يعيشون في ظل أمان التفوق العسكري، أما ما يحصل من أعمال مقاومة فلا يُؤثر على سياق الرفاهية، مثلها مثل الدول الغربية الراقية وما تؤمن من أمن صحي واجتماعي وثقافي.. ورفاهية.

في لاوعي الدول الغربية كانت إسرائيل «مماثلة» لهم، أي متقدمة تقنياً وحضارياً، لكن بشكل خاص تُقدّم الأمن لمواطنيها الذين يحمل أغلبهم جنسية مزدوجة، أي يحملون جنسيات دول الرفاهية.

عندما تكتب الصحف العبرية وتصف حرب غزة بأنها وجودية فهي تشير إلى ابتعاد إسرائيل عن دول الرفاهية.. فمع هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر (صِفهُ كما تُريد: “إرهابي” أو “فعل مقاوم”)، أظهرت استطلاعات الرأي تعاظم مخاوف المستوطنين ورغبة عارمة بالهجرة المعاكسة، يكون رأس حربتها المثقفون وأصحاب الرساميل.

هل أظهر استطلاع للرأي نزوع مواطني الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا إلى مغادرة بلدانهم بعد وقوع عمل إرهابي على أرضهم؟ هذه الإجابة تجعلنا نتيقن لماذا يعتبر الإسرائيليون هذه الحرب وجودية للدولة العبرية.

(1) كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، بريطانيا والولايات المتحدة.

(2) الأرجنتين، أستراليا، البرازيل، كندا، الصين، فرنسا، ألمانيا، الهند، إندونيسيا، إيطاليا، اليابان، كوريا الجنوبية، المكسيك، روسيا، السعودية، جنوب إفريقيا، تركيا، بريطانيا والولايات المتحدة، بالإضافة إلى الإتحاد الأوروبي والإتحاد الإفريقي.

(3) البرازيل، روسيا، الصين، جنوب إفريقيا، السعودية، الإمارات، مصر، إثيوبيا، وإيران.

Print Friendly, PDF & Email
بسّام خالد الطيّارة

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في فرنسا

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  خيبة في الفاتيكان.. ولا مكان لـ"الشطارة اللبنانية"