الحدثان اللبناني والسوري.. وتحدي إعادة بناء الدولة

تستبطن فرحة اللبنانيين الناقصة باتفاق وقف الأعمال العسكرية بين لبنان واسرائيل في السابع والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر الماضي وأفراح السوريين بسقوط نظام حزب البعث في الثامن من كانون الأول/ديسمبر الحالي هدفاً مُعلنا، حيناً، وكامناً، حيناً آخر هو الاستبشار بإعادة بناء الدولة في البلدين.

السؤال هل هذا الاستبشار في محله وهل هذه العودة للدولة في البلدين ممكنة وكيف؟

في لبنان، إذا تجاوب حزب الله وفكّك بنيته العسكرية وتخلى عن سلاحه، فسيعود، وربما بشكل أشد، قوة طائفية وازنة، له حضوره في إطار قوى طائفية متفاوتة القوة، وسيعود الاشتغال الطائفي في مؤسسات الدولة تبعاً للقوانين المرعية، وبخاصة أن تردي اشتغالها في نصف القرن الماضي، كرّس تزايد نفوذ بعض القوى الطائفية، واقعياً، من جهة؛ وأدى، مع أسباب أخرى، إلى انكفاء القوى غير الطائفية، قومية ويسارية وديموقراطية من جهة أخرى. ولن يتجاوز اعادة الاشتغال هذا حدود اتفاق الطائف، لغياب القوى التي يُمكن أن تكون مهماز تطوره نحو دولة السيادة وحكم القانون، لكن إيجابيته تكمن في العودة إلى الحد الأدنى من انتظام عمل المؤسسات وتطبيق القانون، على علاته، وهو هدف يستحق العمل من أجله وصولاً إلى إعادة بناء الدولة في لبنان.

ويُضاف إلى ذلك، أنّ من دفع لفرض اتفاق وقف النار ومن يرعى تنفيذه هي قوى خارجية (الولايات المتحدة وفرنسا) مُهدّدة باستمرار لسيادة الدولة، من خلال مسؤوليتها عن العنف الذي ما زال مستمراً، بشكل أو بآخر، برغم الاتفاق، فضلاً عن الشركات التي ستستثمر، بإجحاف، ما تبقى من مواردنا.

وماذا عن سوريا؟

إذا سلمت القوى ذات الكيانات في سوريا بالإنضواء في حركة التغيير التي حصلت، فالسؤال الملح بعد سكرة الأفراح، كيف ستُدار سوريا، وفي البال لمن يفترض أن يكتب في السياسة ويعمل فيها أن السياسة صراعٌ قوى ذات مصالح في حقل سياسي محدد، هو دولة، تُرعى في الزمن الراهن بدول وشركات ذات مصالح، أيضاً. فما هو الحقل السياسي السوري في هذه اللحظة التاريخية وما هي قواه؟

مع التقدير لحسن قول الحكام الجدد، فإنّ الحقل السياسي السوري في السنوات العشر الأخيرة ليس واحداً، فلا سلطة واحدة تحكمه ولا قانون محدداً يُستعان به ولا دستور محدداً يُحتكم إليه ولا سيادة تستظله؛ لا بل يُمكن القول لا معايير واحدة تُنظّم العلاقات المجتمعية فيه. فالواضح تشكل كيانات، طائفية وإثنية، تحمل مثالات جماعاتها، وبعضها شكّل كياناً حقوقياً وكلها احتكمت إلى العرف أكثر من القانون.

والقوى السياسية التي عُرفت، تاريخياً، في سوريا: حزبا البعث والشيوعي، تفككت وهزلت، لأسباب عديدة بعضها السلطة، تطلباً من جهة وتدخلاً قمعياً من جهة ثانية وموقفاً منها من جهة ثالثة، وانضوت مكوناتها في المعارضة الديموقراطية، بعد “ربيع دمشق” وتشردت بعده.

والقوى الإسلامية النابتة على جذر تنظيم “الإخوان المسلمين” المقموع في كل العهود السابقة تعدّدت مشاربها بعد “ربيع دمشق” ونحت في غالبيتها الساحقة بإتجاه العمل العنفي وكان رديفها الاخواني في تركيا، ملجأً ومُوجهاً.

والقوى الكردية المتباينة بين يسار ويمين، تاريخياً، استغلت حضور الحكم الكردي في الشمال العراقي واستفادت من الأعمال العنفية بين المعارضة والسلطة لتُثبّت، مجتمعة، كياناً حقوقياً.

