الصراع على فلسطين.. أيُّ أرضٍ وعد الله بها إبراهيم؟ (2)

تمتد جذور الصراع الحالي على أرض فلسطين إلى زمن النبي إبراهيم، عندما وعده الله، حسب الرواية التوراتيّة، بأن يعطيه أرضاً. هذا الوعد هو جزء من العهد الذي يحتوي ثلاثة أضلع: الأرض، النسل والبركة. لكن الإشكاليّة الكبرى في الشقّ المتعلّق بالأرض أنّ النصوص التوراتيّة تختلف وتتناقض في تعريفها وتحديدها.

العهد الإبراهيمي هو من العهود المؤسّسة للديانات التوحيديّة: تحديداً اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام. هو عهد مؤسّس لأنّه أعاد إحياء عبادة الله على الأرض. ويقرّ الإعتقاد الديني الشائع، ولو بشكل غير مباشر، بأنّ عبادة الله توقّفت نتيجة للفساد بين البشر وعبادتهم لآلهة أخرى. عند ذلك، ظهر الله على إبراهيم ووعده بما وعد، فقبل إبراهيم وتمّ العهد بينهما، وبذلك أصبح الله معبوداً عند إبراهيم ونسله فيما بعد، وأكثريّة العالم في يومنا هذا.

في الإصحاح 12 من سفر التكوين، نجد أوّل ذكر للشقّ المتعلّق بالأرض التي سيعطيها الله لإبراهيم. تقول الآيات 1-3 ما يلي:

1 وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ: اذْهَبْ مِنْ أَرْضِكَ وَمِنْ عَشِيرَتِكَ وَمِنْ بَيْتِ أَبِيكَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُرِيكَ. 2 فَأَجْعَلَكَ أُمَّةً عَظِيمَةً وَأُبَارِكَكَ وَأُعَظِّمَ اسْمَكَ، وَتَكُونَ بَرَكَةً. 3 وَأُبَارِكُ مُبَارِكِيكَ، وَلاَعِنَكَ أَلْعَنُهُ. وَتَتَبَارَكُ فِيكَ جَمِيعُ قَبَائِلِ الأَرْضِ”.

لا تُعرّف هذه الآيات مكان هذه الأرض، وحتّى تعبير “الأرض التي أريك” فيها غموض لأنّ النصّ لا يذكر عبارة توحي بالتمليك، بل بالنظر.

(ولن أتطرّق هنا للنظريّات القائلة بأماكن أخرى يمكن أن تكون حصلت فيها أحداث التوراة – بما فيها نظريّة المؤرخ الراحل كمال الصليبي القائلة بأن تلك الأحداث جرت في غرب الجزيرة العربيّة – لأنّ هذه النظريّات حديثة وليست في صلب الإعتقاد الديني لأي من الديانات الثلاث، وبذلك ليس لها دور أو تأثير في فهمنا للبعد الديني للصراع على فلسطين).

لكن في الإصحاح 13 (الآيتان 14-15) نجد تعريفاً أكثر وضوحاً لهذه الأرض:

14 وَقَالَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ، بَعْدَ اعْتِزَالِ لُوطٍ عَنْهُ: ارْفَعْ عَيْنَيْكَ وَانْظُرْ مِنَ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَنْتَ فِيهِ شِمَالاً وَجَنُوباً وَشَرْقاً وَغَرْباً، 15 لأَنَّ جَمِيعَ الأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ تَرَى لَكَ أُعْطِيهَا وَلِنَسْلِكَ إِلَى الأَبَدِ”. (الإصحاح 13: 14-15)

وبسب ذلك، يقول الإصحاح، نقل إبراهيم سكنه من بيت إيل (وهي بين القدس ونابلس) إلى حبرون (الخليل). هنا، يتوضّح لنا أنّ ما رآه إبراهيم هي أرض محدودة الجغرافية، لكن ما يزال الغموض يلفّ مكانها بالضبط، لأنّ إبراهيم غيّر مكان إقامته مباشرةً بعد سماعه لوعد الله. فهل هو رحل “من” الأرض التي وعده الله بأن يعطيها له (أي بيت إيل ومحيطها)، أم أنّه ذهب “إلى” الأرض التي سيحصل عليها (الخليل ومحيطها)؟ والأمر الآخر الذي يمكن أن نجزم فيه هو أنّ هذه الأرض ليست من النيل إلى الفرات، وليست حتّى كامل أرض فلسطين (وهو اسم لم يكن معروفاً في زمنه واستخدمه للتوضيح)، بل جزءاً منها.

