معنى أن تعود المقاومة إلى.. الجذور

"أبي كان يقول، إنّ الضّربات التي لا تقصم ظهرك.. تُقوّيك". كلمة منسوبة لشيخ المجاهدين عمر المختار.

هناك مقاربتان تحكمان نظرة البشريّة حيال العالم وأحداثه. الأولى، ماديّة تجعل الحسابات الماديّة ممرًا إلزاميًا في التعامل مع المعادلات الدنيوية: (الإنسان، الطبيعة، الأرض، الحروب، الخوف والتفوق إلخ). الثانية، غيبيّة لا تُلغي تأثير المادة بشكل قطعيّ، لكنّها تتعامل معها كأداة بيد الله -الغيب- يُقلّبها حيث شاء وأين شاء ولأي مصلحة وحكمة شاء.
النظريّة الأولى تقول بأن دولة مقتدرة ومتجبرّة كإسرائيل، مدعومة من أعظم إمبراطوريّة عرفتها البشريّة منذ وجودها، مع توابعها من مراكز القوّة الغربيّة، مُدجّجة بأفتك الأسلحة وأمضاها، وبخزينة تكاد لا تنضب، من المنطقي وفق معادلات المادّة أن تهزم حركات مقاومة لا يمكن مقارنة قوّتها بقوّة دولة الإحتلال. فكيف الحال، وقد سدّدت تلك الدّولة ضرباتٍ متتالية لهذه المقاومة بدءًا بجسمها المقاتل (لعلّها الخسارة الأكبر في تاريخ الصراع) وصولًا إلى قتل قادتها الكبار وانتهاءً برمزها وقائدها التاريخي الشهيد السيد حسن نصرالله.
هذه ضربات كافية لأن تهز دولًا قويّة وكبيرة وتزلزل ركائزها، لو أنّها اتكأت على معادلات القوّة المادية، غير أنّ ارتكاز هذه المقاومة على البعد الغيبي، كفيلٌ ليس بحمايتها من السقوط فقط، بل بتحويل هذه التحديات العظيمة والضربات الموجعة والمؤلمة إلى فرصة استثنائية للنهوض والإنتصار.

إنّ العودة إلى الجذور بشكلها الرمزيّ أيضًا، تعني تمدّدك وتعمّقك في الأرض أكثر بين ناسك وأهلك وبيئتك، “هل يمكن إزالة هذا الوجود؟ إنّه وجودٌ له جذورٌ مهمّة وعميقة داخل هذا المجتمع، لا يمكن إنهاؤه! هذه مسألةٌ محسومة”، كما يؤكد “قائد الإنتصارين” الشهيد عماد مغنيّة

منطق القوّة ومنطق الحقّ

في آخر لقاء مع مجموعة من الأصدقاء في قلب الضاحية الجنوبية، قبل انفلات آلة الحرب الصهيونيّة المجنونة بأيّام، طرح أحدهم فكرة تستحق النقاش، وهي الفارق بين منطق الحقّ ومنطق القوّة. أي أنّ حركات المقاومة – كحزب الله – يجب أن يقوم خطابها ويستند على منطق الحقّ: حقّ رفض الظلم والهيمنة والإستعمار، حق المقاومة والجهاد، حقّ الحريّة والإستقلال.

غير أنّ ما حدث منذ سنوات عديدة، هو أنّ منطق القوّة أصبح أكثر حضورًا وسيطرة على خطاب المقاومة الرسمي والشعبي معًا. قد يكون ذلك مبرّرًا بفعل الإنتصارات المتلاحقة التي حققتها المقاومة بدءًا من اندحار العدوّ الإسرائيلي عام ٢٠٠٠ وصولًا إلى “حرب لبنان الثانية” عام ٢٠٠٦ وصولًا للحرب المريرة في سوريا التي أسقطت مشروع الغرب بتغيير موقع دمشق الجيوسياسي.
هذا المنطق المستجد، خلق تصوّرًا جديدًا لمفهوم النّصر، وتوقعاتٍ عاليةً باتت تستصعب رؤية التضحيات الجسيمة والكبيرة، ما جعل قسمًا من الناس “حين ينظرون إلى مجتمعنا وهو يعاني من ويلات الحرب ويتكبد الخسائر الكبيرة في عمرانه وأبنيته ويُقتل من أبنائه عددٌ كبير مقارنةً بالمجتمعات الأخرى، فإنّهم يتصوّرون مباشرةً أنّ هذا المجتمع سيُعاني في المستقبل كثيرًا ويكدح وينهار ويتخلف عن ركب التقدم والازدهار، بينما المجتمعات الأخرى سوف تسبقه”، كما يشرح المفكر السيد عباس نور الدين.

