على الأرض يحصل الناس على انتماءاتهم الإثنية والدينية والوطنية في الغالب الأعم من الأحوال بطريقة طبيعية مجاناً ودونما كلفة يتكبدونها، بل على العكس من ذلك تأتي هذه الانتماءات مصحوبة - في العادة - بحزم من الامتيازات تقع ضمن ما يسميه علماء الاجتماع بالرأسمال الرمزي إلا في فلسطين وسوريا والجزائر ومصر، ولبنان في المقدمة.

في أمريكا تولد أمريكياً أبيض أو أسود البشرة أو سليل أسرة مهاجرة، وفي السعودية تولد شمرياً أو غامدياً او من آل سعود دون أن تدفع قطرة دم واحدة لقاء ذلك، وكذلك الحال في المكسيك أو تايلاند أو جزر القمر. لا هوية تتطلب دفع مثيل لها من الدم والروح والذاكرة إلا الهوية اللبنانية الصعبة المرقى والمنال.

ليس بوسعك أن تصبح لبنانياً هكذا بالميلاد فقط في تلك البقعة الصغيرة الجميلة من الأرض لأب أو أبوين لبنانيين، وإنما يترتب على هذا الميلاد وهذه البنوة فور الحصول عليها أن ترى على الحائط صورة أحد الأجداد الشهداء أو الأمهات الشهيدات، وحين تكبر تتغير الصور إلى الإخوان الشهداء أو الأخوات الشهيدات، أو في احتمالات أخرى كبيرة أن تطل صورتك أنت نفسك من على جدران بيوت الأهل والأحباء كشهيد في المعركة المتصلة لحماية الهوية التي يحصل الناس على مثيلاتها دون ثمن.

***

نشأ أجدادنا على حروب الشام ولبنان الدولة العثمانية وهجرة الأرمن والشوام حول العالم ومن بين أراضيه بلاد السودان التي لنا، وترك الأبناء والأحفاد أسماءهم في الحامض النووي للمدن الناشئة والبلدات الصغيرة، وهكذا عرفنا أسماء شاشاتي وحجّار وعزيز كفوري وصارت أسماؤهم علامات يُستدل بها على النجاح.

ربما لا يعرف اللبنانيون أن شعب السودان ومثقفيه ودارسيه والباحثين فيه مدينون بشكل استثنائي لإبن من أبنائهم ولد في قصبة الشويفات، وعمل في الإدارة الاستعمارية في السودان، ثم قدّم للعالم كتاباً مرجعياً في تاريخ وجغرافية السودان وهو نعوم بشارة نقولا شقير الذي اشتهر باسم نعوم شقير.

نشأ آباؤنا واللبنانيون يدفعون ثمن هويتهم بسخاء متصل من خلال تحمل تبعات الحرب في فلسطين ونزوح الآلاف من عربها إلى لبنان الصغير الكبير، ومنذئذ ظل الهم الفلسطيني هماً لبنانياً بالأساس يستوي فيه اللبنانيون/ من فينيقيين وعرب وأرمن وأتراك وشركس ومسلمين شيعة وسنة وموحدين ومسيحيين كاثوليك وأرثوذوكس وشيوعيين وقوميين وانفصاليين وإخوان مسلمين. الهم العربي الفلسطيني يصير جزءاً من ثمن الهوية اللبنانية وشيئاً فشيئاً يزداد ثمن الهوية واللبناني لا يكل ولا يمل. سيتوجب منذ نشوء دولة إسرائيل عند حدوده، أن يدفع اللبناني ثمن متاعب العرب وثمن الصراع الذي يصنعه الخارج بين دولهم وطوائفهم ومذاهبهم..

***

في لبنان المنقسم على ذاته بفعل الخارج والداخل، تسيل الهويات ولا تندلق لتلتحم فيدفع ممولٌ سني ثمن الرصاص للمحارب المسيحي المتحالف حتى يقتل من شاء من الطوائف المعادية بما فيها السنة أنفسهم، حتى يستقيم المسرح لتدخله، ويدفع ممول مسيحي ثمن الرصاص لمسلم بغية قتل مسيحي يرى فيه الممول أنه أشد عداوة له وإن كان يشيع بأنه ينوب عنه ويحمل همه ويدافع عنه.