يبدو أن فرضيّة الخليل ومنطقتها أرجح من بيت إيل لأنّ الإصحاح 15 (الآية 7) يعود ليؤكّد أنّ الله خاطب إبراهيم مرّةً أخرى عندما كان مُقيماً قرب الخليل وقال له: “أَنَا الرَّبُّ الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنْ أُورِ الْكَلْدَانِيِّينَ لِيُعْطِيَكَ هذِهِ الأَرْضَ لِتَرِثَهَا”.

لكن الغموض يعود من جديد في آخر الإصحاح (الآيات 18-21) حيث نقرأ الآتي:

18 فِي ذلِكَ الْيَوْمِ قَطَعَ الرَّبُّ مَعَ أَبْرَامَ مِيثَاقاً قَائِلاً: لِنَسْلِكَ أُعْطِي هذِهِ الأَرْضَ، مِنْ نَهْرِ مِصْرَ إِلَى النَّهْرِ الْكَبِيرِ، نَهْرِ الْفُرَاتِ: 19 الْقِينِيِّينَ وَالْقَنِزِّيِّينَ وَالْقَدْمُونِيِّينَ 20 وَالْحِثِّيِّينَ وَالْفَرِزِّيِّينَ وَالرَّفَائِيِّينَ 21 وَالأَمُورِيِّينَ وَالْكَنْعَانِيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ وَالْيَبُوسِيِّينَ”.

تأسّست عقيدة أن حدود أرض الميعاد هي من الفرات (أي العراق) إلى النيل (أي مصر) على هذا المقطع من سفر التكوين. لكن النصّ تشوبه التباسات كثيرة.

النصّ التوراتي متناقض ومتخبّط في ما يخصّ الأرض التي وعد الله إبراهيم أن يعطيه له ولنسله: 1) من النيل إلى الفرت، 2) فلسطين، أم 3) منطقة أرض كنعان المحيطة بالخليل. ويمكن أن نضيف أنّ التركيز أساساً لا يحصرها ببعض نسل إبراهيم، وأنّ هذا الأمر نبدأ في رؤيته مع تطوّر القصّة

علينا أن نتوقّف أوّلاً لنُشير إلى أنّ هذا الوعد مختلف عن الوعود السابقة. قبل ذلك، كانت الوعود متعلّقة بإبراهيم أو به وبنسله، وكانت جغرافيّة الأرض صغيرة. أمّا هنا، فالوعد لا يمنح الأرض له، بل يخصّها فقط بنسله في ما بعد. ونلاحظ أيضاً أنّ حدود هذه الأرض شاسعة، فهي بين نهر مصر (النيل) ونهر الفرات (إلاّ طبعاً إذا كان هناك من خطأ وقع فيه المؤلّف، أو يوجد نهران آخران يحملان الإسمين نفسيهما في فلسطين). لكن الغموض يعود من جديد لأنّ النصّ يُعرّفها وفقاً للقبائل والشعوب التي كانت تعيش عليها. لكن ما هو غريب في هذا التعريف أنّ النصّ يذكر فقط من كانوا يقيمون في محيط المكان الذي كان يعيش فيه إبراهيم. وبذلك، فالنصّ يناقض نفسه: هل هو يتحدّث عن الأرض بين النيل والفرات، أم فقط عن جنوب فلسطين؟

وهناك غموض آخر في هذا المقطع حيث أنّنا نقرأ عن الكنعانيّين كشعب بين شعوب كثيرة تعيش بالقرب من إبراهيم. بمعنى آخر، الشعوب الأخرى لا يُعرّفها النصّ كشعوب كنعانيّة، ويُخصّص الكنعانيّين كشعب مختلف عنها. وهنا يفرض سؤالٌ آخرٌ نفسه علينا: هل أرض الكنعانيّين التي يقصدها التوراة هنا هي كامل بلاد الشام، أم فقط منطقة حول الخليل، وهي مختلفة عن الأرض التي كان يعيش عليها القينيّون والقنزّيّون والقدمونيّون والحثّيّون والفرزّيّون والرفائيّون والأموريّون والكنعانيّون والجرجاشيّون واليبوسيّون؟

