إن تراجع وتيرة الغارات وعددها يعود إلى استنفاذ الجيش “الإسرائيلي” بنك أهدافه على امتداد الجغرافية اللبنانية، وهي التي كانت تتلخص بتصفية قيادات الصف الأول والثاني من قادة المقاومة، وضرب كل ما هو معروف لديه من مواقع يعتقد أنها مخصصة لتخزين الأسلحة والذخائر والصواريخ، ثم انتقل إلى ما يسميه “المرحلة الثانية” لهذه الغارات، وهي سياسة القنص الجوي لأي مسؤول في المقاومة يستطيع إليه سبيلاً، مع الاستمرار في شنّ الغارات على أهداف مدنية هنا وهناك، من أقصى شمال البقاع إلى أقصى جنوب لبنان، مروراً بالضاحية الجنوبية لبيروت، وصولاً إلى بيروت نفسها، بهدف مواصلة الضغط قدر الإمكان على البيئة الحاضنة والداعمة وتأليبها ضد المقاومة. وفي هذه السياسة يتبع “الاسرائيلي” المنطق نفسه الذي استخدمه في قطاع غزة لضرب الأهداف المدنية من تجمعات سكانية ومستشفيات ومراكز دفاع مدني وحتى مراكز ايواء تابعة لمنظمة “اليونيسيف”. ويحاول العدو بضرباته هذه في الجنوب والبقاع والضاحية الإيحاء بأنه يستهدف قادة مقاومين أو مخازن أسلحة، فيما حقيقة الأمر غير ذلك تماماً. والدليل الأخير استهداف كنيسة بلدة دردغيا (قضاء صور) حيث يتخد الدفاع المدني الرسمي مقراً له عند أطراف هذا المعلم الديني، ما أدى إلى استشهاد كل الفريق المسعف الذي كان متواجداً هناك.
استهداف “اليونيفيل”
أما في المواجهات التي تجري على الجبهة الجنوبية، ومع التعثر الواضح لما أسماه “التوغل البرّي المحدود”، بدأ الجيش “الإسرائيلي” التضييق على قوات “اليونيفيل” والإعتداء على مراكزها في الناقورة ويارون ومارون الراس وبليدا، بهدف إبعادها عسكرياً عن مسرح العمليات كمرحلة أولى، تمهيداً لممارسة المزيد من الضغط من أجل استبدال هذه القوات في مرحلة لاحقة بقوات متعددة الجنسيات تأتي من دول تعتبرها “إسرائيل” صديقة أو حليفة لها وحتماً تحت “الفصل السابع”.
وقد أدت سياسة الاعتداءات هذه، خلال الأيام الماضية، إلى إصابة أربعة من جنود “اليونيفيل” بجروح (اثنان من الكتيبة الاندونيسية واثنان من الكتيبة السيرلانكية)، بالإضافة إلى تدمير أبراج وكاميرات المراقبة والأضواء الكاشفة في المواقع المذكورة أعلاه.
وكان الجيش “الإسرائيلي” قد بدأ اعتداءاته ضد “اليونيفيل” بالطلب من قائدها اللواء آلوردو لاثارو (إسباني الجنسية)، وبشكل رسمي، الإنسحاب خمسة كيلومترات شمالاً. رفض لاثارو الطلب وأصر على بقاء قواته في مواقعها، لكنه لم يستخدم الحق المُعطى لـ”اليونيفيل” من مجلس الأمن الدولي في القرار 1701 باستخدام السلاح فقط في حالة الدفاع عن النفس. وهنا يطرح السؤال المشروع ماذا كانت قوات “اليونيفيل” لتفعل لو كانت المقاومة هي من ارتكبت الاعتداءات عليها؟
تجدر الإشارة هنا إلى أن أمر إعادة انتشار لقوات “اليونيفيل” في لبنان، أو استبدالها بقوات متعددة الجنسية، يتطلب توافق/ وموافقة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي. وفي ظلّ الوضع الراهن، فإن روسيا والصين بالتأكيد لن تقدما هكذا “هدية” مجانية لواشنطن وتل أبيب، ما يجعل الكلام حول هكذا أمر بلا جدوى.
غطاء أميركي متين
هنا يبدو واضحاً أن الأداء “الإسرائيلي” يحظى بغطاء أميركي كامل في ظل انشغال الولايات المتحدة بانتخاباتها الرئاسية المقررة في 5 تشرين الثاني/نوفمبر المقبل. وحتى ذلك التاريخ، يبدو أن لا تغيير في الدعم الأميركي لـ”إسرائيل”، مع وضع بعض الضوابط التي تتمثل باشهار البطاقة الأميركية الحمراء ضد أي خطوة “إسرائيلية” تستهدف البنى التحتية أو مؤسسات الدولة اللبنانية. والهدف الأميركي من ذلك هو أولاً للحؤول دون رصّ صفوف اللبنانيين من كل الطوائف خلف المقاومة. وثانياً لاستخدام عملية إعادة البناء كـ”ورقة تفاوضية” لاحقاً. فالضرر المرتقب الذي يمكن أن يطال البنى التحتية من شأنه أن يؤثر على كل النسيج الطائفي اللبناني ما يستدعي دعم الدول الحليفة للولايات المتحدة لعملية إعادة البناء بعد الحرب كي لا تستفرد الدول الحليفة للمقاومة بهذه العملية، تماماً كما حصل بعد عدوان تموز/يوليو 2006. وهذا ما لا تريده واشنطن بطبيعة الحال.