وفي ذات الحرب الطائفية حين تهب نسائم السلام ويختار ممولو الحرب أن يسكتوا ضجيج البنادق حتى يتمكنوا من الحديث والسمر مع بعضهم البعض حول الحرب التي يشعلونها بعيداً عنهم؛ يصير بوسع الجنود المتحاربين أن يتبادلوا علب السجائر والولاعات وقناني المشروبات الغازية حتى إذا توقف الكبار عن الكلام عاد هؤلاء إلى تبادل البذاءات عبر مكبرات الصوت وغرف الإذاعات المصنوعة على عجل والرصاص. هكذا حدثني صديق مثقف شارك في الحرب ثم نجا منها بروح جميلة مرحة وعائلة رفيقة ومهارات مذهلة.

كل هؤلاء يقفون في صف واحد حين يواجهون العدو الموحد فتجد سلاسل الشهداء تضمهم دون كثير تدقيق ببطاقات دخولهم الطائفية.

 ***

نشأنا نحن أطفالاً على أصداء الحرب في بيروت التي كانت تملأ صفحات التغطيات الدولية لصحيفتي “الأيام” و”الصحافة” السودانيتين، وتبدأ بها الأخبار العالمية في نشرة الساعة الثالثة بعد الظهر في راديو أم درمان ونشرة التاسعة في التلفزيون الرسمي الممل.

كانت والدتي متّعها الله بالصحة والعافية تحرص على الصاق أوراق الصحف على الحائط في المطبخ – قبل اكتشاف ما يُعرف الآن بأوراق الحائط في السودان- وكانت إحدى تسلياتنا فيه القراءة من تلك الأوراق.

كنا نقرأ الأسماء الغريبة على آذاننا حينئذ وننادي بها بعضنا بعضاً على سبيل الممازحة الياس سركيس وسليمان فرنجية وبشير الجميل وشفيق الوزان وسليم الحص ووليد جنبلاط وغيرهم، وما زلت أذكر كم كنت متشككاً في صحة ما تنقله الصحف عن اسم المبعوث الأمريكي فيليب حبيب! كيف يمكن أن يكون أمريكياً واسم أبيه حبيب؟ لحسن الحظ نجحت لاحقاً في حل هذا السؤال الشائك.

حفظنا أسماء المدن والقرى والبلدات الغريبة أيضاً: صور وطرابلس والناقورة وبرج البراجنة وجونية والنبطية وبعلبك وصبرا وشاتيلا (يا الله.. يا للذاكرة الفاجعة).

كانت الصحف تنشر صور الجثث المشوهة والتلفزيون يعيدها وليست هناك تحذيرات بمنع أحد من مشاهدتها، لكن كان أكثر ما يفجعنا -كأطفال- هو صور القتلى من الأطفال على سبيل التضامن الفطري السليم.

لم نك حينئذ ندرك أن بعض الناس يدفعون ثمن هوياتهم مبكراً ومبكراً جداً فيُقتلون دون أن يجنوا شيئاً في هذه الدنيا القصيرة الأجل من ذلك الانتماء. حين كانت آلة القتل الغربية الإسرائيلية تشرب من تلك الدماء ولا ترتوي، لم يكن الكثير من ضحاياها يدركون بأي ذنب قتلوا ولم يعرفوا أنهم كانوا يصعدون إلى ذلك المرقى البعيد إذ سيصبحون في الغد القريب لبنانيين، أي مقاومين للعدو الإسرائيلي نيابة عن الإسلام والمسيحية والعروبة والحق المطلق، وهناك من يرتعب من هذا الغد فيحاول قطع الطريق بينهم وبين المستقبل.

***

لبنان عالم كبير ومعقد وشائك ومهيب لكننا في هذا المقام/ المقال لا نستطيع إلا أن نأخذ بطرف فقط. لبنان بلد صغير المساحة يزيد قليلاً عن عشرة آلاف كيلومتر مربع يسكنه عدد محدود من السكان لكنهم قادرون على حكم لبنان والأرجنتين والبرازيل والإكوادور وبوليفيا والدومينيكان وجامايكا وكولومبيا وأورغواي وبورغواي وعشرات الولايات والمدن والبلدات ومئات الشركات الضخمة.

 لبنان البلد الصغير لم يغز العالم بالحرب والأسلحة، ولكن بالمهارة والذكاء والبراعة والعمل الخلّاق فقدّم آلاف الأثرياء الناجحين الأخيار، والفنانين ومصممي الأزياء والرياضيين والموسيقيين والعلماء والأدباء والمثقفين والمفكرين وصناع الرأي والمبدعين.

يستطيع اللبناني أن يذهب إلى أي بلد في العالم يسمح له بالدخول لينجح في اليوم التالي معتمداً على الخصائص المهيبة التي توفرها له هويته، لذلك كان من الصعب عليه أن يحصل على تلك الهوية مجاناً مثلما يحصل الآخرون على هوياتهم!