إقرأ على موقع 180  أسفار التوراة.. لبنان العبراني والأرز الملعون (3/3)

هذه الإشكاليّة حول أرض كنعان يجب التفكير بها مليّاً، خصوصاً لأنّ الفقرة بين الآية 16 من الإصحاح 16 والآية 8 من الإصحاح 17 في سفر التكوين تُعيد تعريف الأرض التي وعدها الله لإبراهيم ونسله بأنّها أرض كنعان:

“15 فَوَلَدَتْ هَاجَرُ لأَبْرَامَ ابْناً. وَدَعَا أَبْرَامُ اسْمَ ابْنِهِ الَّذِي وَلَدَتْهُ هَاجَرُ إِسْمَاعِيلَ. 16 كَانَ أَبْرَامُ ابْنَ سِتٍّ وَثَمَانِينَ سَنَةً لَمَّا وَلَدَتْ هَاجَرُ إِسْمَاعِيلَ لأَبْرَام”.

1 وَلَمَّا كَانَ أَبْرَامُ ابْنَ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً ظَهَرَ الرَّبُّ لأَبْرَامَ وَقَالَ لَهُ: أَنَا الإِلهُ الْقَدِيرُ. سِرْ أَمَامِي وَكُنْ كَامِلاً، 2 فَأَجْعَلَ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَأُكَثِّرَكَ كَثِيراً جِدّا.ً 3 فَسَقَطَ أَبْرَامُ عَلَى وَجْهِهِ. وَتَكَلَّمَ الإِلهُ مَعَهُ قَائِلا:ً4 أَمَّا أَنَا فَهُوَذَا عَهْدِي مَعَكَ، وَتَكُونُ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَمِ، 5 فَلاَ يُدْعَى اسْمُكَ بَعْدُ أَبْرَامَ بَلْ يَكُونُ اسْمُكَ إِبْرَاهِيمَ، لأَنِّي أَجْعَلُكَ أَبًا لِجُمْهُورٍ مِنَ الأُمَم. 6 وَأُثْمِرُكَ كَثِيراً جِدّاً، وَأَجْعَلُكَ أُمَماً، وَمُلُوكٌ مِنْكَ يَخْرُجُونَ. 7 وَأُقِيمُ عَهْدِي بَيْنِي وَبَيْنَكَ، وَبَيْنَ نَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ فِي أَجْيَالِهِمْ، عَهْداً أَبَدِيّاً، لأَكُونَ إِلهًا لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِك.َ 8 وَأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ، كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ مُلْكاً أَبَدِيّاً. وَأَكُونُ إِلهَهُمْ”.

من جديد، هل “أرض كنعان” هي كامل بلاد الشام (كما يفهما الكثيرون اليوم، خصوصاً دعاة “إسرائيل الكبرى”)، أم هي كما ذكرنا سابقاً قطعة أرض في جنوب فلسطين في محيط مدينة الخليل، تحدُّها أراضٍ لشعوب أخرى؟

الأرجح أنّ أرض كنعان ليست بلاد الشام وهو ما يؤكّده سفر الخروج (الآية 35 من الإصحاح 16):

وَأَكَلَ بَنُو إِسْرَائِيلَ الْمَنَّ أَرْبَعِينَ سَنَةً حَتَّى جَاءُوا إِلَى أَرْضٍ عَامِرَةٍ. أَكَلُوا الْمَنَّ حَتَّى جَاءُوا إِلَى طَرَفِ أَرْضِ كَنْعَانَ”.

هذا التعريف لأرض كنعان يشير أيضاً، كما ذكرنا آنفاً أنّها في جنوب فلسطين، وليست كامل بلاد الشام، ولا حتّى كامل فلسطين، لأنّ بني إسرائيل كانوا في أقصى جنوب بلاد الشام/فلسطين في زمن التيه، ومن هنا الإستغراب أن يُقال “جَاءُوا إِلَى طَرَفِ أَرْضِ كَنْعَانَ” وهم فعليّاً فيها. ويتكرّر هذا أيضاً في سفر العدد (الآيات 25-33 من الإصحاح 13).