أما من جانب المقاومة، فقد بدا واضحاً أن تركيزها الراهن هو على الميدان، وذلك عبرإصرارها على منع أي توغل برّي بكل ما لديها من قوة وقدرات نارية وتكتيكات عسكرية من جهة. ومن جهة ثانية، تكثيف مواصلة إطلاق الصواريخ (واستخدام صواريخ جديدة وثقيلة) على شمال فلسطين المحتلة إمتداداً إلى حيفا وجوارها وحتى تل أبيب.
وكان لافتاً للإنتباه، أمس (الجمعة) إطلالة مسؤول العلاقات الإعلامية في حزب الله الحاج محمد عفيف من عند أطراف الضاحية الجنوبية لبيروت، غداة استهداف العاصمة بعنوان وفيق صفا أو غيره من قيادات المقاومة، وقال عفيف مخاطباً العدو الإسرائيلي: “لم ترَ بعد إلا القليل من ضرباتنا”، وشدد على أن المقاومة بخير، “وتدير حقل رمايتها وتوقيت صلياتها بما يتناسب مع قراءتها للميدان وظروفه الموضوعية، ومخزونها الاستراتيجي بخير”. وأكد أن هناك الآلاف من المقاتلين الاستشهاديين “في ذروة الجهوزية وأعلى درجات الاستعداد دفاعًا عن لبنان، وجاهزون للقتال الضروس ثأرًا لدم شهيدنا الأقدس”.
وأضاف “برغم استقدامه المزيد من الفرق والألوية ومن بينها قوات النخبة ما زال العدو عاجزاً عن التقدم برًا إلا في حالات محددة، ولا تزال دباباته تتموضع في الخلف ولا تجرؤ على التقدّم، وإذا سمعتم أو شاهدتم بعض جنود العدو في هذه القرية أو تلك أو صورا قديمة أو جديدة عن هذا النفق أو ذاك فلا تقلقوا ولا تضعف معنوياتكم، ذلك أن المقاومة لن تخوض دفاعا موضعياً ثابتاً بل دفاعًا مرناً متوافقًا مع متطلبات الجبهة، ومع ظروف كل بقعة فيها، تنصب له الكمائن وتشرك العبوات وتنفذ الالتفافات وتتنقل بمرونة عالية من الدفاع إلى الهجوم وتلحق به أفدح الخسائر وقد بدأ بالاعتراف بها تدريجياً ودفعته مراراً وتكراراً إلى الانكفاء وإعادة تقييم وضع الجبهة الذي خالف حساباته وتقديراته”.
الميدان للمقاومة
ومن خلال قراءة كلام عفيف ومعطيات الميدان في هذه الأيام، يُمكن التأكيد أن المقاومة تمكَّنت من استيعاب الضربات القاسية التي تعرضت لها خلال الأسابيع الماضية، من هجمات “البيجر” والأجهزة اللاسلكية، إلى اغتيال عدد من قادتها وصولاً إلى تدمير معظم أحياء الضاحية الجنوبية، كما أنها انتقلت بمعظم وحداتها وكوادرها للعمل السرّي “تحت الأرض”، وباتت تركز على إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في صفوف العدو، مع تجنبها استهداف البنى التحتية والأهداف المدنية في فلسطين المحتلة كي لا تعطي لـ”إسرائيل” الذريعة للرد بالمثل حتى ولو أن الأخيرة لا تحتاج إلى ذريعة ما لفعل أي شيء.
في مقابل ذلك، فان تردد “إسرائيل” بتوجيه ضربة لإيران رداً على الهجمات الصاروخية قبل أسبوعين تقريباً نابع من أمرين:
الأول؛ أن واشنطن لا تريد ضرب أية منشآت نفطية أو نووية إيرانية أو حتى أهداف مدنية لأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى رد إيراني مماثل لن تقف حدوده عند المنشآت النفطية والنووية “الإسرائيلية”، بل سيطال أيضاً مواقع وقواعد في منطقة الخليج، ما سيرفع أسعار النفط إلى مستويات خيالية، فضلاً عن قطع سلاسل التوريد والمعابر وأبرزها مضيق هرمز.
والثاني؛ أن “إسرائيل” لا تريد توجيه ضربة غير إستراتيجية، لأن من شأن ذلك أن يُظهرها في موقع الضعف في مواجهة إيران.
ومن المؤكد أيضاً أن إيران لن تسكت على أية محاولة لاستهداف أمنها القومي مهما كانت الأكلاف، لأن ذلك سيؤدي إلى إضعافها في كل منطقة الشرق الأوسط.
ختاماً، يمكن القول إن العين تبقى على الميدان بمعزل عن حجم التضحيات التي تقدمها المقاومة والشعب اللبناني (خصوصاً البيئة الحاضنة)، لا سيما أن لا كلام جدياً عن وقف لإطلاق النار في المرحلة الراهنة، على الأقل إلى حين انتهاء الانتخابات الرئاسية الأميركية.