يعرف العدو ذلك جيداً ويعرف أن الخصومة مع اللبناني والاستحواذ على حقه بالقوة أمر غير ممكن، بل مستحيل، وأن الكلفة المدفوعة عن مخاصمة اللبناني لا تنتهي حتى بالتخلص منه.

***

لبنان بلد صغير على المستوى الأفقي والمنظمات السياسية والعسكرية فيه صغيرة من حيث عدد المنتسبين لكن هل يتساوى رأس برأس؟ هل كل الرؤوس سواء؟ كما تساءل من قبل أمل دنقل.

الجندي اللبناني المقاوم بالخصائص الفريدة التي منحتها له هويته يساوي جيشاً بأكمله من جيوش الدول التي كتب عنها أحمد مطر:

ليست الدولة والحاكم إلا

بئر بترول وكرشا

دولة ٌ لو مسها الكبريت.. طارت

حاكم لو مسه الدبوس.. فـشـا

هل رأيتم مثل هذا الغش.. غشـا؟

مــم نخشى؟

نملة ٌ لو عطست تكسح جيشا

وهباءٌ لو تمطى كسلاً يقلبُ عرشا!

وهكذا فإن مقاوماً واحداً بهذه الخصائص الفريدة ليس مقدوراً عليه بالرشوة والغواية والتخويف والترهيب والبيانات العسكرية المصقولة والمدافع والدبابات. مقاتلٌ بهذه الخصائص يحتاج إلى أن تحشد أمريكا وإسرائيل أحدث ما وصل إليه العقل الإجرامي الجبان من القنابل الأقل بدرجة واحدة من القنبلة النووية.

***

قبل المضي قدماً، علينا أن نُعيد الآن نيابة عن سكان العالم الحر المسالم تعريف ما ظل يوصف بالحروب العالمية تعريفها الصحيح بوصفها حروباً بين الغرب وبين الغرب. لم يكن العالم الآمن في أفريقيا وآسيا وبلاد العرب معنياً بتلك الحرب البشعة والتي وصف وقعها المفكر الأفريقي العربي البارز البروفيسور علي مزروعي بأنها لم تكن في ذهن من حضروها سوى مباراة مثل مباريات كرة القدم لا يعنيهم فيها من يكسب ومن يخسر؟

قنبلتان نوويتان فقط أطلقتا قبل ثمانية عقود لتنهي حرب العالم الغربي كله ضد العالم الغربي. والآن عشرات القنابل تلقى على حي سكني واحد. أي الطرفين قد انتصر إذن؟

إلى كم من القنابل والطائرات ستحتاج إسرائيل وأمريكا إذا أرادتا التخلص من ألف عدو لها من لبنان؟ ومن سيدفع الثمن؟

***

كانت تلك الحرب الغربية مؤامرة كونية لتحقيق مجموعة هائلة من الأهداف نأخذ من بينها هدف التخلص من اليهود بواسطة بني أوطانهم وبني جلدتهم. كانت تلك حرب حضارات وإن تخفت تحت أشكال مختلفة وهناك كتابات مقموعة عمن قتل ومن سرق ومن نهب. لم يخسر اليهود في تلك الحرب البشعة ملايين الأرواح فقط لكنهم خسروا مليارات الدولارات التي كانت مودعة في حسابات مصرفية علنية وسرية ورثها الطرف المنتصر في الحرب. هكذا اقتسم طرفا مؤامرة الحرب على اليهود الجريمة: طرف قتل وشرّد، وطرف تواطأ ونهب وسرق. بالطبع لم يكن ذلك سبب الحرب لكنه كان أحد نتائجها المدروسة.

والحرب الأمريكية الجديدة مع إسرائيل هي حرب أخرى ضد اليهود لأن حماية وطن حصري لليهود نفسها فكرة عنصرية وفق ما سمعت مرة من طارق علي المفكر اليساري البريطاني.

اجتهاد أمريكا والغرب في حماية دولة لليهود باحتلال فلسطين فكرة تحمل في داخلها عداء لليهود وتشجيعاً على العيش معاً بعيداً عن بلدانهم التقليدية التي عاشوا فيها أجيالاً وأجيالاً لأن الحضارة الغربية والثقافة الغربية ليست قادرة على التعاطي الإيجابي معهم.