ويمكن أن نسأل عن مؤلّف هذا الإصحاح ومتى ألّفه، وهل له أجندة أراد أن يؤسّسها في سفر التكوين؟

الإعتقاد السائد عند المؤرّخين المتخصّصين بالتوراة (تحديداً الأسفار الخمسة الأولى) أنّها كُتبت بعد السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد (مبنيّة على تراث شفوي). فهل أراد المؤلّف أن يعكس الإنقسام الذي حصل بين من عادوا من السبي وأرادوا تملّك الأرض بحجّة العهد وحصريّته بهم، ومن بقي في فلسطين (من إسرائيليّين قدماء أو غير إسرائيليّين) والذين رفضوا تلك الحصريّة؟

سفر التثنية (الآيات 1-6 من الإصحاح 34) تُعطينا مثلاً عن ذلك:

“1 وَصَعِدَ مُوسَى مِنْ عَرَبَاتِ مُوآبَ إِلَى جَبَلِ نَبُو، إِلَى رَأْسِ الْفِسْجَةِ الَّذِي قُبَالَةَ أَرِيحَا، فَأَرَاهُ الرَّبُّ جَمِيعَ الأَرْضِ مِنْ جِلْعَادَ إِلَى دَانَ، 2 وَجَمِيعَ نَفْتَالِي وَأَرْضَ أَفْرَايِمَ وَمَنَسَّى، وَجَمِيعَ أَرْضِ يَهُوذَا إِلَى الْبَحْرِ الْغَرْبِيِّ، 3 وَالْجَنُوبَ وَالدَّائِرَةَ بُقْعَةَ أَرِيحَا مَدِينَةِ النَّخْلِ، إِلَى صُوغَرَ. 4 وَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: هذِهِ هِيَ الأَرْضُ الَّتِي أَقْسَمْتُ لإِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ قَائِلاً: لِنَسْلِكَ أُعْطِيهَا. قَدْ أَرَيْتُكَ إِيَّاهَا بِعَيْنَيْكَ، وَلكِنَّكَ إِلَى هُنَاكَ لاَ تَعْبُرُ. 5 فَمَاتَ هُنَاكَ مُوسَى عَبْدُ الرَّبِّ فِي أَرْضِ مُوآبَ حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ. 6 وَدَفَنَهُ فِي الْجِوَاءِ فِي أَرْضِ مُوآبَ، مُقَابِلَ بَيْتِ فَغُورَ. وَلَمْ يَعْرِفْ إِنْسَانٌ قَبْرَهُ إِلَى هذَا الْيَوْم”.

من جديد، الإشكاليّة في هذا الوصف أنّه يُعرّف أرض الميعاد وفقاً لخريطة استيطان فلسطين من قبل القبائل الإسرائيليّة القديمة، ولم تكن هذه الأقسام معروفة بعد في زمن موسى. إذاً هي أُدخلت على النصّ لدواعٍ محددة أراد المؤلّف تأسيسها وشرعنتها. وهنا أيضاً تسقط مقولة أنّ أرض الميعاد هي من النيل إلى الفرات.

في الخلاصة، النصّ التوراتي متناقض ومتخبّط في ما يخصّ الأرض التي وعد الله إبراهيم أن يعطيه له ولنسله: 1) من النيل إلى الفرت، 2) فلسطين، أم 3) منطقة أرض كنعان المحيطة بالخليل. ويمكن أن نضيف أنّ التركيز أساساً لا يحصرها ببعض نسل إبراهيم، وأنّ هذا الأمر نبدأ في رؤيته مع تطوّر القصّة.

من هنا، تلفتنا الضبابيّة التي ينتهجها الصهاينة، حيث أنّهم لا يتحجّجون فقط بالتوراة لإقامة كيانهم المشؤوم، بل يرفضون تحديد جغرافيّة دولتهم لأنّ غرضهم أبعد من فلسطين.

(يُتبع؛ في المقال التالي، سأعالج كيفية دخول مدينة القدس على القصّة)

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  سيرة خطف شاب لا "جماعة" له.. ولكن