إيّاكَ والحرية مع الممالك والإمارات والثكنات.. والتدينات!

خلص. مائة عام من الخيبات والخسائر. هذه البلاد مصابة بوباء الاستبداد. حاضرة دائماً للفتك. أهداها الغرب وباءً صهيونياً. نصحنا مراراً بالاستسلام: "من حق إسرائيل المطلق أن تكون بديلاً عن فلسطين".

مائة عام، والصهيونية تغرز أسلحتها بأجسادنا. مائة عام، وهي تُسجّل “الانتصارات” بهمجية تُقلّد فيها “الهولوكوست”. قراراتها مصانة ومدعومة. هي أصلاً، جيش له دولة. عسكر متعدد اللهجات حريص على “وعد بلفور”. أتقنت القيادات الصهيونية كيف تربح، وكيف تحافظ على ما ربحته، وكيف تشن حروباً من أجل المزيد كذلك: “إسرائيل الكبرى” التامة والناجزة.

هدف “إسرائيل” أن تكون الدولة لشعبها. أما الفلسطيني، فليذهب إلى الشتات.. وليتعلم العرب إتقان الخسائر. أصرت القيادات الصهيونية، برمتها، برغم الاختلاف الطبيعي في وجهات نظرها، على أن تكون “إسرائيل”، دولة ديموقراطية، وأنها تُطمئّن شعبها وتَطمئن عليه. الصهيوني في فلسطين يعرف أنّه جندي من أجل إقامة “معجزة إسرائيل”، بدعم دولي وتراخ عربي.

إذاً، تزودت “إسرائيل” بقوة شعبها. ثم، اتكأت على عمودها الفقري التام؛ جيش بكامل مواصفات القوة. إذاً، شعب تام الولاء والتجند، وجيش متفوق، وبرنامج توسع وتفوق، بحجة توراتية. الإيمان أشد صلابة من السلاح أحياناً. فكيف إذا تلاحما.

“إسرائيل” التي تعرفونها، لم تخسر حرباً أبداً.. الجيش دعامة. التسلح واجب. امتلاك السلاح النووي لا نقاش فيه. غزو البلاد العربية له وسائل عديدة: إما تركيعها حرباً وإما تهديداً وإما طاعة.

و”إسرائيل” ـ يا أصدقائي ـ دولة مؤسسات. ديموقراطيتها على “البكلي”. لا أحد يتجرأ على الديموقراطية. المحاسبة تامة. سِيقَ عدد كبير من الوزراء ورؤساء الوزراء فيها إلى السجن، بمن فيهم “بناة إسرائيل” و”قادة إسرائيل”. ديموقراطيتها لا تمس. انتخابات بعدها انتخابات. حريات مصانة جداً، ولا أحد يجرؤ على المساس بها. طبعاً، الفلسطيني فيها عبء عليها، ولا توفر له “مواطنية” متساوية.

“إسرائيل الصغرى” هذه، تمكنت من توسيع دائرة نفوذها وتحقيق مخالفات صارمة مع الغرب. بلغت مرحلة “التصادق” والتفاهم والانسجام والتعاون والتحالف، مع دول “عربية” سابقاً، ذات كثافات سكانية ومالية مهدورة.

“إسرائيل”، على المسرح الدولي، دولة عظمى، عمرها أقل من قرن، واليهود فيها قدموا إليها من كافة أصقاع الدنيا. عملت الصهيونية، على أن تكون قوة قوية أبعد من الإقليمية. إنها موجودة بجدارة في الغرب. سمعتها الإجرامية لم تصل بعد إلى “الضمير” السياسي الغربي. الإعلام معها. المصارف لها. المساعدات من أجلها. حمايتها موجبة وملزمة. إنها دولة ممتازة عند الغرب، فلا تصيبوها بشتيمة، وإلا شهر الغرب سلاح اللاسامية.

“إسرائيل” دولة تصدق وتكذب. تفي وتخون. تُحاسِب ولا أحد يحاسبها. تُحارب وتُريد من حلفائها أن يكونوا معها، كماً ونوعاً وتسلحاً وذخيرةً.