تقدّم أمريكا مليارات الدولارات وتضع آلتها الحربية بدعم غربي هائل لحماية إسرائيل كيلا تعود الأرض إلى فلسطين فيعود اليهود إليها. هذه ليست فكرة جديدة فقد التقطتها من الحاخام جوناثان ساكس، المفكر والمتحدث والكاتب البريطاني الراحل والذي أنصح العرب والمسلمين ممن لم تسنح لهم الفرصة لقراءته أن يهتموا به.

قال جوناثان ساكس مرة وهو الحاخام الأكبر في بريطانيا في محاضرة له عام ٢٠١٢م “إننا نخسر اليهود في بريطانيا. في العام ١٩٤٥م كان هناك حوالي ٤٥٠ ألف يهودي، وحين توليت منصب الحاخام قبل ٢١ عاماً كان اليهود في بريطانيا حوالي ٣٠٠ ألف فقط”

وفي نفس المحاضرة قال: “على مدار التاريخ الطويل، أصر اليهود فقط على الحق في أن يكونوا مختلفين، وعلى واجب أن يكونوا مختلفين وعلى كرامة الاختلاف. طوال تاريخ البشرية، رفض اليهود – فقط – بشكل متصل الاندماج في الثقافة السائدة أو التحول إلى الإيمان (الدين) السائد”.

هذا ما يجعل الاختلاف بين الغرب واليهود أعمق وأكبر من أن يلتئم، وهذا ما يجعل الحضارة الغربية غير مستعدة لإبقائهم وسطها وهي غير قادرة على ابتلاعهم وغير موقنة بسلامتها من قدرتهم على ابتلاعها لذا فإنها تدفع ثمن ابقائهم بعيداً عنها.

***

علاقتنا في السودان مع لبنان ظلت حيّة ودافئة وساخنة لكنها من بعيد فقلة المصالح السياسية والاقتصادية قلّلت من التواصل المباشر بين الشعبين لكن التواصل غير المباشر ظلّ حميماً من خلال القراءة.. وهذا عالم وحده يصلح لكتاب كامل.

علاقتنا في مدينتي الصغيرة مع بيروت بدأت في العام ١٩٨٢م حين استقبلنا قوافل القادمين منها بعد خروج قوات منظمة التحرير الفلسطينية منها. زارتنا بيروت لكنني لم أزرها إلا في مفتتح العام ٢٠٢٣م بتشجيع من الصديق العزيز والرفيق المناضل الكاتب الصحافي حسين أيوب.

تعرفت على الرفيق حسين من خلال الكتابة لكنني اكتشفت اننا نحمل تاريخاً متشابهاً في العمل الثوري والصحفي وفي تقارب السن والكتابة لكن حسين الإنسان يتفوق على من سواه. حسين دفع ثمن هويته اللبنانية أكثر من مرة وكان الثمن في كل مرة غالياً وعزيزاً وكبيراً فهو المناضل بسيفه ثم بقلمه، وهو ابن الشهيد المناضل علي أيوب الذي حمل بندقيته في العام ١٩٧٢م ووقف أمام الدبابات الإسرائيلية التي اجتاحت حدود الجنوب اللبناني ووجه نحوها رصاصاته الفصيحة وقال كلمته بوضوح ثم ارتقى شهيداً كأسمى ما يكون الموقف.

قدّم علي أيوب المناضل اليساري الشيوعي روحه فداء لوطنه وقوميته وفكرته وهو في السابعة والأربعين فخلده الشاعر:

أمضيت عمرك عاملاً خلاقاً / وقضيت نحبك صائراً عملاقا

ونقشت في صخر الخلود عبارة/ ستظل تسطع في العلا إشراقا

أنا لا أصدق أن أيوب انطوى/ أيوب باق في السما خفاقا

وبعد ٣٤ عاماً على استشهاد الأب، استشهدت الأم أرملة الشهيد بيد ذات العدو الإسرائيلي الجبان وتحت سمع وبصر حلفائه العرب والغربيين.

وفي مناسبة رحيلها الباهي، كتب الكاتب اللبناني الكبير نصري الصايغ مواسياً ابنها حسين:

“دلني على عنب الكلام، لأقطف دمعتين، وأيتم انتظار الركام. هي هناك. أم تغير عنوانها. لم تبدل حجها؟ هي وفية لقبر الشهيد. كان الحجيج بليغاً، فخطت إليه. ومن فرط الدعاء، صلت على دمها ونامت”.

