لا بد من قراءة موضوعية لحال الحرب القائمة على “الجبهة اللبنانية” بعنف منذ أكثر من أسبوعين، فقد تمكن الجيش “الإسرائيلي” من خلال غاراته على الضاحية الجنوبية من ضرب قيادات أساسية في الصفين الأول والثاني للمقاومة اللبنانية، ويمكن بذلك القول إن ذلك يأتي في سياق سياسة قطع رأس المقاومة وافقادها منظومة السيطرة والتحكم على الميدان وعزل المقاومين لا سيما في المحاور الأمامية عن قيادتهم بصورة كلية. وهنا يكتمل المشهد بالتعثر الواضح الذي يواجهه الجيش “الإسرائيلي” في ميدان الجنوب بسبب التصدي البطولي الذي يبديه المقاومون هناك والذي يؤدي إلى إنزال خسائر موجعة في صفوف المهاجمين لليوم الرابع على التوالي.
إن تركيز الغارات “الإسرائيلية”، ليل أمس، على محيط مطار بيروت الدولي قد يكون في إطار الخطة “باء” التي يُمكن أن يلجأ إليها الجيش “الإسرائيلي” بعد تعثره الميداني جنوباً، فإذا تبين له أن المقاومة في الضاحية الجنوبية فقدت القدرة على الضبط والسيطرة، يُجري انزالاً جوياً في نقطة قريبة من هذه المنطقة شرقاً أم غرباً للتقدم باتجاه الضاحية لرفع العلم “الإسرائيلي” في حارة حريك، معقل قيادة حزب الله، بهدف تقديم صورة نصر يتوق إليها رئيس الحكومة “الإسرائيلية” بنيامين نتنياهو في ظل حذره من محاذير المواجهة البرية في ضوء الإخفاقات الميدانية التي يواجهها جنوده براً حتى الآن.
والملاحظ أن الجيش “الإسرائيلي” لم يجرِ حتى الآن أي عمليات انزال، خلافاً لكل أدائه العسكري في غزواته السابقة للبنان، وهذا أمر يُمكن أن يُفهم منه أنه يحاول تفادي أي عمل قد يؤدي به إلى كارثة أسر جنود. وإذا كان الجيش “الإسرائيلي” لا يملك “داتا” حقيقية حول البنى التحتية للمقاومة في قرى الحافة الأمامية برغم سنة من الغارات اليومية، بينها حوالي الـ600 غارة على قرية كفركلا وحدها، إلا أن تجربة الأسابيع الأخيرة بيّنت أنه يملك “داتا” كاملة وتفصيلية للبنى التحتية للمقاومة في الضاحية الجنوبية، الأمر الذي مكّنه من تصفية العديد من قادة المقاومة وعلى رأسهم السيد حسن نصرالله. وخير دليل على ذلك أن معظم العمليات التي استهدفت المقاومة في الضاحية الجنوبية تمت تحت الأرض، فيما معظم استهدافات كوادر المقاومة في الجنوب تمت فوق الأرض وبوسائل مختلفة تقنية وبشرية متعددة.
ولعل وصول رئيس القيادة المركزية للجيوش الأمريكية مايكل كوريلا إلى تل أبيب، أمس، ربطته المصادر الأمريكية بـ”الضربة الوشيكة” التي تعتزم “إسرائيل” توجيهها إلى إيران رداً على الهجوم الصاروخي عليها من طهران في الأسبوع الماضي، ولكن شخصية عسكرية بهذا الوزن لا يكون حضورها ميدانيا بهدف “دوزنة” الرد “الإسرائيلي” على الرد الإيراني فقط، بل لهدف أبعد من ذلك، فهذه الزيارة تهدف إلى رسم استراتيجية مشتركة للحرب التي اتسعت دائرتها من غزة إلى لبنان والعراق واليمن وصولاً إلى إيران..
من الواضح ان “إسرائيل” ضبطت توقيت ردها المرتقب على إيران على إيقاع الذكرى السنوية الاولى لـ”طوفان الاقصى”، وهي برغم احتلالها كامل قطاع غزة، إلا أنها لم تحقق أياً من أهدافها الثلاثة المعلنة (سحق حركة حماس واستعادة الاسرى والحيلولة دون أي تهديد مستقبلي لها من غزة). لذا، تريد الذهاب إلى “صلب الموضوع”، أي استهداف إيران من جهة والمضي في حربها ضد لبنان حيث تمكنت من تحقيق “إنجازات” لولا أن وقائع البر جعلتها أكثر قسوة لا بل تبحث عن انجاز معنوي ما، كاحتمال الانزال في قلب الضاحية الجنوبية!
وبرغم سوداوية الصورة الراهنة للمقاومة وجمهورها بسبب الضربات التي لحقت بقيادتها، فإن العين تبقى شاخصة على الميدان جنوباً من جهة وما يُمكن أن يُفضي إليه تدحرج الإشتباك الإيراني ـ “الإسرائيلي” من جهة ثانية. ما عدا ذلك، فان أي كلام عن وقف اطلاق النار والسياقات الدبلوماسية هو كلام في الهواء، فـ”إسرائيل” ـ وخلفها أمريكا ـ ليست بوارد وقف النار في المرحلة الراهنة، بل على العكس تميل إلى تشديد الضغط العسكري على المقاومة وبيئتها من خلال مواصلة القصف الجوي وتهجير المدنيين وارتكاب المجازر بحقهم كما بحق المؤسسات الصحية والمدنية لفرض الشروط التي يريدها “الإسرائيلي” تحت ضغط النار والتهجير والمجازر.
حتماً سترد إسرائيل.. ولم يعد خافياً على أحد أن إيران سترد على الرد “بطريقة موجعة وأكثر إيلاماً”، حسب المسؤولين فيها ووسائل إعلامها، ولم يعد خافياً الترابط بين معارك غزة ولبنان وإيران. وفي هذا الاطار، يجب الانتباه إلى خطبة المرشد الإيراني علي خامنئي خلال تأبين السيد نصرالله في طهران، يوم الجمعة الماضي، بمعزل عن الكلام العاطفي والتضامني الذي قاله، فالملفت للنظر تحدثه باللغة العربية، وهذا يحمل في طياته رسالة واضحة للصديق والعدو بأن إيران لن تتخلى لا عن حلفائها ولا عن نفوذ راكمته في المنطقة العربية على مدى أربعة عقود من الزمن، أما كيف ستفعل ذلك فإن الكلمة هنا أيضاً للميدان.. عسى ألا يخيب أمل جمهور عربي وإسلامي كبير.