ماذا لو كانت “إسرائيل” هذه، العظمى راهناً، تشبه الكيانات العربية، على امتداد قرن؟ الجواب مستحيل. “إسرائيل” لا تشبه أحداً، هي واحد أحد. تقريباً كما يقال عن الله في الكتب المقدسة.

***

أسرد هذا بسرعة لأصل إلى ما يلي: “إسرائيل” هي الدولة الديموقراطية الوحيدة، في الشرق الأوسط، وهي الدولة الوحيدة التي فازت على جيوش عربية (هل هي جيوش حقاً؟) ست مرات. اجتاحت، ضمّت، دمّرت، استعمرت، واجهت. ومؤخراً، شنّت حرباً تاسعة على غزة، الضفة الغربية لبنان، سوريا، العراق، اليمن وإيران. واحتلت مساحات شاسعة.. والعرب على منوالهم. يُتقنون “إنجاز” الخسائر بسرعة خاطفة.

“إسرائيل” الكبرى، هي في طريقها لتصبح القوة الآمرة والناهية. الغريب، أن المشروع الصهيوني، هو مشروع دولة لليهود. واليهود كانوا منتشرين في البلاد العربية. عاشوا في ظل الحضارة الإسلامية، وكانوا مساهمين في نشر الحضارة والفكر وممارسة التجارة من قندهار إلى طنجة. ومعروف أن الإسلام لم يفرض نفسه على الديانات التوحيدية: المسيحية واليهودية. العصر الذهبي لليهود كان في البلاد العربية، وفي فضاء إسلامي شاسع، من المحيط إلى إسبانيا.

هذا ليس مجرد حشو. الغرب ظلم وطارد وقتل وسحل وأحرق اليهود، بكل “شرعية” أنجبتها الكثلكة في الغرب.

***

لنعد إلى سياق المرحلة الأخيرة، أي منذ مائة عام تقريباً. ماذا نجد في المقابل؟

هل الدول العربية، منذ ما يقارب الـ75 عاماً، كانت مُجهزة بشعوبها أم كانت تُجهز على شعوبها؟ الدول العربية، منذ البدايات الحديثة، كانت تركب على شعوبها. جعلتهم مطايا. الكيانات ليست أوطاناً. كانت معتقلات ولا تزال. المواطن عيب. المواطن عليه أن يكون “مواطف”. أي مقيم في طائفته أو ملته أو مذهبه. الغرب فاز عندما طرد الدين من السياسة ومنع الدين كلياً من التدخل في السياسة.

بلادنا، في معظمها، بدأت علمانية نسبياً، ثم حذفت العلمانية والمواطن، وساد عصر “التفتيش” و”الرعب” و”الظلم”. تحوّلت أنظمة الكيانات العربية إلى ديكتاتوريات عسكرية، ثم لمّا فشلت ثم فشلت ولم تنجز غير الفشل، قرّرت أن تخرج من خريطة الشرق إلى ظلامية العصور الوسطى.

نحن، أيها الإنسان العربي، جيل نكبات عربية، وليس فقط نكبات “إسرائيلية”. ليس في هذا السجن العربي الكبير، أي ظل للحرية. الحرية هي الخطر الأكبر والأعظم. هذه غير مسموح لها أن تتنفس. الكتابة منها وفيها ارتكاب ضد ألوهية السلطات العربية.

إقرأ على موقع 180  بايدن وأولوياته الشرق أوسطية: لبنان ليس على لائحته!

وعليه؛ المدى “العربي” ليس فيه دولة بالمعنى الحديث. الرؤساء خالدون إلى يوم يقتلون. الجيوش، مكانك راوح. إياك والحرب: ستخسر منذ الطلقة الأولى.

أولى الحروب: حرب الخسارة الأولى: عندما أعلنت الصهيونية دولتها في أرض فلسطين. وبعد أعوام، استحوذت على القنبلة الذرية. “إسرائيل” لم تكن وحيدة. قادتها الأشدّاء عرفوا أن الغرب (الذي طاردهم وأحرقهم) هو العدو المفيد لهم. تصالحوا مع قتلتهم، وشنّوا حروبهم، ضد شعب، كانوا فيه ومعه تاريخياً.