***

حين دخلت على بيروت للمرة الأولى كنت أعرفها. كنت أعرف طريقي من المطار إلى الفندق (اخترت فندق الكومودور لأجلس في الردهات التي كان يجلس فيها أبو عمار وعلي حسن سلامة وزعماء الطوائف في عصر ما قبل اجتياح العام 1982 م) وكنت متحمساً لزيارة أماكن محددة: الحمرا، الضاحية الجنوبية، صبرا وشاتيلا، مقهى البريستول، مسرح المدينة، ميناء بيروت المحترق، صحف “السفير” و”النهار” و”الأخبار”، والشاعر بول شاوول.

إقرأ على موقع 180  لبنان كان يُقرض كندا والهند والبنك الدولي.. هل تُصدّقون؟

سائق التاكسي لم يساومني كثيراً من المطار فقد شعر بأنني أعرف ما أريد.. قلت له إن الأجرة هكذا وأنا سأدفع كذا لأنني أريد المرور بصرافة لتبديل النقود ورؤية شارع الحمرا. قال لي “إدفع اللي بدك إياه”.. ودهشت من طيب الخاطر هذا والرضا. في رحلتي التالية وصلت إلى المطار واصطف سائقو التاكسي لكنني رأيت حيدر الذي صرت زبونه فقلت لهم أنا سأركب مع حيدر. تبادلنا بعض الأحاديث وأوصلني إلى ذات الفندق مع تأكيد بالعودة إليّ في الموعد المحدد لأخذي إلى المطار مرة أخرى.

المطار أنيق وجميل وأسعار السوق الحرة منخفضة بالمقارنة مع مطارات أخرى عبرتها في طريقي لكن هناك مظاهر عسكرية لافتة للانتباه. الخدمة في طيران الشرق الأوسط رائعة والطاقم في غاية التعاون والبهاء. السفر إلى بيروت برغم نشرات الأخبار غير المشجعة مدعاة للفرح، لذلك لا يمكنك اغفال رؤية الفرح في عيون القادمين.

بيروت منذ سنوات تخضع لحصار قاس ولئيم من الدول العربية على الخليج الفارسي وإسرائيل والغرب. تراها في الليل مظلمة بسبب عدم قدرة الدولة على توفير الكهرباء. جهاز الدولة متعطل والموظفون يذهبون إلى الدوام مرة في الأسبوع لتلبية حاجات المواطنين. المصارف مغلقة والاستثمارات الأجنبية انسحبت والمحلية غلت يدها بانتظار الحرب الوشيكة.

شارع الحمرا كان خالياً من المارة بعد منتصف الليل، وأنا بلحيتي البيضاء أليق به وأستطيع التجول فيه بلا حياء فهو لم يعد بسمته الشبابية القديمة. رأيت مجموعة من السكارى الخليجيين بملابسهم المميزة وهم يصرخون في الشوارع مرحاً ليس بفعل المرح المتوفر في الشارع، ولكن بفعل المدن الكئيبة التي أتوا منها.

في اليوم التالي، تجولتُ في كل مكان والتقطت عشرات الصور وزرت الكثير من المقاهي والأمكنة. لفت نظري أنه بُرغم الانهيار الاقتصادي البين، لا يوجد متسولون في الشوارع ولا يوجد حذر من اللصوص. لا توجد شرطة والجيش هو الذي يحفظ الأمن في المدينة عند الضرورة ولا من ضرورة بينما تُركت مهمة حماية الحدود للمقاومة. هناك صناديق زجاحية في الشوارع لتلقي التبرعات ولم أسأل عمن يقوم بتفريغها وجمع تبرعاتها وتوزيعها، لكن اللبنانيين الذين نابوا عن الدولة في القيام بمهامها في كل شيء من توفير الكهرباء إلى حفظ الأمن وجمع النفايات وضبط سعر العملة -قدر المستطاع- لن يعجزهم القيام بواجب الرعاية الاجتماعية للضعفاء والمعوزين.

ذهبتُ إلى المقهى الذي يجلس فيه يومياً الشاعر والمسرحي والمترجم وأحد الأيقونات الأدبية البيروتية اللبنانية بول شاوول وضبطته وهو لا يدخن! سلّمت عليه وقدّمت نفسي فرحب بي بأريحية وود كبيرين وسألني عن الأحوال في السودان وحركة الشعر والنقد والمسرح فخجلت!

سألني بشغف وكيف هو صديقي علي مهدي؟ لم يعد يأتي إلينا في بيروت لعله بخير ويواصل نشاطه المسرحي والثقافي فقلت له هو بخير وقد احتفلنا معه مؤخراً بعيد ميلاده. أعد شاوول المسرح للفكاهة وسألني عيد ميلاده الكم؟ فقلت كان احتفالاً بهياً بعيد ميلاده السبعين. قال لي لما تشوفه قل له سبعين كنتها زمان.. هلق إنت قرّبت على المائة، وضحكنا معاً بمرح حقيقي. نسأل الله أن يبارك في عمر المسرحي اللبناني والمسرحي السوداني وأن يحفظ الوداد بينهما.

