تود إسرائيل بالطبع أن توظف استراتيجية وحدة الساحات عند أعدائها لتحقيق أهدافها المرتفعة أيضًا من خلال تدمير البشر والحجر ومحاولة التخلص كلياً، برغم استحالة ذلك، من المقاومة فى لبنان مع ما تحمله من تداعيات إيجابية على إسرائيل على الصعيد الاستراتيجى فى الإقليم. فالحرب على الجبهة اللبنانية تمتد عمليًا من لبنان إلى الخليج إلى البحر الأحمر، وتحديدًا من بيروت إلى دمشق والمدن السورية الأخرى كما نشهد كل يوم، إلى بغداد وطهران، كما نسمع من تهديدات كل يوم. إنها حرب مفتوحة كما نذكر دائمًا فى المكان والزمان.
الحديث فى لبنان عن سلة حلول تشمل وقف الحرب وانتخاب رئيس وإعادة إحياء المؤسسات الدستورية من حكومة وغيرها تذهب عمليًا نحو البدء بالحديث عن وقف الحرب. وقف مؤقت فى البداية، كما أشارت إليه الورقة الأمريكية الفرنسية العربية مع دول أخرى. إسرائيل مستمرة فى رفضها وقف القتال محاولة إنجاز ما يمكن إنجازه من مكاسب على الأرض، وهى لا تستطيع أن تحقق من «إنجازات» إلا المزيد من القتل والدمار فى هذا الخصوص. عملياً، تحاول إسرائيل الاستفادة من الزمن المتبقى للانتخابات الرئاسية الأمريكية وتراهن على «الصديق ترامب» صاحب الهدايا من «كيس» فلسطين وسوريا، حتى يعود إلى السلطة ويطلق يد إسرائيل بشكل أفضل فيما يتعلق بشكل خاص فى استراتيجية المواجهة مع إيران وحلفائها.
اليوم هنالك مسئولية لبنانية تطال كل المكونات الرئيسية، للبحث فى صيغة عملية جديدة تحصل على الدعم الدولى والأممى لتحقيق الهدوء الفعلى والثابت فى الجنوب (جنوب الليطانى) حتى الخط الأزرق والعمل على تثبيت الحدود الدولية للبنان، وهى الحدود التى تقوم أساسًا على خط الهدنة
غير أن الجديد اليوم هو أن إسرائيل صارت تستهدف كرسالة واضحة قوات اليونيفيل لإخراجها من جنوب لبنان مما يسمح لها بالتحرك بشكل أفضل فى المسرح القتالى اللبنانى. إنها رسالة أيضًا إلى جانب رسائل رفض وقف إطلاق النار من قبل إسرائيل. رسائل تقول إن الحرب مستمرة إلى أن تحقق إسرائيل أهدافها من إقامة منطقة آمنة حسب مفهومها للأمن فى جنوب الليطانى، وربط عودة المهجرين اللبنانيين بعودة مواطنيها إلى شمال إسرائيل بشروطها أيضًا.
الرسالة الإسرائيلية قوامها عدم العودة إلى الترتيبات التى كانت تنظم وجود اليونيفيل فى جنوب لبنان تحت عنوان ما كان متفقاً على تسميته بالتنفيذ التدريجى للقرار ١٧٠١. تنفيذ يقوم منذ ٢٠٠٦ على قواعد اشتباك تبلورت على أساس تفاهمات تكرست مع الوقت تدريجيًا.
على الصعيد اللبنانى، هنالك حالة، برغم الخطاب المرتفع هنا وهناك، من الانتظار لتنتظم الأمور فى واشنطن للتفرغ كما يحلو للبعض أن يتصور أو يحلم بالملف اللبنانى. بدأ الحديث عن انتظار تفاهم يسمى اختصارًا بتفاهم «ألف ألف» أو تفاهم أمريكى إيرانى يذكر بتفاهمات ماضية بين القوى الفاعلة حينذاك، حول قضايا إقليمية مختلفة. تفاهم يشكل الأرضية للتسوية السياسية فى لبنان. بالطبع كل طرف ينتظر أن يعكس التفاهم المطلوب توازن القوى فى لحظة حدوثه لمصلحة هذا الطرف أو ذاك، والكل يحاول أن يُحسّن وضعه على الأرض فى لبنان أو فى الخارج. إنه نوعٌ من القدرية السياسية فى لبنان كرّستها العديد من تجارب الماضى. يتغير اللاعبون ولا تتغير قواعد اللعبة. إنه نوع من شراء الوقت يقوم على تسويات مؤقتة هشة تسقط عند أول تغيير فى موازين القوى يشعر به أحد أطراف اللعبة أنه لصالحه: تسويات مؤقتة لا تصلح لوقف النزيف الذى يعانى منه لبنان على كل الأصعدة؛ من دولة مؤسسات معطلة أو مشلولة أو مغيبة إلى انقسامات مجتمعية حادة مهما حاول البعض تغطيتها، إلى أزمات بنيوية مالية اقتصادية وسياسية حادة تزداد سوءًا كل يوم. أضف إلى ذلك وجود أكثر من مليون نازح عددهم بتزايد كل يوم، وهنالك حاجة وضرورة وطنية وأخلاقية لتوفير كل أنواع المساعدات لهم.
الحديث عن العودة إلى الوضع الذى كان قائمًا من قبل صار فى شبه استحالة كما يذكر أكثر من مسئول أممى ودولى من دون أن يعنى ذلك بالطبع القبول بالشروط الإسرائيلية علمًا بأن إسرائيل كانت تخرق عناصر القرار ١٧٠١ بشكل مستمر. اليوم هنالك مسئولية لبنانية تطال كل المكونات الرئيسية، للبحث فى صيغة عملية جديدة تحصل على الدعم الدولى والأممى لتحقيق الهدوء الفعلى والثابت فى الجنوب (جنوب الليطانى) حتى الخط الأزرق والعمل على تثبيت الحدود الدولية للبنان، وهى الحدود التى تقوم أساسًا على خط الهدنة. يأتى ذلك بالطبع تدريجيًا فى مرحلة لاحقة.
استراتيجية توفير الأمن والاستقرار فى الجنوب اللبنانى ليعود أبناؤه إليه مسئولية لبنانية تستدعى التفاهم الفعلى بين المكونات السياسية كما أشرنا. تفاهم يجب أن يكون عنوانه الإسراع، ولا نقول التسرع فى بلورة استراتيجية دفاعية، مستفيدين من دروس الماضى، قوامه أن قرار الحرب والسلم، كما ذكرنا دائمًا وقرار إعمال الردع والإكراه فى مواجهة العدو الإسرائيلى هو مسئولية السلطة السياسية اللبنانية.
وللتذكير فإن كل القوى السياسية وفى طليعتها قوى المقاومة تشارك فى هذه السلطة، وبالتالى فى اتخاذ القرار المناسب فى الوقت المناسب. إنها مسئولية ليست بالسهلة خصوصاً فى خضم حرب التدمير والإبادة التى تقوم بها إسرائيل ضد لبنان. لكنها ضرورة حتى نرتقى إلى مستوى بناء دولة المؤسسات والقرار الوطنى الموحد كفعل وليس كشعار فولكلورى، فى كل مجالات الحياة الوطنية: فإصلاح لبنان مجتمعًا ودولة ومؤسسات فعل مقاوم ليس من السهل القيام به لكنه ضرورىٌ من أجل بناء وطن لجميع أبنائه، أيًا كانت انتماءاتهم السياسية أو العقائدية.
(*) بالتزامن مع “الشروق“