***

لنعد إلى لب المأساة. الحرب الثانية، بقيادة “إسرائيل”، حصلت بعد سبعة أعوام على قيام الدولة. عدوان على قناة السويس، بقيادة “إسرائيل” وبمعية فرنسا وبريطانيا.

خلص: هنا، الأمر لي.

ثم كان جمال عبد الناصر. فتح جبهاته على كل الجبهات. يخطب ويجيد. يثير الحماسة بكلام صادق وحقيقي. إيمانه بالقضية مبرم. عداءه لإسرائيل لا يحتاج إلى برهان.. وكان أن تسرَّع بشن حرب على “إسرائيل”، ومعه سوريا الإنقلابية، والأردن الملكي، والعراق كذلك. يا حرام. في خلال ثلاثة أيام، دمّرت “إسرائيل” الجيش المصري وطيرانه. في اليوم الأول. احتلت الجولان. قضمت الضفة الغربية. انسحقت الجيوش وتحطمت.

الخلاصة: اللغة التي استعملت في هذه الكارثة، التي تحققت خلال ثلاثة أيام، هي النكسة.

نكسة؟ كلمة مهضومة، مريحة، وإن لم تكن غير مقنعة. باختصار، بادرت “إسرائيل” إلى شن هجوم أينما كان. دخلت لبنان وأقامت فيه لأكثر من عقدين من الزمن ونصّبت رئيساً للجمهورية إلى آخر تراجيديا العربية واللبنانية.

نختصر عبر أسئلة سريعة؟

هل لـ”إسرائيل” شعب فيها ومنها ويحميها؟ الجواب بالفم الملآن: طبعاً.

هل لإسرائيل حلفاء أشداء؟ طبعاً. وسلاحها موفور. ثمنه مؤجل.

وماذا عن جيوش الدول العربية؟ وظيفتها حماية السلطان من شعبه.

***

نحن النقيض التام لـ”إسرائيل”. هي دولة كاملة المواصفات. ديموقراطية حاسمة. حريات وافرة. علاقات سياسية وطيدة بالغرب. جامعات منتجة. أبحاث علمية. علوم وافرة. قضاء مستقل. (إلا مع العرب) هي دولة منافسة. في موازاة ذلك، عندنا أمر واحد علينا أن نطيعه: إلزم الصمت. الحرية ممنوعة. النقد إياك. الصمت سياسة حكيمة. الكذب مرتعه غير وخيم.

ويضاف: كيف تكون هذه الكيانات العربية مع فلسطين، وهي ضد شعبها؟ وأتجرأ: الفلسطيني تحت الاحتلال، يمتلك من الحرية المسموح بها، أكثر من كل الكيانات العربية بما فيها سلطة “أبو مازن”… إياك والحرية، مع الممالك والإمارات والثكنات والتدينات.

يبقى أن نعزل لبنان عن المجموعة العربية. الحرية في لبنان مصانة. ولكنها حريات مدمرة. ولى زمن الأحزاب العقائدية والتيارات الفكرية. الطائفيات متوجة في لبنان. فوداعاً للحرية. وداعاً للوطنية.

الحقبات السياسية متبدلة ومتناوبة. مرة مارونية، مرة سنية وأخيراً شيعية.

يا عالم.. يا هو!

دلّونا على مرة واحدة، ربحنا فيها على “إسرائيل”، وربحت شعوبنا، النذر اليسير من حرية المساءلة والـ…

“إسرائيل” استحقت فوزها منذ ثلاثة أرباع قرن. والعرب، استحقوا ما آلت إليه أمورهم.

الله يرحمنا وحسبي الله ونعم الوكيل!

Print Friendly, PDF & Email
نصري الصايغ

مثقف وكاتب لبناني

Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  مسؤولية النزوح السوري.. قصة إبريق الزيت!