***

في المدينة تجولت ورأيت منازل كبار الأعيان وملوك الطوائف وشوارعها المغلقة ومظاهر التأمين اللافتة للنظر فيها. منزل الرئيس نبيه بري في عين التينة ورأيت صوره الكبيرة الحجم القليلة العدد على بعض بنايات الضاحية؛ بناية الرئيس نجيب ميقاتي والعين التي تقي من الحسد والعين والمرسومة بعناية أعلاها؛ منزل الرئيس الراحل رفيق الحريري المظلم في قريطم الذي يعكس تراجع آل الحريري في المشهد السياسي المحلي.

في الضاحية الجنوبية (من خارجها بالطبع)، لفت نظري عدم وجود صور لسماحة السيد حسن نصرالله لكن كانت الصور لبري -كما أسلفنا- وللشهيد قاسم سليماني وصورة كبيرة للحاج رضوان (عماد مغنية).

إذا أطللت على الساحة اللبنانية من أي زاوية ستدرك أن حرب اللبنانيين مع عدوهم ليست طائفية ولا أيديولوجية؛ لذلك يقف الشيوعيون وأنصار حزب الله والقوميون والناصريون والبعثيون وحركة أمل وتيار المردة وغيرهم على خط الخصومة مع إسرائيل فيما تتراجع خصوماتهم البينية إلى الوراء.

***

لن تستطيع إسرائيل وأمريكا الغاء لبنان من الوجود ولا الغاء وجود اللبنانيين ومثلما عجز العالم الغربي عن التخلص من اليهود إذ ظن بأنهم قلة فسيعجز عن التخلص من اللبنانيين. منذ العام ١٩٤٨م وإسرائيل مسنودة بالغرب تقوم بالمجازر وحرق القرى أملاً في انهاء المقاومة لكن في كل مرة ينبت تيار جديد من المؤمنين بالنصر وهم أشد غبناً، وغضباً، وحقداً، وشراسة.

حين قتلت إسرائيل الزعيم الأسبق لحزب الله السيد عباس الموسوي في العام ١٩٩٢م أعلن بعض محلليها السياسيين أن المعركة قد حسمت مع حزب الله، ولم يكن في ظنهم أنهم يبدأون عصراً جديداً من الصراع الذي امتد لـ٣٢ عاماً كانت هي الأعنف على الدولة العبرية منذ تأسيسها على أرض فلسطين.

الأسابيع الماضية، استخدمت إسرائيل آلة الحرب المشتركة بينها وبين الغرب لقتل مجموعة من خصومها العلنيين الذين ظلت تضعهم على لوائح المطلوبين لديها منذ عقود، وظلت مجموعة من الدول العربية تعاونهم بإعداد مسرح الجريمة عبر حزمة من الضغوط الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية بغية تليين مقاومة الخصوم.

من الصعب جداً القول بأن استراتيجية الضغط والتليين العربية لم تنجح وإن كان من الصعب أيضاً الوصول إلى نتائج هذا الضغط والتليين، وهل حصل العدو على مبتغاه عبرها أم إنه اضطر إلى العمل في مسارات متوازية لا يعرف أيها أصاب النجاح وأيها الذي فشل؟

المعركة الغربية ضد لبنان لم تبدأ اليوم ولن تنته اليوم مثلما ان المعركة الغربية ضد اليهود في إسرائيل ممتدة منذ بضعة ألف عام، ولئن كان البروفيسور هنتنغتون قد توقع أن الصدامات المقبلة في العالم هي صدامات بين الحضارات فإنه ربما كان يشير أيضاً إلى أن الصدامات الحقيقية السابقة كانت أيضاً صدامات حضارات بأشكال مختلفة.

الحرب ضد الحضارات لا تشمل بالتأكيد دول الخليج العربية التي أضحت اليوم بفضل توافر الموارد النفطية وقلة عدد السكان الأكثر نفوذاً في العالم العربي. نجحت الدول الخليجية في تدمير فكرة العمل العربي المشترك، وأنهت المؤسسات العربية المشتركة وأهمها الجامعة العربية وساهمت بفضل الموارد الوافرة لإعلامها التلفزيوني في تصوير فكرة القومية العربية التي ألهمت المناضلين العرب طوال النصف الثاني من القرن الماضي كمقابل للقومية اليهودية في مؤامرة خسيسة تتجاهل حقائق التاريخ كله.