ويُضيف مؤلف كتاب “على طريق بناء المجتمع التقدميّ” أنّ ما يُحدّد مسار أي مجتمع ومصيره هي جهوده التقدّمية الإيجابية، “فقياس هذه الجهود لا يكون على أساس الكم فحسب، بل على أساس الجهد النوعي الذي يبذله أفراده وما يقدّمونه له من إمكانات التقدّم ــ بالطبع، هذا فيما لو اعتبرنا أنّ المجتمعات تسلك مسارًا واحدًا”.
وهكذا يُساهم قتل العدو للقادة “في تحطيم معنويات الشعوب والحركات المقاومة ويهدف إلى إبطاء وعرقلة حركة القيادة التي يُفترض أن تتصدى لإدارة الشؤون العامة للمجتمع”، إستنادًا لنظرة العدو الماديّة البحتة، لكنّها بالنسبة للمقاومين الذين يستندون على مفهوم إلهي مغايرٍ لقواعد العدو، “يؤدي تصاعد قتل قادتهم إلى تصفية صفوفهم بطريقة لا يحلم بها أحد. يزول حب الرئاسة الذي يُعدّ أكبر عدوٍّ للحركات الجهاديّة التي تعتمد كثيرًا على المعنويات والإيمان”، وفق توصيف نور الدين.
علامات التحول

ما يهم في هذه المعركة، هو أن تُدرك الأجيال الجديدة أوّلًا، بأنّ العدوّ الأوحد والحقيقي لأبناء هذه الأرض هو الإستكبار الغربي بقيادة الولايات المتحدّة الأميركية، وقاعدتها العسكريّة المسماة إسرائيل، وأنّ قضيّة فلسطين هي الشّعار الرّمزي لمقاومتنا في مواجهة الإبادة المنظمة التي يمارسها المستكبرون، وأنّ جميع الحروب التي خيضت في منطقتنا، من سوريا إلى العراق واليمن وغيرها من الدول، كانت تهدف، في ما تهدف، إلى اصطناع أعداء وهميين للأمة تحت مسمياتٍ طائفيّة ومذهبيّة وإثنيّة، وأنّ الدماء التي سُفكت فيها كان بإمكانها ـ لو وُجهت نحو فلسطين ـ بأن تُحرّرها وتزيل ثكنة الإستعمار المتقدمة.
بذلك يصبح من العقلانيّة والمنطق الإعتراف للعدوّ بأنّه قد سدّد للمقاومة في لبنان ضرباتٍ موجعة ومؤثرة، مع الإلتفات إلى أنّ إسرائيل “تجهد لجعلنا نخلط بين الإنجازات الأمنية والإستخباريّة التي تُحقّقها، وبين النّصر العسكري والإستراتيجي”، بحسب الكاتب اللبناني عامر محسن. غير أنّ التعامي عن هذه الحقيقة يقود للهزيمة والإنكسار، بينما يُشجع الإعتراف على معالجة الخلل وتصحيحه، والتحوّل من موقع المتلقي إلى موقع المُسدّد، وهذا دأب المقاومة.
إن علامات تحوّل المعركة يُمكن الإضاءة عليها من خلال النقاط التالية:

إقرأ على موقع 180  أسترا زينيكا سقط.. لم يسقط

أولاً؛ إستعادة التفوق الإعلاميّ، حيث أنّ “صاحب الوسيلة الإعلاميّة الأقوى هو الأكثر نجاحًا في عالم اليوم”، كما يقول الإمام الخامنئي، وهذه النقطة تحديدًا هي أخطر تداعيات استشهاد سماحة السيد حسن نصرالله، كما نعتقد، حيث اكتشف العدوّ أثناء حرب ٢٠٠٦ وما بعدها أهميّة الدور الإعلاميّ للسيّد الشهيد، وقدرته الفائقة في التأثير على الداخل الإسرائيلي (كما على شعب المقاومة). وبغياب سماحته بتنا نلحظ تفوق سرديّة العدوّ، إذ أنّه يجهد لإثبات “مصداقيّته”، فكاميرته تتنقّل معه حتى في أبسط التحرّكات و”الفبركات”. بالمقابل، إنّ غياب صورة المقاومة، حتى هذه اللحظة، وسرعتها في تقديم سرديتها للأحداث يجعلها متأخرّةً بخطوةٍ عن إعلام العدو.
ثانياً؛ الخروج من عباءة السيد الشهيد وعدم السماح لصدمة رحيله بالجمود عند مرحلته وشخصه، فالوفاء له ولتاريخه وتضحياته ودمائه، هو بإثبات أنّه كان قائدًا حقيقيًا ترك خلفه عشرات بل مئات القادة، وأنّه لم يترك مجرّد أتباعٍ عاجزين عن سدّ فراغه، وهو أمرٌ تكفّل الله به (مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا ۗ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ، مع الثبات على الأهداف والقيم التي جاهد واستشهد لأجلها.
ثالثاً؛ تسديد ضربات متتالية ومتصاعدة للعدو بهدف إدخال الإحباط واليأس الى قلبه وعقله. فهذه الحرب لن تقف إلّا حين يسيل الدم، وحين يملأ الخوف والرّعب قلوب الصهاينة، فالعالم الغربيّ لا يُقيم وزنًا لكلّ أبناء هذه الأرض، وكلُّ أشلائهم ودمائهم ودموعهم لم تحرّك فيه إحساسًا أو تعاطفًا مع مظلوميتهم. كما أنّ استعادة زمام الأمور ونهوض المقاومة من تحت الرّكام، سيُدخل اليأس إلى قلب العدوّ بعد أنّ توقّع هزيمتها وسحقها.
رابعاً؛ إتساع رقعة الحرب وإدراك جميع عناصر جبهة المقاومة وعلى رأسهم الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأن قرار تصفية الجميع قد اتخذ ولا رجعة عنه (قالها رئيس حكومة العدوّ بنيامين نتنياهو بوضوح وصراحة)، وبالتالي يصبح من المنطقي والأجدى أن تقاتل جبهة المقاومة مجتمعة وفي حربٍ واحدة، بدل أن يقاتل كل عنصر منها بشكل منفرد وأحادي، فيستفرد بها العدوّ ويُوجّه لها الضربات القاسمة.
العودة إلى الجذور
حين تضع أداء وإنجاز مهمتك على أتمّ وجه هدفك الأسمى، فإنّ ذلك يُحرّرك من انشغال ذهنك وتفكيرك بالتصميم على النّصر، ويصبح أداؤك وعقلك وجهدك غير مقيّدٍ بالسعي الدؤوب لتحقيقه، بخاصة حين تكون عقيدتك واضحة بأنّ النصر بيد الله وحده (وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ). فتغدو أقلّ استنزافًا وخوفًا من تبعات الإخفاق هنا أو تفوّق العدوّ هناك.

إن فكرة أداء التّكليف هي الجذور التي انطلقت منها المقاومة الإسلاميّة في لبنان والتي استمدتها من نهج روح الله الخمينيّ، الذي سنّ وثبّت أولوية أداء التكليف حيث اعتبر أنّنا “كلّنا مأمورون بأداء التكليف والواجب، ولسنا مأمورين بتحقيق النتائج”.
هذا الأمر يُحوّلك في الواقع إلى مقاوم متحررٍ من الخوف ومندفعٍ نحو هدف أسمى يتفوّق ويرتفع عن النصر، وبالتالي يُصبح النصر أقلّ توقعاتك وأدناها، وتصبح ضربات العدو مدعاة للتحفيز والعناد والتشوق للثبات والمقاومة، “إنّ الله معكم، وبأدائكم لواجبكم فإنّه سيُسدّد خطاكم”، كما يقول الإمام الخمينيّ.
إنّ العودة إلى الجذور بشكلها الرمزيّ أيضًا، تعني تمدّدك وتعمّقك في الأرض أكثر بين ناسك وأهلك وبيئتك، “هل يمكن إزالة هذا الوجود؟ إنّه وجودٌ له جذورٌ مهمّة وعميقة داخل هذا المجتمع، لا يمكن إنهاؤه! هذه مسألةٌ محسومة”، كما يؤكد “قائد الإنتصارين” الشهيد عماد مغنيّة، حيث تصبح شديد الرّسوخ والثبات، وبالتالي مهما قُطع من أفناد هذه الشجرة وغصونها، حتى لو قُصّ جذعها فرضًا، فإنّ الحياة المخبوءة بين شرايين الجذور قادرةٌ على بعث الحياة من جديد. أضف أنّ أشدّ ما يُهدّد البناء (العدوّ) اللصيق بالشجرة، ويُعرّضه للخراب هو الجذور لا الأغصان والأفناد. الجذور أكثر قوّة من أي بناء مهما كان قويًا وصلبًا ومتينًا، وعامل الزمن غالبًا جدًا ما يكون لمصلحتها على حساب البناء المستجدّ والطارىء.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
free online course
إقرأ على موقع 180  "نفسٌ" فرنسي لمائة فنان لبناني دعماً لنشاطهم الإبداعي