أما الحزب الحاكم، فكان الأقوى والمُمسك بمفاصل الدولة، ولو شكلياً، في بعض المواقع، وهو، وإن خفّ وهج بعثية أعضائه وتنامي الولاء والمصلحة بين صفوفه، فإنه بقي فاعلاً في الحقل السياسي.

إذا سلمت القوى ذات الكيانات في سوريا بالإنضواء في حركة التغيير التي حصلت، فالسؤال الملح بعد سكرة الأفراح، كيف ستُدار سوريا، وفي البال لمن يفترض أن يكتب في السياسة ويعمل فيها أن السياسة صراعٌ قوى ذات مصالح في حقل سياسي محدد، هو دولة، تُرعى في الزمن الراهن بدول وشركات ذات مصالح، أيضاً. فما هو الحقل السياسي السوري في هذه اللحظة التاريخية؟

وهكذا يبدو المشهد السياسي في لحظة “سوريا الجديدة” محكوماً بغلبة من قام بذلك، وهي القوى الإسلامية مع حصانات للقوى الإثنية والطائفية، وتشرد للمعارضة الديموقرطية، وهو تشردٌ جغرافيٌ وثقافيٌ وتنظيميٌ، برغم ما نفترضه بأن المناخ الشعبي ميّال لثقافتها بحكم التطور الذي عرفته سوريا والتوجه الرأسمالي المعاصر نحو الديموقرطية والليبرالية.

واسترجاع حكم القانون والسيادة الذي يُفترض أن يكون أول مهام الحكام الجدُد، لكنّ هذه المهمة مرهونة بطبيعة الصراع بين القوى الداخلية التي ذكرنا، والغلبة فيها للإسلامية، والقوى الخارجية الفاعلة، وبعضها يرعى السلطة، مادياً ومعنوياً، وبعضها الآخر يزيد في عربدته وعدوانه على المواقع السورية.

ويحضرني في الحديث عن استلام السلطة الراهن ما حدث بعد آذار(مارس) من العام 1963 في سوريا نفسها، وقد حمل الانقلابيون الفكر القومي (بعثيون وناصريون وقوميون عرب) لكن لم يمضِ أكثر من أربعة أشهر حتى أُخرِج الناصريون والقوميون العرب (18 تموز/يوليو) ولم تمضِ ثلاث سنوات حتى أخرج العسكريون البعثيون رفاقهم المدنيين (23 شباط/فبراير) ولم تمضِ أربعة أشهر أخرى حتى أخرج حافظ الأسد من نحّا من العسكريين باتجاه تغليب الحزب، لا العسكر.

إقرأ على موقع 180  السؤال الإيراني الكبير.. إحتواء أم كسر عظم؟

ويحضرني، أيضاً، في المرحلة نفسها شعار محاسبة الإنفصاليين، وهم المنقلب عليهم، والذي تحول محاسبةً لكل معارض حتى ولو كان من الحزب الحاكم نفسه.

فالصراع على السلطة سمة من سمات الاجتماع السياسي ولعل العاصم من تفلته وعنفيته هو الالتزام بالقانون، وأرقى اشكاله هو الدستور وسيادة الدولة ووحدتها. وتوحي تصريحات القيمين المحليين والرعاة الإقليميين الالتزام بذلك، لكن ثمة موقفين يبعثان على القلق:

  1. اعلان أحمد الشرع معاقبة المرتكبين للجرائم في عهد آل الأسد، وكان الأصح والأسلم ضمن منطق استعادة بناء الدولة القول بتقديمهم للمحاكمة وترك القضاء يأخذ مجراه.
  2. عدم اعلان الحُكّام الجدد ورعاتهم الإقليميين موقفاً مُحدّداً من العربدة الاسرئيلية بشن مئات الغارات الإسرائيلية على مواقع عسكرية وصناعية وعلمية، وكانت النتيجة إعادة سوريا عشرات السنوات إلى الوراء.

وعليه يفتقد المشهد السياسي الإقليمي، بعد الحدثين اللبناني والسوري، حضور القوى العابرة للطوائف والإثنيات، قومية وتقدمية وديموقراطية، وقد يكون إستنهاضها هو المدخل الأسلم لاستعادة بناء الدولة في البلدين، وأكاد أقول في المجال العربي كله.

Print Friendly, PDF & Email
فارس اشتي

أستاذ جامعي متقاعد، لبنان

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  رحيل جورج شكّور.. بك لغة الضاد تتباهى