بموجب هذا النشاط الكبير بقيت الفكرة العربية حية فقط في سوريا ولبنان وفلسطين وبعض العراق ومصر والجزائر واليمن، لكن هذا المحور قابل لأن يتطور إلى فكرة أكبر وهي فكرة المحور الإسلامي، وهي ذات الفكرة التي ترتعب من مجرد تداولها دول الخليج.

وفقاً لهنتنغتون فإن الصراع المقبل للغرب سيكون ضد المحور الحضاري الإسلامي وكلما اجتهد الغرب وأعوانه في تفكيك ذلك المحور كلما تعجلوا صناعته وتقويته.

غزت أمريكا العراق لمحاصرة إيران وتهديد سوريا فصنعت حلفاً لا يهزم من إيران والعراق وسوريا ولبنان وروسيا وربما الصين!

وغزت أفغانستان لمحاربة طالبان فصنعت طالبان جديدة أقوى تسليحاً، وأوفر مالاً، وأذكى في التعامل مع المجتمع الدولي.

وغزت دول الخليج اليمن لصناعة حزام سني على البحر الأحمر فصنعت حزاماً ليس شيعياً، بل اسلامياً يهددها كلها بالانفجار، والآن تجهز خزائنها لدفع ثمن ما خربته في سوريا واليمن.

وغزا تحالف خليجي عربي غربي السودان لمحاربة الإسلاميين، وسيصنع تياراً إسلامياً أكثر قدرة على البقاء في السلطة لعقود قادمة سواء بالقوة أو بالوسائل الديموقراطية.

في كل مرة يحاول الغرب شيئاً فيحصل على عكس النتائج المرجوة منها لأن للكون رب يحميه ويحمي الضحايا فيه من اجرام المجرمين.

هنتنغتون يقول مثل ابن خلدون وإن كان بعبارة أخرى إن النظم السياسية في الدول العربية على خليج فارس قد وصلت إلى نهاياتها. لم يعد الآن بوسع هذه الأنظمة أن تستمر كثيراً في تأجيل مواجهتها مع شعوبها، وليس بوسعها الاستمرار في القمع وشراء الذمم وتوفير الرشا الاجتماعية إلى الأبد.

الطبقة الوسطى التي تزايدت مطامعها في الحيازات التجارية واضطرت زعماء المشيخات إلى التنازل شيئاً فشيئاً عن احتكاراتهم التاريخية للثروات، ستضطر زعماء هذه المشيخات قريباً إلى التنازل عن احتكارها المطلق للسلطة وبما أن السلطة لا تقبل القسمة فإن أي تنازل سيتبعه استحقاق للمحاسبة والمساءلة وارتقاء بمستوى حقوق الإنسان.

المشيخات التي تظن الآن أنها تتلاعب بالمواطن وتغري النساء بالمزيد من المكاسب وتلبية الحقوق ستضطر برضاها أو تحت الضغط أن توفر حزمة من الحقوق للرجال أيضاً، وكلما أعطت فرداً بعض الحق ظهر أفراد من القبائل الصامتة ليطالبون بالمساواة.

تحاول أنظمة المشيخات العربية تأجيل مواجهتها مع شعوبها بإنهاء العقد القديم وصناعة انقطاع ثقافي مع الماضي، واللحاق بالمحور الحضاري الغربي الذي تمثله إسرائيل في المنطقة وحليفتها ـ عدوتها أمريكا.

وتنسى المشيخات العربية أن شروط اللحاق بالمحاور الحضارية هي شروط حضارية تعتمد على القدرة على الاسهام في الفكر والعلم والمعرفة والجريمة وليس بحزم الدولارات وصفائح النفط.

قبل ما يزيد عن الأربعة عقود تساءل محمود درويش:

هل في البدء كان النفطُ

أم في البدء كان السخط؟

وتكفل الزمن الطويل بالإجابة أنه في البدء كانت الكلمة وكانت الفكرة ولم يكن النفط.

 كم مثقف، أو مفكر، أو مبدع، أو كاتب، أو ناقد، أو مترجم أو صحفي أو عالم أو تستطيع الدول النفطية أن تُقدّمه للمساهمة في الحضارة التي تنتوي الالتحاق بركبها دون تأهيل؟

ما زالت هذه الدول تستورد جنرالات الجيش وحراس الشيوخ والأطباء والمدرسين والعلماء والمثقفين ومحللي المعلومات والمغنين والراقصات والممثلين الهزليين ولاعبي كرة القدم، فكيف بوسعهم تحقيق انتماء إلى عالم مؤسس أصلاً على القوة والجودة والأفكار؟

هل المشيخات العربية مستعدة لدفع الثمن الباهظ عن أي جريمة ترتكبها أو تشارك في ارتكابها أو تتواطأ مع المجرم في تنفيذها؟

يجلس حكام المشيخات العربية المسلمة على موائدهم المتخمة بالثريد، وأمام كل واحد منهم بئر نفط ودفتر شيكات ليدفع للغرب ثمن دم شقيقه المسلم الباسل في لبنان وسوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان وفي فلسطين.

يصفقون للصواريخ الأمريكية ـ الإسرائيلية ويطالبون بالرد على آلة الحرب البشعة ليستمتعوا هم برؤية الحرائق والجثث وبكاء الثكالى وجراح الأطفال الميتمين.

العقلاء يدركون أنه ينبغي ألا يمنح المسلمون قرار بدء المعركة واستمراها ونهايتها لعدوهم، وليس بالضرورة أن تقوم إيران والمقاومة اللبنانية بإرضاء الخونة من الجمهور العربي الذي يتفرج على المعركة كأنها مباراة لكرة القدم بينما حكامهم يمنعون حتى مراسم العزاء على منصات التواصل الإجتماعي في شهدائهم. في الكثير من الأحيان يكون الاحتفاظ بحق الرد أكثر استنزافاً للعدو، وأكثر نكاية بالخونة من الرد المباشر.

الحرب ليست ضربة بضربة وإنما هي القدرة على تبادل الأذى وقياس الألم، وما تحتمله إيران ولبنان وأمريكا وإسرائيل متباين وبعض المشيخات العربية لا تحتمل من الأذى ما يسببه خرطوم ممتلىء بالماء يدلق على شوارعها أو صرخة عالية في أذنها ناهيك عن الحمم التي تتساقط على الضحايا في البلدان الأخرى.

***

أسهم العرب في كسر ساقي الدولة اللبنانية ودمروا مؤسساتها بقسوة لا مثيل لها لكنهم لن ينجحوا في تركيع الشعب اللبناني مثلما عجزوا عن تركيع الشعوب العراقية والسورية والليبية واليمنية والسودانية وستنتصر هذه الشعوب قبل ان تتفرغ المشيخات الخليجية للحرب مع مصر وهي المعركة الأخيرة المرسومة لها قبل أن يلتهمها الحليف الغربي، وحينها لن تجد من يمد لها يد العون فقد كسرت ببلاهتها عناصر حمايتها الثقافية والحضارية والدينية.

لن يهزم النفط الفكرة ولن يهزم العالقون بأثواب المركز الحضاري مركزهم، ولن تتحول مشيخات الخليج التي ينظر إليها الغرب على أنها مجرد خزائن ومحطات وقود إلى دول ذات شوكة دون استئذان شعوبها ومساهماتهم فلا داعي للهلع كما تقول الشاعرة اللبنانية أغنار عواضة:

لا داعي للهلع

سوف تنمو أصص الورد

مثل فكرة قديمة سديدة

على دول الخليج الآن وليس غداً إصلاح ما صنعته بحروبها الخاسرة، ورفع أيديها حتى لا تحيط أنظمتها وشعوبها الطيبة المرحة المحبة للسلام والرفاهية بحزام من الأعداء المتلهفين للانتقام.

اللهم إن مسلمي العالم قد أودعوك شهداءهم الأقمار العظام في بيروت بقيادة إمام شهداء العصر وسيدهم سماحة السيد حسن نصرالله ورفاقه الأبرار فأكرم وفادتهم مع الشهداء والنبيين والصديقين، اللهم أشفع في أهلهم وأنزل السكينة والصبر والجلد والصمود على قلوبهم.

إننا على يقين وفقاً لأغنار عواضة – مرة أخرى – بأنه:

تعود الأرواح التي تخرج عنوة

إلى الحياة

(*) العنوان مستلهم من قصيدة لمحمود درويش فيها يكتب:

 قَمَرٌ على بعلبكْ

ودمٌ على بيروتْ

يا حلو، من صَبَّكْ

فرساً من الياقوتْ

قل لي، ومن كَبَّكْ

نهرين في تابوتْ

يا ليت لي قلبكْ

لأموت حين أموتْ

Print Friendly, PDF & Email
محمد عثمان ابراهيم

كاتب وصحفي سوداني

Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  الحُكّام للشعب: العَتمْ على قد المحبّة